لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه
لنحاول أن نأخذ بزمام أنفسنا ونخلص قلوبنا من قسوتها، تلك القسوة التي باعدت بين العباد وبين الانقياد والاستسلام لطاعة الله تعالى.
- التصنيفات: أعمال القلوب -
عجبًا لأمر قلوبنا، فشأنها غريب، فأحيانًا تقبل على الخير وإذا بها أرق ما تكون لله تعالى، فلو سئلت أن تبذل نفسها في سبيله سبحانه لبذلت وضحت، ولو سئلت أن تنفق أموالها جميعًا لوجه الله سبحانه لبذلت..
ثم هناك لحظات تقسوا وتجف، كما تجف الورقة الخضراء، فتنكر الحق، وتبعد عن الخير، وتبخل بالعطاء..
إنها قسوة لم تأت من فراع، ولكن تأتي بظلم الإنسان نفسه، عندما يستصغر المعصية فيتبعها بأخرى ويتمادى في التعدي على حدود الله تعالى حتى يغطي قلبه الران الذي ذكره الله في كتابه فقال {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
فحينئذ لا تسمع لناصح ولا تتأثر بتذكرة من حولها، وهذه مشكلة يجدها كثير من الدعاة عندما يقدم النصح والتذكرة للبعض، فيطالب بفعل الصالحات وترك المنكرات فيجد التراخي وعدم الانقياد والاستسلام
والسبب أنه لم يصلح الداخل حتى يصطلح الخارج والظاهر، فكان ينبغي أولًا إصلاح القلب وتنظيفه لأن صلاحه عائد على صلاح الظاهر.
وقد وضح لنا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عندما قال « » (متفق عليه).
فالخشوع محله القلب، فإذا خشع خشعت الجوارح لخشوعه.
وقد يشتكي البعض جرأتهم على حدود الله تعالى واتباع جوارحه في تلك الجرأة، فلا تتوقع أن يأتيك الخشوع بين يوم وليلة لكن الأمر يحتاج إلى تدريب مستمر حتى ينتقل القلب تدريجيًا من القسوة إلى اللين.
ومن الأمور التي تلين القلوب:
1- أن يعرف العبد ربه، فقد يكون أعظم سببًا للين القلوب أن يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته، يعرفه بتأملاته وتفكره، فما من شيء في هذا الكون إلا ويذكره به سبحانه، فما من عبد عرف الله تعالى إلا وجدته خاشع القلب، سباقًا إلى الخير، مشمرًا في الطاعات، متمتعًا بفعلها، وما من عبد عرف ربه إلا وجدته أبعد ما يكون عن معصيته.
2- المحافظة على الصلوات في مواعيدها، فلا يأتي ظهر على عصر ولا مغرب على عشاء، فهي الصلة بينه وبين ربه، وهي المنهية عن الفحشاء والمنكر، وهي الدافعة إلى الصالحات.
3- ذكر الله تعالى دائمًا، فمن كان لاهيًا عن ذكر الله تعالى طوال اليوم فمن الصعب أن ينتقل فجأة إلى الخشوع، فالذكر باب الخشوع، وهو المهيء النفسي والقلبي له، قال رجل للحسن: "يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أذبه بالذكر".
4- قراءة القرآن أيضًا من المطهرات الآكدة للقلب العائدة أثرها على الجوارح لقوله تعالى {اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
5- تذكر الموت من الأمور التي تلين القلوب وتذهب قسوتها، وطريقة ذلك التفكر في الراحلين، واتباع الجنائز، وزيارة القبور..
6- كثرة الاستغفار والتوبة، فهي باب عظيم لنظافة القلب ولينه ورقته، فمهما كان كبر المعصية فالله تعالى يدعو عبده للعودة من جديد.
ولا شك أن صلاح القلب بقوة تقواه، ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فقال «
» (رواه مسلم).
ولنتأسى وننظر كيف كانت القلوب الفريدة..
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الله بن مسعود: "«فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] فقال صلى الله عليه وسلم: « » فإذا عيناه تذرفان" (صحيح مسلم).
»، فقال : أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « »، فقرأ وعندما وصل لآية {ولما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، قال لأهل بيته أن يأمروا أبا بكر ليصلي بالناس، فقالوا يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف إذا قرأ القرآن بكى. فقد اختاره النبي صلى الله عليه وسلم للخلافة بعده لتلك الصفات الفريدة وحياة قلبه ورقته.
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما سمع قوله تعالى {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] سقط على الأرض مريضًا وأصبح أصحابه يعودونه.
وهذا أبو حنيفة رضي الله عنه كان يقوم الليل ويردد آية طوال الليل يقول: { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ} [القمر:46].
فلنحاول أن نأخذ بزمام أنفسنا ونخلص قلوبنا من قسوتها، تلك القسوة التي باعدت بين العباد وبين الانقياد والاستسلام لطاعة الله تعالى، وباعدت بينهم وبين الخشوع لله سبحانه، والتي تنفر الأولاد من أبيهم، والطالب من أستاذه، والعامل من رئيسه والصاحب من صاحبه...
أميمة الجابر
(بتصرف يسير)