لستَ بكاسد!

منذ 2014-06-30

إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله

ينظر كثيرٌ من الناس إلى البعض شذرًا؛ فهم يحكمون عليهم بالمظاهر والوجاهات الاجتماعية، لكن مقياس البشر مختلف تمام الاختلاف عن مقياس رب البشر؛ فالله سبحانه وتعالى «لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» (مسلم؛ في صحيحه، برقم: [2564]).

فقد ترى شخصًا فقير الحالِ، رث الثياب؛ لكن عنده من العلم والفقه والتقوى ما يفوق به عند الله تعالى منزلة الكثيرين ممن لديهم المال والجاه.. فالميزان مختلف. روى البخاري في صحيحه عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: «مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا»؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا»؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» (البخاري؛ صحيح البخاري، برقم: [5091]).

فلم يكن المال والجاه يومًا هو المقياس، بل التقوى وحدها هي التي ترفع أناس وتضع آخرين؛ قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. ويُروى أن الإمام الشافعي ذهب إلى سُر من رأى (مدينة سامراء) وكانت عليه ثياب بالية، وأطمار رثة، وشعره طويل فذهب إلى مُزين فاستقذره لما نظر إلى رثاثته فقال له: تمضي إلى غيري، فقال الإمام الشافعي:

عليّ ثيابٌ لو يُباع جميعها *** بفلسٍ لكانَ الفلسُ مِنهن أكثرا

وفيهن نفسٌ لو يُقاس ببعضها *** نفوس الورى كانت أجلَ وأَكبرا

فهذا الإمام الشافعي وهو من هو في علمه وفضله ومع ذلك يستحقره الرجل؛ لأنه حكم عليه بمظهره الخارجي الرث. وهكذا هو الحال مع كثير من الناس، لكنّ فضل الله سبحانه وتعالى أكبر، وحكمته أجل وأعظم؛ إذ إن التفاضل بين الناسِ قائمٌ على أساس التقوى والعمل الصالح لا على أساس القناطير المقنطرة من الذهب والفضة.

والتقوى محلها القلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «التَّقْوَى هَاهُنَا وأشار إلى صدره ثلاثًا» (مسلم؛ صحيح مسلم، برقم: [2564]). وهذا الحديث فيه إشارة إلى أن "كرم الخلق عند الله بالتقوى فرب من يحقره الناس لضعفه وقلة حظه من الدنيا هو أعظم قدرًا عند الله تعالى ممن له قدر في الدنيا فإنما الناس يتفاوتون بحسب التقوى" [جامع العلوم والحكم، 2/ 275].

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحقر المسلم أخاه المسلم أو يستهزئ به فقال: «بحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» (مسلم؛ في صحيحه، برقم: [2564])، قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: "أي حَسْبُه وكافِيه مِنْ خِلَالِ الشر ورذائلِ الأخلاق احتقارُ أَخِيه المسلم". وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11].

وفي مسند أحمد وغيره عن أنسٍ رضي الله عنه: " أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ»، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَرْسِلْنِي، مَنْ هَذَا؟ فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟» فَقَال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ»، أَوْ قَالَ: «لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ» (الإمام أحمد؛ المسند، برقم: [12648]) .

فهذا الصحابي رضي الله عنه كان دميم الخلقة وكان رجلا من البادية وكان يظن أن الناس لا يعيرونه اهتمامًا، لكن هذا كله لا يهم، فالمهم هو حب النبي صلى الله عليه وسلم له، وشهادته صلى الله عليه وسلم له بأنه عند الله غال.. فما أعظمها من شهادة!

وخلاصة الأمر: أن الناس يتفاوتون ويتفاضلون بمقدار التقوى والعمل الصالح، لا بمقدار المال والجمال. وأنه يحرم على المسلم أن يحتقر أخاه المسلم أو يستهزئ به، أو يظن أنه أفضل منه في شيء؛ لأن هذا من فعل إبليس عليه لعنة الله إذ ظن نفسه أفضل من آدم عليه السلام فاستكبر وعصى، فغضب الله عليه ولعنه وطرده من رحمته وأخرجه من جنته. ولنكن كما قال ابن القيم رحمه الله: "إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله وتودد إليه تنل بذلك غايةَ العزِ والرفعة" (الفوائد: 118).

 

  • 2
  • 0
  • 13,121

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً