الحكمة الإدارية العالية في فتح مكة

منذ 2014-06-15

يجب على كل قائد لعمل أو مدير لأفراد أن يدرك طبائع وإمكانات مرؤوسيه حتى يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ويجب أن يكون لديه من المرونة والبدائل لكي يغير خطته وفقما أراد في الوقت الذي يريد وأن يحسن استغلال طاقات أفراده، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعطى الدرس البالغ في حسن قيادة أتباعه.

إن من أعظم أسباب النجاحات الإدارية للقادة وللأمم يكمن -بعد الاستعانة بالله سبحانه- في حسن استغلال وتوظيف الطاقات والقدرات البشرية، وفي إمكانية القيادة على اتخاذ القرار السريع لتعديل خطة أو مواجهة طارئ.

ولعل من أهم الخطوات التي تعين القائد على اتخاذ القرارات الإدارية السليمة: هو توافر سجل التاريخ الشخصي للأفراد سواء على مستوى الإمكانات الشخصية والسمات البشرية والقدرات المؤهلة، التي تعين القائد على الاختيار الصحيح بين البدائل أو الاستبعاد الصحيح إذا حدث خلل ممن تولى عملاً ما.

وقد مثل الرسول صلى الله عليه وسلم الأنموذج الفذ في معرفة إمكانيات وطاقات وقدرات أصحابه، فكان يوظف كلا منهم في مكانه الصحيح، فأصر -مثلاً- على إمارة بعضهم بينما منع غيرهم منها وأصر على عدم توليتهم، ولم يكن هذا نابعا عن حب أو تقريب -فلم يكن الحب هو المعيار في التقديم أو التأخير- ولكنه كان نابعا من قدرة إدارية عالية بعد توفيق الله عز وجل له.

فيروي البخاري: «بعث النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعثًا، وأمَّر عليهم أسامةَ بنِ زيدٍ، فطعن بعضُ الناسِ في إمارتِه، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: إن تطعَنوا في إمارتهِ، فقد كنتُم تطعنونَ في إمارةِ أبيهِ من قبلُ، وأيمُ اللهِ إن كان لخليقًا للإمارةِ، وإن كان لمنْ أحبِّ الناسِ إليَّ، وإنَّ هذا لمنْ أحبِّ الناسِ إليَّ بعدَه» (رواه البخاري) وبالفعل فقد كان زيد من أكثر الصحابة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس في السرايا التي لم يخرج فيها فيقول سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: "غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وغزوت مع ابن حارثة سبع غزوات استعمله علينا".

وفي نفس الوقت منع الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذر من الإمارة خشية عليه، ففي صحيح مسلم يَقُولُ أبو ذر رضي الله عنه: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي، قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ، قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ: إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» (رواه مسلم).

ولاشك أن هذا كان بنظرة منه صلى الله عليه وسلم للشخصين وبإمكانياتهما وتاريخهما الشخصي.
ولا يظن أحد أن معرفة النبي الوثيقة بأصحابه وبإمكانياتهم وظروف شخصياتهم وسماتهم كان ناتجًا عن قلة عددهم، بل على العكس تمامًا، فقد كان يتفقدهم ويسأل عن غائبهم ويتفحص شئونهم على الرغم من كثرة عددهم، ففي غزوة تبوك الذي بلغ فيها عدد المسلمين أكبر رقم سار مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة إذ بلغ ثلاثين ألف رجل، فكيف يتفقدهم ويسأل عن رجل متغيب عن المشهد وهم ثلاثون ألفا!؟، فيقول كعب كما في الصحاح: «حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك ما فعل كعب بن مالك قال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا» (رواه البخاري).

في فتح مكة حكمة إدارية نادرة:
يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس بن عبد المطلب بأن يحبس أبا سفيان رضي الله عنهما، وذلك قبل إسلامه بقليل في واد ضيق حتى تمر عليه القبائل فيراها متفرقة حتى يقع في قلبه ويوقن أن الإسلام قد أتاهم بما لا قِبل لهم به من الجند، وأنه منتصر بإذن الله وأن الشرك مهما استجمع من قواه فلن يثبت أمام الحق وسينهزم، وتمر على أبي سفيان القبائل ويقول عند مرور كل قبيلة "مالي ولبني فلان" حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال من هذه؟، قال: "هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية"، فقال سعد بن عبادة: "يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة"، فقال أبو سفيان "يا عباس حبذا يوم الذمار"، ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال: "ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟" قال: «ما قال؟ قال كذا وكذا فقال: كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة» (رواه البخاري).

وفي عيون الأثر لابن سيد الناس: «كَانَتْ رَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِيَدِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَلَمَّا مَرَّ بِهَا عَلَى أَبِي سُفَيْانَ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ سَعْدٌ، إِذْ نَظَرَ إِلَيْهِ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ، الْيَوْمَ أَذَلَّ اللَّهُ قُرَيْشًا، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَةِ الأَنْصَارِ، حَتَّى إِذَا حَاذَى أَبَا سُفْيَانَ، نَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُمِرْتَ بِقَتْلِ قَوْمِكَ؟ فَإِنَّهُ زَعَمَ سَعْدٌ وَمَنْ مَعَهُ، حِينَ مَرَّ بِنَا أَنَّهُ قَاتِلُنَا، أَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي قَوْمِكَ، فَأَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ، وَأَرْحَمُهُمْ، وَأَوْصَلُهُمْ».

