(5) نمطا المخدِّر والمخدَّر
محمد علي يوسف
أما المخدِّر (بكسر الدال) فهو ذلك الشخص الذي يُصِرُّ دومًا على خداع النمط الثاني -المخدَّر- ببث الأوهام الكاذبة والآمال الواهية وصياغتها بطريقةٍ محكمة.. تظهرها على أنها حقائق لا تقبل النقاش وتوحي بأن تحققها وظهورها للعيان ما هو إلا مسألة وقت وربما يُحدّد هذا الوقت أيضًا!
- التصنيفات: الآداب والأخلاق -
وهناك نمطان مرتبطان ببعضهما البعض بشكلٍ وثيق، وتستطيع أن تعتبرهما يتكافلان ويتكاملان ولا غنى لأحدهما عن الآخر..
إنهما نمطا المخدِّر والمخدَّر.. بكسر الدال المشدَّدة في الأول وفتحها في الثاني.. أو بشكلٍ أبسط! تاجر المخدرات ومتعاطيها..
إنها ثنائية متلاصقة ومتلازمة لا غنى لأحد طرفيها عن الآخر..
أما المخدِّر (بكسر الدال) فهو ذلك الشخص الذي يُصِرُّ دومًا على خداع النمط الثاني -المخدَّر- ببث الأوهام الكاذبة والآمال الواهية وصياغتها بطريقةٍ محكمة.. تظهرها على أنها حقائق لا تقبل النقاش وتوحي بأن تحققها وظهورها للعيان ما هو إلا مسألة وقت وربما يُحدّد هذا الوقت أيضًا!
هذا النمط يحرص دائمًا على الظهور بمظهر العليم ببواطن الأمور المطلع على الخبايا وما بين السطور! فهو المُحلِّل الجهبذ والخبير الاستراتيجي المحنَّك الذي يعلم ما يجهله البسطاء أمثالنا! وفي كل حين عليه أن يبث شيئًا عجيبًا مبهرًا من تلك البواطن أو يُلمِّح بسِرٍ خطير لم يعلمه غيره.. لتظل الأفواه فاغرة والأعين متسعة من الانبهار بتلك المخدرات الفكرية والواقعية والسياسية التي يتاجر بها هذا الجهبذ المخدِّر!
نعم هي مخدرات في حقيقتها تقوم بنفس وظيفة المخدرات الحقيقية بأنواعها المختلفة..
فهي تجعل متعاطيها يغادر واقعه الحقيقي الشاق والمليء بالصعاب والتحديات ليعيش واقعًا مزينًا جميلًا كبديل عن حقيقة قد تكون مرَّة..
تلك المخدرات تجل النمط الآخر -المتعاطي- أكثر تبلُدًا وتهون عليه كثيرًا من الآلام التي يشعر بها والصدمات التي يتعرَّض لها لكنه كالمخدرات الحقيقية - تبلُّد مؤقت سرعان ما يزول لتعود الآلام بعد حين وليفاجأ بمزيد من التعقيد ربما لم يكن ليوجد لو كان قد انتبه من غفلته التخديرية..
وتعامل مع حقيقة الأشياء واستعد لها وقدرها حق قدرها بدلًا من التقلب في نعيم الوعود البراقة والأماني العاجلة.. التي يعده بائعو الأوهام المعسولة دومًا أنها ستتحقق خلال أيام أو ساعات محدّدة لا أحد يدري لماذا لا تأتي أبدًا!
طبعًا لا أتحدَّث هنا عن اليقين بموعود الله والثقة بنصره والإيمان بتحقق بشريات نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فتلك عقيدة راسخة لا تنازل عنها.. لكن الفارق بينها وبين مخدرات بائعي الوهم ومشتريه أن الوعود الربانية والبشارات النبوية في غالب الأمر لم تكن محدّدة بتوقيت بل كانت في مجملها وعودًا مطلقة مفتوحة الأمد، مرتبطة بالعمل وعودًا تغرس اليقين والأمل وتعلقه بالله النصير لا بتحليلاتٍ سمجة متكلفة، وتسريبات باطنية أغلبها تخديري مكذوب..
ولو أن المُفكِّر أو المُحلِّل اكتفى ببث الأمل من خلال التثبيت بالقرآن وترسيخ وعوده جنبًا إلى جنب مع التوجيه لأداء التكليفات المقترنة بتلك الوعود لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا.. حتى لو كان الواقع في حقيقته صعبًا متشابكًا..
لكن للأسف يضطر بعضهم لإنكار تلك الصعوبة نظرًا للضغوط التي تمارس عليهم لإجبارهم على إيجاد الحل السحري السريع، ومن ثم يلجأون للتخدير ويبحثون عن مسكنات الوهم المعسول الذي يُغرقون فيه المخدَّرين المتعاطين بالتدريج من خلال مخدراتهم الفكرية والواقعية.. التي يلاحقونهم بها باستمرار! حتى تبدو الحلول التي يطرحونها دائمًا وجيهة ومنطقية في مواجهة تلك الأسئلة التي سهلتها تلك المخدرات..
لذلك لا بُدَّ ابتداءً من التخلص من تلك المخدرات الفكرية التي يحرص البعض على بثها في عقول مريديهم مصورين الأمور كلها سهلة وبسيطة ومهونين من شأن التحديات القاسية التي تواجههم وموهمين زبائنهم أن النصر أقرب إليهم من شراك نعالهم..
ولا بُدَّ للنمط الآخر من الإقلاع عن تعاطي تلك المخدرات الفكرية، والتخلص من حالة الإنكار التي أدمنوها والنظر إلى الواقع جيدًا، لا لييأس أو ليحبط ويقعد باكيًا على اللبن المسكوب، فتلك ليست خيارات أصلًا ولكن ليحسن العمل والتأثير في إطار المتاح والممكن والواجب الذي أدركه من خلال النظر السليم.. بدون مخدرات.. ولا مخدِّرين.. أو مخدَّرين...!