الأحكام السلطانية للماوردي - (2) بيان حكم الخلافة
لقد أثبت التاريخ أنَّ أهل التقوى هم أقدر الناس على نفع الرعية وخيرها، كما أثبت أنَّ طلاب السلطة من أهل الدنيا هم أقل الناس قدرة على هذا، بل هم دائمًا سبب شقاء العباد وفساد البلاد.
فَصْلٌ: "فِي بَيَانِ حُكْمِ الخِلَافَةِ"
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْإِمَامَةِ فَفَرْضُهَا عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ، فَإِذَا قَامَ بِهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا سَقَطَ فَرْضُهَا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهَا أَحَدٌ خَرَجَ مِنَ النَّاسِ فَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَهْلُ الِاخْتِيَارِ حَتَّى يَخْتَارُوا إمَامًا لِلْأُمَّةِ[1].
وَالثَّانِي: أَهْلُ الْإِمَامَةِ حَتَّى يَنْتَصِبَ أَحَدُهُمْ لِلْإِمَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْأُمَّةِ فِي تَأْخِيرِ الْإِمَامَةِ حَرَجٌ وَلَا مَأْثَمٌ، وَإِذَا تَمَيَّزَ هَذَانِ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْأُمَّةِ فِي فَرْضِ الْإِمَامَةِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ.
فَأَمَّا أَهْلُ الِاخْتِيَارِ فَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِيهِمْ ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: الْعَدَالَةُ الْجَامِعَةُ لِشُرُوطِهَا[2]
وَالثَّانِي: الْعِلْمُ[3] الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامَةَ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا.
وَالثَّالِثُ: الرَّأْيُ وَالْحِكْمَةُ[4] الْمُؤَدِّيَانِ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ هُوَ لِلْإِمَامَةِ أَصْلَحُ، وَبِتَدْبِيرِ الْمَصَالِحِ أَقْوَمُ وَأَعْرَفُ، وَلَيْسَ لِمَنْ كَانَ فِي بَلَدِ الْإِمَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ فَضْلُ مَزِيَّةٍ تَقَدَّمَ بِهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَنْ يَحْضُرُ بِبَلَدِ الْإِمَامِ مُتَوَلِّيًا لِعَقْدِ الْإِمَامَةِ عُرْفًا لَا شَرْعًا؛ لِسُبُوقِ عِلْمِهِمْ بِمَوْتِهِ، وَلِأَنَّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ فِي الْأَغْلَبِ مَوْجُودُونَ فِي بَلَدِهِ.
_________
(1) وهذا كما حدث بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2) أقول: فالعدالة أمر مهم لا بُدَّ أن يتوافَر في أهل الشورى، حتى يؤتَمَنوا على مصالح المسلمين فضلًا على الإسلام، ولكن ما العدالة؟ يقول الأستاذ عبد القادر عودة في تحديد مفهومها: "والعدالة هي التحلِّي بالفرائض والفضائل، والتخلِّي عن المعاصي والرذائل، وعمَّا يخِلُّ بالمروءة أيضًا".
فالعدالة في مجملها: هي الاستقامة الدينية التي تجعل صاحبها ملتزمًا بما يمليه عليه دينه في كل شيء؛ أقواله وأفعاله واعتقاده، فهي بمعنًى آخر: التقوى والورع.
فإذا تحققت هذه العدالة في أيِّ إنسان فإنّها ستحيط جميع أقواله وأفعاله بسياج من الطهارة والوضوح، فيلتزم بما يمليه عليه ضميره الديني ووَرَعَه وتقاه.
لذلك كان شرط العدالة مُهِمًّا في كلِّ مَنْ يُخْتَار ليكون من أهل الحلِّ والعقدِ، بل وهو مهم في كل فردٍ حتى يكون صالحًا نافعًا لدينه ولوطنه.
لقد أثبت التاريخ أنَّ أهل التقوى هم أقدر الناس على نفع الرعية وخيرها، كما أثبت أنَّ طلاب السلطة من أهل الدنيا هم أقل الناس قدرة على هذا، بل هم دائمًا سبب شقاء العباد وفساد البلاد.
لذلك فلا ينبغي أن يكون من بين أهل الشورى مَنْ يَقْدَح في ذمته أو من يستبيح الكذب وخداع الناس!
(3) قلت: فرق كبير بين من يحكم على الأمور من خلال ميوله وانطباعاته الشخصية، أو متأثرًا بما يسمع ويرى، وبين من يحكم عليها من منطلق علمه بها وفهمه لها.
فذلك الذي يحكم بميوله دون علمٍ يسهل التغرير به وإيقاعه في الخطأ، فيكون حكمه على الأمور بعيدًا عن الصواب كثيرًا.
فالشورى لا بُدَّ لمن يتصدَّى لها أن يكون من أهل العلم بالأحكام الشرعية والفقهية؛ بحيث يعرف الحلال من الحرام، ويمتلك أدوات الاجتهاد من قياسٍ واستنباطٍ ومراعاة لمصالح الأمة.... إلخ، أو على الأقلِّ يمتلك معظم هذه الأدوات.
"والعلم المقصود هو العلم بمعناه الواسع، فيدخل فيه علم الدين وعلم السياسة وغيرهما من العلوم، ولا يشترط أن يكون العالم منهم ملمًّا بكلِّ العلوم، بل يكفي أن يكون ملمًّا بفرعٍ من العلوم كالهندسة أو الطبِّ أو غير ذلك، وليس من الضروري أن يكون العلماء جميعًا مجتهدين، فيكفي أن يتوفَّر الاجتهاد في مجموعهم لا في كلِّ فرد منهم".
(4) قلت: ويراد بهذا الشرط الحكمة والعقل الراجح الذي يمكِّنُ صاحبه من اختيار الرأي الأصوب، ويساعده على الترجيح بين الأمور؛ فلأنهم هم أهل الرأي وهم المستشارون في كل كبيرة وصغيرة، لا بُدَّ أن يكونوا من أصحاب الرأي السديد والقول الصائب، الذين يزنون الأمور بميزان العقل والحكمة، بعيدين عن الاندفاع.
"ويشترط فيمن يصلح للشورى أن يكون مِمَّنْ عُرِفَ بجودة الرأي والحكمة، ولا يشترط فيه أن يكون من ذوي العصبية؛ لأن أساس الشورى هو الرأي الصحيح الحكيم المتفق مع الشرع المجرَّد من الهوى والعصبية".
وقيل: "إذا كنت مستشيرًا فتوخَّ ذا الرأي والنصيحة، فإنه لا يكتفي برأي من لا ينصح، ولا نصيحة من لا رأي له".
وهذه الشروط التي استنبطناها من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنته الفعلية، وسيرة الخلفاء الراشدين من بعده، هي في مجملها الشروط التي يراها كثير من علماء الإسلام وفقهائه قديمًا وحديثًا.
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: