(8) في تعدِّي عهد الخليفة إلى من بعده
أيها الناس، إني لست بفارضٍ ولكني منفذ، ولست بمبتدع، ولكني متَّبِع، وإنَّ من حولكم من الأمصار والمدن إن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم أبوا فلست لكم بوالٍ
- التصنيفات: السياسة الشرعية -
فصل: "في تعدِّي عهد الخليفة إلى من بعده"
وَلَوْ عَهِدَ الْخَلِيفَةُ إلَى اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَرَتَّبَ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: بَعْدِي فُلَانٌ، فَإِنْ مَاتَ فَالْخَلِيفَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ فُلَانٌ، فَإِنْ مَاتَ فَالْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ فُلَانٌ جَازَ وَكَانَتْ الْخِلَافَةُ مُتَنَقِّلَةً إلَى الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا رَتَّبَهَا، فَقَدْ اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَيْشِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَقَالَ: «
» فَتَقَدَّمَ زَيْدٌ فَقُتِلَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ وَتَقَدَّمَ فَقُتِلَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَتَقَدَّمَ فَقُتِلَ، فَاخْتَارَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ"[1].وَإِذْ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي الْإِمَارَةِ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْخِلَافَةِ، فَإِنْ قِيلَ: هِيَ عَقْدُ وِلَايَةٍ عَلَى صِفَةٍ وَشَرْطٍ وَالْوِلَايَاتُ لَا يَقِفُ عَقْدُهَا عَلَى الشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ، قِيلَ: هَذَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَّسِعُ حُكْمُهَا عَلَى أَحْكَامِ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ، فَقَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ فِي الدَّوْلَتَيْنِ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ، هَذَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَهِدَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثُمَّ بَعْدَهُ إلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ[2].
وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ سُلَيْمَانُ حُجَّةً، فَإِقْرَارُ مَنْ عَاصَرَهُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَمَنْ لَا يَخَافُونَ فِي الْحَقِّ لَوْمَةَ لَائِمٍ هُوَ الْحُجَّةُ، وَقَدْ رَتَّبَهَا الرَّشِيدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِيهِ؛ فِي الْأَمِينِ ثُمَّ الْمَأْمُونِ ثُمَّ الْمُؤْتَمَنِ، عَنْ مَشُورَةِ مَنْ عَاصَرَهُ مِنْ فُضَلَاءِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِذَا عَهِدَ الْخَلِيفَةُ إلَى ثَلَاثَةٍ رَتَّبَ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ وَمَاتَ وَالثَّلَاثَةُ أَحْيَاءُ، كَانَتِ الْخِلَافَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِلْأَوَّلِ؛ وَلَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ فِي حَيَاةِ الْخَلِيفَةِ كَانَتِ الْخِلَافَةُ بَعْدَهُ لِلثَّانِي، وَلَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فِي حَيَاةِ الْخَلِيفَةِ فَالْخِلَافَةُ بَعْدَهُ لِلثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ بِالْعَهْدِ إلَيْهِ حُكْمُ الْخِلَافَةِ بَعْدَهُ، وَلَوْ مَاتَ الْخَلِيفَةُ وَالثَّلَاثَةُ مِنْ أَوْلِيَاءِ عَهْدِهِ أَحْيَاءُ، وَأَفْضَتْ الْخِلَافَةُ إلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمْ، فَأَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى غَيْرِ الِاثْنَيْنِ مِمَّا يَخْتَارُهُ لَهَا، فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ حَمْلًا عَلَى مُقْتَضَى التَّرْتِيبِ، إلَّا أَنْ يَسْتَنْزِلَ عَنْهَا مُسْتَحِقَّهَا طَوْعًا.
فَقَدْ عَهِدَ السَّفَّاحُ إلَى الْمَنْصُورِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَجَعَلَ الْعَهْدَ بَعْدَهُ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى، فَأَرَادَ الْمَنْصُورُ تَقْدِيمَ الْمَهْدِيِّ عَلَى عِيسَى فَاسْتَنْزَلَهُ عَنِ الْعَهْدِ عَفْوًا لِحَقِّهِ فِيهِ، وَفُقَهَاءُ الْوَقْتِ عَلَى تَوَافُرٍ وَتَكَاثُرٍ لَمْ يَرَوْا لَهُ فُسْحَةً فِي صَرْفِهِ عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ قَسْرًا حَتَّى اسْتَنْزَلَ وَاسْتَطْيَبَ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ أَفْضَتْ إلَيْهِ الْخِلَافَةُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْعَهْدِ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى مَنْ شَاءَ، وَيَصْرِفُهَا عَمَّنْ كَانَ مُرَتَّبًا مَعَهُ، وَيَكُونُ هَذَا التَّرْتِيبُ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْخِلَافَةَ مِنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُسْتَخْلِفِ، فَإِذَا أَفْضَتْ الْخِلَافَةُ مِنْهُمْ إلَى أَحَدِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى التَّرْتِيبِ صَارَ أَمْلَكَ بِهَا بَعْدَهُ فِي الْعَهْدِ بِهَا إلَى مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ عَامَّ الْوِلَايَةِ، نَافِذَ الْأَمْرِ، فَكَانَ حَقُّهُ فِيهَا أَقْوَى، وَعَهْدُهُ بِهَا أَمْضَى، وَخَالَفَ هَذَا مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَرْتِيبِ أُمَرَائِهِ عَلَى جَيْشِ مُؤْتَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَيَاةِ؛ حَيْثُ لَمْ تَنْتَقِلْ أُمُورُهُمْ إلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا يَكُونُ بَعْدَ انْتِقَالِ الْأَمْرِ بِمَوْتِهِ إلَى غَيْرِهِ، فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْعَهْدَيْنِ.
وَأَمَّا اسْتِطَابَةُ الْمَنْصُورِ نَفْسَ عِيسَى بْنِ مُوسَى، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَأَلُّفَ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي صَدْرِ الدَّوْلَةِ وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالتَّكَافُؤُ بَيْنَهُمْ مُنْتَشِرٌ، وَفِي أَحْشَائِهِمْ نُفُورٌ مُوهِنٌ، فَفَعَلَهُ سِيَاسَةً، وَإِنْ كَانَ فِي الْحُكْمِ سَائِغًا؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْعَهْدِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ، وَلَمْ يَعْهَدْ إلَى غَيْرِهِمَا، كَانَ الثَّانِي هُوَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ بِالْعَهْدِ الْأَوَّلِ، وَقُدِّمَ عَلَى الثَّالِثِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ التَّرْتِيبِ فِيهِ، وَلَوْ مَاتَ هَذَا الثَّانِي قَبْلَ عَهْدٍ صَارَ الثَّالِثُ هُوَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ عَهْدِ الْعَاهِدِ تَقْتَضِي ثُبُوتَ حُكْمِهِ فِي الثَّلَاثَةِ مَا لَمْ يُجَدِّدْ بَعْدَهُ عَهْدًا يُخَالِفُهُ، فَيَصِيرُ الْعَهْدُ فِي الْأَوَّلِ مِنَ الثَّلَاثَةِ حَتْمًا، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْأَوَّلِ فَانْحَتَمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ عَنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَوَقَفَ.
وَلَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ مِنَ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْهَدَ إلَى أَحَدٍ، فَأَرَادَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَخْتَارُوا لِلْخِلَافَةِ غَيْرَ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الثَّانِي بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارُوا لَهَا غَيْرَ الثَّالِثِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا الثَّانِي إلَى غَيْرِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ نَصٌّ لَا يُسْتَعْمَلُ الِاخْتِيَارُ إلَّا مَعَ عَدَمِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْخَلِيفَةُ الْعَاهِدُ: قَدْ عَهِدْتُ إلَى فُلَانٍ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ فَالْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ فُلَانٌ، لَمْ تَصِحَّ خِلَافَةُ الثَّانِي، وَلَمْ يَنْعَقِدْ عَهْدُهُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْهَدْ إلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَى الْأَوَّلِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ إفْضَائِهَا إلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ عَهْدُ الثَّانِي بِهَا مُنَفَّذًا، فَلِذَلِكَ بَطَلَ وَجَازَ لِلْأَوَّلِ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عَهْدٍ جَازَ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ اخْتِيَارُ غَيْرِهِ.
__________
(1) صحيح: (رواه أحمد [22045]، وصحَّحه الشيخ الألباني في تخريج أحاديث فقه السيرة لشيخنا الغزالي، ص [365]).
(2) قلت: من الواضح أنَّ الإمام الماوردي لا يعير أيَّ اهتمام أو دور للبيعة العامَّة التي كانت تتمّ للخلفاء، وكأنَّها لا قيمة لها، أو أنها مجرَّد تحصيل حاصل، وهذا خطأ كبير؛ فعمر بن عبد العزيز مثلًا وقد استشهد المصنِّف بأن سليمان بن عبد الملك قد عهد إليه بالأمر من بعده، لم يعترف بهذه الولاية إلّا بعد مبايعة الأمة، يقول السيوطي: ثم مات سليمان، وفتح الكتاب، فإذا فيه: العهد لعمر ابن عبد العزيز، فتغيَّرت وجوه بني عبد الملك، فلمَّا سمعوا: "وبعده يزيد بن عبد الملك" تراجعوا، فأتوا عمر فسلَّموا عليه بالخلافة، فعقر به، فلم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه، فدنوا به إلى المنبر وأصعدوه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني لست بفارضٍ ولكني منفذ، ولست بمبتدع، ولكني متَّبِع، وإنَّ من حولكم من الأمصار والمدن إن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم أبوا فلست لكم بوالٍ" (تاريخ الخلفاء: ص[362]).
أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]