وَقَالَ عُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لا نَأْمَنُ سَعْدًا أَنْ تَكُونَ مِنْهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، الْيَوْمَ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ قُرَيْشًا».

إن حامل الراية في جيش النبي صلى الله عليه وسلم: هو منصب يوليه الرسول لمن يقوم بحقه، فهو رئيس قوم ومتحدث باسمهم وصاحب الكلمة فيهم، فينبغي أن يدقق في كلماته فهي محسوبة على المسلمين ككل لا عليه وحده، ومن هنا جاءت شكاية أبي سفيان من كونه حاملا للراية.

والملحمة: القتل الشديد وإراقة الدماء، ولم يكن مجئ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لفتح مكة لإراقة الدماء، بل كان تخليصًا لها من الأوثان والأصنام التي كانت تحيط بيت الله الحرام لتكون كلمة الله هي العليا وليعتلي داعي الله سطح الكعبة معلنا من فوق سطحها كلمة التوحيد الخالص، الله أكبر الله اكبر لا إله إلا الله، وليقوم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه بوخز الأصنام لتستلقي على قفاها وهو يردد: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81].

ولم يكن اليوم أبدًا لذل قريش، فإن سلمنا أنه كان يوم ذل لأهل الشرك فقد كان في نفس الوقت يوم خير لهم إذ حررت عقولهم من استبداد الأصنام بها وفتحت عقولهم وقلوبهم للإسلام بعدها بقليل فكان يوم عز لأهل مكة لا يوم ذل.

وإذا قلنا أنه كان يوم ذل لأهل مكة القرشيين، فكان يوم عز لأهل المدينة المهاجرين القرشيين ومعهم سيدنا وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم النبي القرشي، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم قول سعد رضي الله عنه كله، ورفضه باعتباره قائدا أعلى من سعد.

وكان لا بد من قرار لعزل سعد عن قيادة قبيلته وحمل رايتهم لا لعيب فيه ولكن خشية من تصرف قد يتسبب في وقوع حرب لم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بها وخاصة لوجود ثأر شخصي بينه وبينهم حينما امسك به أهل مكة وعذبوه.

والمشكلة الأكبر في نزع الراية من شخصية مثل سعد بن عبادة فنزع الراية أمر عظيم من كل الناس، وبالأخص على شخصية مثل شخصية سعد، فقد كان رضي الله عنه من أكثر الناس شدة وغيرة، وكان إذا غار يتخذ أشد القرارات وأخطرها، فيروي البخاري ومسلم قول سعد بن عبادة: "لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح"، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ومن أجل ذلك وعد الله الجنة».

وربما يعترى سعدًا من الضعف البشري ما يعتري كل البشر من الحسد أو الحقد أو الضغينة لمن سيحمل الراية من بعده لتفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم للجديد عليه، ورسول الله يعلم أنه يتعامل مع بشر وليس ملائكة، وهكذا يجب على كل قائد، فمهما بلغت نفسيات من معه من جنوده أو تربيتهم فلا يجب أن يفترض فيهم انه خرجوا عن البشرية، فلابد من مراعاة نفسياتهم ودوافعهم وأفكارهم وشخصياتهم.

وبهذا تصبح عملية اختيار بديل لسعد عملية شاقة إذ يجب نزع الراية من سعد واختيار رجل لا تثير اختياره مشكلة بينه وبين سعد نظرا لطبيعته وشخصيته ومكانته فهو سيد قومه من قبل مجئ النبي صلى الله عليه وسلم.

ولم يكن هناك إلا بديل واحد -من بين العشرة آلاف رجل- هو من يصلح لأن يكون حاملاً للراية مكان سعد، فاختاره الرسول صلى الله عليه وسلم ودفع إليه الراية بعد أن أمر مناديه أن ينادي في الجيش للبحث عنه، إنه الصحابي الجليل (قيس بن سعد بن عبادة).

فهو الصحابي الوحيد في الجيش الذي لن يعترض عليه سعد، ولن تُستثار حفيظته عليه بل سيفرح لأن الراية لم تخرج منه إلا إليه، فالإنسان لا يسعد بكون أحد من الناس أفضل منه إلا ولده، وسيتم تغيير الراية وفقا لما طلب النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن قيس موجودا في الجيش فأغلب ظني أن النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه كان سيتخذ قرارًا بحمله نفسه للراية حتى يراعي نفسية سعد، فما أسهل إصدار الأوامر التي لا تراعي أحدًا والتي تحمل الناس على عصيانها، وما أحكم أن تبحث -كقائد- عن أي القرارات تتخذ دون أن تضغط على أحد من جنودك أو تؤلمه أو تؤذيه ماديًا أو معنويًا.

وكان قيس رجلاً معروفًا بكياسته وسكونه وعدم تسرعه حتى قيل عنه أنه كان من أحد أدهى العرب والذي تنسب له كلمة: "لولا الإسلام لمكرت مكراً لا تطيقه العرب".

وهكذا يجب على كل قائد لعمل أو مدير لأفراد أن يدرك طبائع وإمكانات مرؤوسيه حتى يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ويجب أن يكون لديه من المرونة والبدائل لكي يغير خطته وفقما أراد في الوقت الذي يريد وأن يحسن استغلال طاقات أفراده، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعطى الدرس البالغ في حسن قيادة أتباعه.
 

يحيى البوليني

  • 0
  • 0
  • 2,056

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً