غسيل الكُلى وأثره على الصيام
يعتبر الفشل الكلوي من الأمراض الشائعة التي انتشرت في هذا العصر، والكلية ذلك العضو مع صغر حجمه إلا أنه يقوم بوظائف أساسية ترتكز عليها حياة الإنسان، فلا يستطيع العيش بدونها...
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيعتبر الفشل الكلوي من الأمراض الشائعة التي انتشرت في هذا العصر، والكلية ذلك العضو مع صغر حجمه إلا أنه يقوم بوظائف أساسية ترتكز عليها حياة الإنسان، فلا يستطيع العيش بدونها، إلا أن الطب الحديث قد استحدث ثلاث طرق لمرضى الفشل الكلوي، وهي:
1- الغسيل الدموي (الديلزة الدموية).
2- الغسيل البريتوني (الديلزة الصفاقية).
3- زراعة كلية جديدة.
فأما زراعة كلية جديدة فهو موضوع آخر، يتعلق بحكم زراعة الأعضاء، وأما الطريقتين الأوليتين فهما الحل الأسرع والمبدئي الذي يُعمل لسائر مرضى الفشل الكلوي.
والمريض المصاب بهذا المرض في شهر رمضان مضطر للدخول في إحدى هاتين الطريقتين وفيما يلي أُلقي نظرة طبية سريعة عليهما حتى يمكن تصور الحكم في كونهما مفطرتان أم لا.
الطريقة الأولى: طريقة الغسيل الدموي للكلى، ويُعرف بالديلزة الدموية.
تعتمد هذه الطريقة على ضخ الدم من خلال الكلية الصناعية التي يتم من خلالها إزالة السموم، ومن ثم إعادة الدم إلى الجسم.
والكلية الصناعية: هي عبارة عن اسطوانة تحوي على غشاء يفصل بين الدم وبين سائل التنقية، ويوجد في هذا الغشاء فتحات صغيرة جدًا تسمح بمرور السموم والأملاح إلى سائل التنقية. وسائل التنقية عبارة عن ماء يُضاف إليه بعض الأملاح، وسكر، ومعادن، تُعادل الكميات الموجودة في الدم. تعبر الفضلات السامة والأملاح الزائدة من الدم إلى سائل التنقية، يحدث العكس كذلك، أي: تعبر الفضلات السامة والأملاح الزائدة من سائل التنقية إلى الدم، ومن ثم يتم ضخ الدم إلى الجسم مرة أُخرى، بينما يطرد سائل التنقية المحمل بالفضلات السامة إلى الصرف الصحي.
وتستلزم عملية التنقية الدموية هذه إعطاء أدوية متعددة كمسيلات مثل الهرمونات والفيتامينات، كما تستغرق هذه العملية من 3-4 ساعات، ثلاث مرات أُسبوعيًا.
الطريقة الثانية: التنقية البريتونية (الديلزة الصفاقية).
أشرت في الطريقة السابقة إلى الغشاء الموجود في الكلية الصناعية والذي يفصل بين الدم وبين سائل التنقية، وهذا الغشاء يوجد مثله في بطن الإنسان يحيط بالأمعاء والأعضاء الأخرى، وهو يسمح لأمعاء البطن بالتحرّك دون حدوث احتكاك فيما بينها، كذلك في هذه الطريقة يوجد الغشاء البريتوني الذي يحوي على فتحات صغيرة جدًا تشبه المنخل يوضع في تجويف البطن، حيث يتم إدخال أنبوب صغير في البطن وينفذ من الجسم بجانب السرة ليقوم بإدخال سائل التنقية إلى تجويف البطن لتترشح الفضلات السامة من الدم الموجود في الأوعية الدموية لأعضاء البطن إلى سائل التنقية. ويتكون سائل التنقية المستخدم في هذه الطريقة من الماء النقي، مضافًا إليه الأملاح والمعادن والسكر.
وهناك طريقتان في استخدام الغسيل البريتوني هما:
1- الطريقة اليدوية
2- الطريقة الأوتوماتيكية (الآلية)
الطريقة اليدوية:
في هذه الطريقة يقوم المريض بوضع السائل النقي في تجويف البطن حيث يُترك السائل من 4 إلى 6 ساعات، خلال هذه الفترة تنتقل الفضلات السامة من الدم إلى تجويف البطن إلى السائل. وبعد مرور هذه الفترة يُعاود المريض إلى فتح الأنبوب وتفريغ السائل المحمَّل بالسموم والسوائل الزائدة عن حاجة الجسم، ثم يتم وضع سائل نقي مرة أُخرى في تجويف البطن وفي كل مرة يضع المريض كميات تتراوح بين 1 إلى 3 لتر، حسب حجم جسمه، وتتكرر هذه العملية من 4 إلى 5 مرات يوميًا.
الطريقة الثانية:
تعتمد هذه الطريقة على استخدام جهاز يقوم بوضع السائل النقي وسحب السائل المحمل بالسموم لفترة تتراوح من 7 إلى 9 ساعات، أثناء النوم فقط، وخلال هذه الفترة يظل المريض متصل بجهاز الغسيل البريتوني، وتمتاز هذه الطريقة بعدم حاجة المريض لفصل وإعادة شبك الأنبوب الموجود في البطن؛ كذلك عدم حاجته إلى وضع وتفريغ السائل بنفسه، ولكن هذه الطريقة تتطلب وجود المريض في السرير خلال فترة الديلزة [1].
وبعد هذا العرض الطبي السريع في كيفية غسيل الكُلى والتصور الواضح الذي خرجنا به عما يتم فيه من الناحية الطبية؛ أنتقل إلى ذكر شيء مما قيل في الحجامة، لكونها قريبة شيئًا ما من الغسيل الكلوي، إضافةً إلى أن عددًا من الباحثين المعاصرين يقيسون غسيل الكُلى بالحجامة، وفي هذا القياس نظر، وأعدّه من القياس مع الفارق، -من الناحية الطبية- حيث أن الحجامة -كما هو معروف- استخراج دم فاسد من البدن -من أي جزء منه-، ولا يُعوض ببديل عنه، بينما غسيل الكُلى هو إخراج دم محمَّل بالسموم وإعادته دمًا منقى، بل مضافًا إليه بعض المواد المغذية، وأُخرى غير المغذية.
ومع ذلك كله فلننظر فيما ذكر عن الحجامة من خلاف، وأدلة، عَلّنا نخرج بعدها وبعد عرضنا الطبي السابق بنتيجة في مسألتنا.
فالحجامة -كما هي معروفة- إخراج الدم من البدن للتداوي. وفيها خلاف طويل لأهل العلم في كونها مفطرة أم لا، وهل يفطر الحاجم والمحجوم بها، وملخص ذلك كما يلي:
القول الأول:
وهو القول بفساد الصوم بالحجامة، وبفطر الحاجم والمحجوم بفعلها، وهو مذهب الحنابلة، ونقل عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم "أنهم كانوا يحتجمون ليلاً، ويتجنبون الحجامة بالنهار، نُقل هذا عن ابن عمر وابن عباس وأنس وغيرهم رضي الله عنهم" (وقول غالب فقهاء أهل الحديث كإسحاق بن راهويه وابن المنذر وعطاء والحسن وغيرهم. فتح الباري [4/178]).
والدليل العمدة الذي يحتج به من قال بفساد الصوم بالحجامة، هو قول النبي: صلى الله عليه وسلم: « » [2].
القول الثاني:
أن الحجامة لا تفسد الصوم، ولا يفطر بها لا الحاجم ولا المحجوم، وهذا مذهب "الحنفية" (المبسوط للسرخسي [3/57]، بدائع الصنائع [2/100])، و"المالكية" (الفواكه الدواني [1/308]، الذخيرة [2/506])، و"الشافعية" (الأم [2/97]، المجموع [6/364])، ومما استُدل به لهذا القول ما يلي:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: "احتجم وهو محرِم واحتجم وهو صائم" (أخرجه البخاري في كتاب الصيام، باب الحجامة والقيء للصائم [2/685]، رقم [1836]، ولكن هذا اللفظ وإن كان في البخاري قد أنكره جماعة وأعلَّه آخرون من الأئمة، وقالوا: "الصواب أنه احتجم وهو محرِم، أما زيادة "وهو صائم" فإنها لا تثبت، وآخرون أثبتوها. انظر: التلخيص الحبير [2/192]، قال الصنعاني في سبل السلام [4/105]: "ظاهره أنه وقع منه الأمران المذكوران مفترقين وأنه احتجم وهو صائم واحتجم وهو محرِم ولكنه لم يقع ذلك في وقت واحد لأنه لم يكن صائماً في إحرامه إذا أراد إحرامه وهو في حجة الوداع إذ ليس في رمضان ولا كان محرِماً في سفره في رمضان").
2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخّص في الحجامة للصائم" (أخرجه النسائي، في كتاب الصيام، باب الحجامة للصائم وذكر الأسانيد المختلفة فيه [2/236]، رقم [3237]، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه، في كتاب الصيام، باب ذكر البيان أن الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم جميعاً، [3/231]، والدار قطني، في كتاب الصيام، باب القبلة للصائم [2/182]، [رقم:9]، والبيهقي في الكبرى، واللفظ له، في كتاب الصيام، باب الصائم يحتجم لا يبطل صومه [4/264]، [رقم:8057]).
وجه الدلالة منه: وقوله "رخّص"، دليل على أنه كان ممنوعًا، ثم أرخص فيه، فهذا حجة لمن قالوا بأن آخر الأمرين هو الرخصة بالحجامة للصائم (انظر: فتح الباري [4/178]).
وقال بن حزم: "صح حديث: «
3- وكذلك حديث أنس رضي الله عنه أنه سُئِل: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: "لا، إلا من أجل الضعف" (أخرجه البخاري، في كتاب الصيام، باب الحجامة والقيء للصائم [2/685]، رقم [1838])، أي: لم يكونوا يكرهون الحجامة؛ لأنها تفطر، ولكن كانوا يكرهونها خشية أن يضعف الصائم فيفطر، إلى غير ذلك من أقوال الصحابة والتابعين.
وقد وردت بعض المناقشات على دليل أصحاب القول الأول: » (سبق تخريجه)، بلا ريب لكن وجدنا من حديث أبي سعيد أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم وإسناده صحيح فوجب الأخذ به لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجمًا أو محجومًا" (المحلى [6/204]).«
1- "بأن الرسول صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجلين، وهما يغتابان، وكان أحدهما حاجمًا والآخر محجومًا فقال صلى الله عليه وسلم: « » بسبب الغيبة، وهذا ضعيف سنداً، وضعيف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الفطر بالحجامة، ولأن الغيبة لا تفطر، باتفاق العلماء أو ما يُشبه الاتفاق" (فتح الباري [4/178]).
2- "وأجاب بعضهم بأن معنى أفطر أي قارب الفطر أي: كادا أن يفطرا؛ لأن الغالب أنه إذا احتجم، فإنه يضعف عن مواصلة الصيام، وقد يحتاج إلى الأكل أو الشرب، وهذا إن صحَّ في حال المحجوم فليس بواضح في حال الحاجم؛ لأنه لم يستخرج منه شيء" (فتح الباري [4/178]).
3- وقيل: إن حديث: « »، منسوخ بحديث ابن عباس رضي الله عنه السابق (المحلى [6/204]).
الخلاصة والترجيح:
ولعل القول الذي استند إلى الحجة الأقوى هو ما ذهب إليه الجمهور من أن الحجامة لا تفسد الصوم.
الخلاف في مسألة غسيل الكُلى، وأثره على الصيام:
وبناءً على ما سبق فقد توجه الخلاف في مسألة غسيل الكُلى، هل يُفَطر، أم لا؟ وقد حاولت جمع الأقوال في ذلك فوجدت أن مردها إلى قولين، بناء على ما ذكرت من الخلاف في مسألة الحجامة:
القول الأول:
ذهب عدد من العلماء المعاصرين إلى أن غسيل الكُلى مفسد للصوم ومفطر للصائم الذي يقوم به، وعليه قضاء ذلك اليوم الذي يقوم بالغسيل فيه (وهو قول الشيخ عبد العزيز بن باز، كما في مجموعة فتاويه [15/275]، وَ د. وهبة الزحيلي، كما في العدد العاشر من مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي [2/378]، عام 1997م، واللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية [10/179]). »، أذكر بعضًا منها:
ومما استند به من قال ذلك مايلي:
1- "أن غسيل الكلى يزود الجسم بالدم النقي، وقد يُزود مع ذلك بمواد أُخرى مغذية، وهو مفطر آخر، فاجتمع لمريض الكُلى مفطران: تزويد الجسم بالدم النقي، وتزويده بالمواد المغذية" (انظر المراجع السابقة، ومفطرات الصيام المعاصرة، لأحمد بن محمد الخليل، الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، الدمام، السعودية، الطبعة الثانية، عام 1427هـ - 2006م، [ص:77] وهو منشور في الموقع).
2- القياس على الحجامة، كما في حديث: « » (سبق تخريجه)، بجامع أن في العمليتين إضعاف للبدن، وإخراج للدم، وهذا القياس أضفته دليلاً لأصحاب هذا القول لما رأيته من كلام العلماء المعاصرين قياسهم بذلك، وإني أعده من القياس مع الفارق، -من الناحية الطبية- حيث أن الحجامة -كما هو معروف- استخراج دم فاسد من البدن -من أي جزء منه-، ولا يُعوض ببديل عنه، بينما غسيل الكُلى هو إخراج دم محمل بالسموم وإعادته دمًا منقى، بل مضافًا إليه بعض المواد المغذية، وأُخرى غير المغذية، حتى أن الشيخ ابن عثيمين عندما سُئِل عن صوم من يعمل غسيل الكلى قال: "وأما بالنسبة للصيام فأنا في تردد من ذلك، أحياناً أقول: إنه ليس كالحجامة. الحجامة يستخرج منها الدم ولا يعود إلى البدن، وهذا مفسد للصوم كما جاء في الحديث، والغسيل يخرج الدم وينظف ويعاد إلى البدن" (مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين [19/ 113-114]).
القول الثاني:
وهو القول بعدم فساد الصوم بغسيل الكُلى، وإخراج الدم وإدخاله، ولو كان كثيرًا، كما هو واقع غسيل الدم، ولا يَفطر الصائم بذلك، بل يُكمل صيامه ولا شيء عليه، سواء كان ذلك بواسطة الحقن المستعملة في علاج الفشل الكلوي، حقنًا في الصفاق -هو سطح الجلد الخارجي- البريتوني، أو بالكلية الصناعية (وممن قال بهذا القول: د. محمد الخياط، د. محمد البار، كما في مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد العاشر [2/290]).
ومما استدل به من قال بعدم فساد الصوم بغسيل الكُلى، ما يلي:
1- "أن غسيل الكُلى ليس أكلاً، ولا شربًا، إنما هو حقن للسوائل في صفاق البطن، ثم استخراجه بعد مدة، أو سحب للدم ثم إعادته بعد تنقيته عن طريق جهاز الغسيل الكلوي" (مجلة مجمع الففه الإسلامي، العدد العاشر [2/290]).
2- "أن الأحاديث متعارضة متدافعة، في إفساد صوم من احتجم، فأقل أحواله أن يسقط الاحتجاج بها، والأصل أن الصائم لا يُقضى بأنه مُفطر إذا سَلِم من الأكل والشرب والجماع، إلا بسنة لا معارض لها" (الاستذكار لابن عبد البر [1/125]).
3- "أن الأصل في العبادات -والصوم منها- الوقوف عند النصوص، والأحكام التعبدية، لا يُقاس عليها" (الشرح الممتع [6/353]).
4- "الحجة -هنا- عدم الحجة؛ لأن الصوم عبادة شرع فيها الإنسان على وجه شرعي، فلا يُمكن أن نفسد هذه العبادة إلا بدليل" (نفس المرجع السابق).
5- "الأصل عدم التفطير، وسلامة العبادة حتى يثبت لدينا ما يفسدها" (نفس المرجع السابق).
6- "أننا إذا شككنا في الشيء، أمفطر هو أم لا فالأصل: عدم الفطر، فلا نجرؤ أن نفسد عبادة متعبُّدٍ لله إلا بدليل واضح، يكون لنا حجة عند الله عز وجل" (الشرح الممتع [6/370]).
7- "أن سائل التنقية والمواد المضافة إليه في عملية غسيل الكلى لا يُقصد بها التغذية من حيث الأصل لبدن المريض المعالج، حتى ولو كان في هذه المواد ما يمكن وصفه بالتغذية، بل تحولت إلى كونها مواد علاجية دوائية، لإعادة التوازن لمكونات الدم في بدن المريض، فالأصل المقصود بها: العلاج والدواء والتغذية تابعة، والتابع تابع" (من كلام: د. عادل عبد القادر قوته، في بحثه: "غسيل الكُلى واثره في إفساد الصوم"، المقدَّم في الجلسة الأولى، من الندوة الفقهية الأولى: "التداوي بالمستجدات الطبية وأثرها على الصيام"، [ص:37]).
8- إنما نهي الصائم عن إخراج ما يُضعفه، ويُخرج مادته التي بها يتغذى؛ كالمني، كما نهي الصائم عن أخذ ما يقويه من الطعام والشراب الواصل إلى المعدة، وغسل الكلى إخراجًا وإدخالاً ليس كذلك.
9- "أن القائم بغسيل الكلى يقوم بأمر طبيعي من وظائف البدن لا مندوحة عنه في فعله، ولا اختيار له في تركه" (نفس المرجع السابق).
10- وأرجع لما ذكرتُه سابقًا في خلاف (الجوف)، فغسيل الكُلى بنوعيه البريتوني، والإنفاذ الدموي لم يدخل إلى الجوف من منفذ طبيعي مفتوح، بل لم يدخل إلى الجوف أصلاً، لأني كما قررت سابقًا أن الجوف هو المعدة.
الخلاصة والترجيح:
من العرض الطبي السابق، وكذا ماذكرته من الخلاف في الحجامه وغسيل الكلى وما صحب ذلك من عرض لأدلة كل فريق ممن قال بفساد الصوم بهما (الحجامة وغسل الكلى) وممن قال بعدم الفساد في ذلك فإني أُعيد القول في ذلك كلهُ إلى طريقتي الغسيل الكلوي التي ذكرتهما بداية، وبتطبيق هاتين الطريقتين على مريض الفشل الكلوي المزمن، والمحتاج إلى العلاج بعملية الغسيل الكلوي؛ فأنه سيكون أمامه أن يعمل ما يلي:
أولاً: المريض القائم بغسيل الكُلى بطريقة الغسيل الدموي (الديلزة الدموية):
سيكون في يوم الغسيل مفطرًا، وسيكون عليه قضاء بعد ذلك أن قدر عليه بعد شهر رمضان في الأيام التي لا يقوم فيها بالغسيل، وهذه العملية -كما ذكرت سابقاً- تستغرق من 3 إلى 4 ساعات ثلاثة أيام أسبوعيًا.
وهذا المريض في هذه الحالة الذي أراه أنه يمكنه الأخذ بقول من رأى بعدم فساد الصوم بذلك، وإن كنت أنصح هؤلاء المرضى الذين يستخدمون هذه الطريقة بالقيام بعملية الغسيل ليلاً، خاصة وأني سألت أحد الأطباء ممن أثق به أنه يمكن للمريض برمجة وقته ليكون الغسيل ليلاً، فالمهم أن تكون ثلاث مرات، إلا أن بعض المرضى قد تزداد لديهم الحالة فيحتاجون إلى الغسيل في أي لحظة من ليل أو نهار، وحينئذٍ جاز له فعل ذلك ولو كان صائمًا.
ثانيًا: المريض القائم بغسيل الكلى بطريقة الغسيل البريتوني (الديلزة الصفاقية):
فهذا كما لاحظنا من العرض الطبي لا يقدر على الصيام نهائيًا لأن هذا النوع من الغسيل -كما ذكرنا سابقاً- يجب أن يستمر يوميًا من 7 إلى 9 ساعات، ولا يمكن أن يتوقف عنه ولو ليوم وأحد. فهذا -والعلم عند الله- يسقط عنه الصيام لأنه في حكم المريض، ومرضه هذا قد يكون من النوع الذي لا يُرجى بُرؤه، فقد شاهدنا مرضى نعرفهم مصابين بهذا المرض كانت نهايتهم الوفاة -والله المستعان- لذا فالذي يظهر -والله أعلم- أن له الفطر ومما يدل لذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة من الآية:184].
وهذا المريض عليه أن يسأل طبيبه المختص عن حالته؛ فإن كانت هناك طريقة يمكنه عملها ويشفى بإذن الله؛ فهذا يفطر، على أمل الشفاء والقضاء، أما أذا لم يكن لمرضه حلاً طبيًا وأن النهاية ستكون الوفاة فله أن يُفطر ويُطعم عن كل يوم مسكينًا كما في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة من الآية:184]، وقد رأينا من الشريعة السمحة مراعاتها أمر التيسير ورفع الحرج، كما في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة من الآية:185]، وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح من الآية:17]، إلى غير ذلك من الأدلة الشرعية الدالة على هذا المقصد العظيم.
والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- (العرض الطبي السابق لخصته من الجلسة الأولى المنعقدة في الندوة الفقهية الأولى، "التداوي بالمستجدات الطبية، وأثرها على الصيام"، في الرياض بتاريخ 23/8/1428هـ، والتي أعدتها أمانة موقع الفقه الإسلامي، وكانت عنوان هذه الجلسة "غسيل الكُلى، وأثره على الصيام"، البحث الطبي: "طرق الديلزة (تنقية الدم) المستخدم لمرضى الفشل الكلوي"، لعبد الكريم بن عمر السويدا، في سلسلة الإصدارات الفقهية لموقع الفقه الإسلامي، رقم [1]، [ص:9-15]، تاريخ النشر 1428هـ).
2- (هذا الحديث الشريف من أكثر أحاديث الأحكام تجاذبًا بين الأئمة من محدثين وفقهاء، تصحيحًا وتضعيفًا، تسليمًا لظاهره وتاويلاً له، أو القول بأنه منسوخ أو غير منسوخ، وقد روى هذا الحديث كما في نصب الراية [2/341] ثمانية عشر صحابيًا، منه: شداد بن أوس، وثوبان، ورافع بن خديج، وجاء عن آخرين من الصحابة كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وابن عباس، وأبي موسى، وأبي هريرة، وبلال، وأسامة بن زيد، وعائشة، وصفية، وغيرهم رضي الله عنهم، فطرقه كثيرة جداً، وقد أخرجه أبو داود في كتاب الصيام، باب في الصائم يحتجم [1/721]، رقم [2367]، وابن ماجة في كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم [1/537]، رقم [1680]، وأحمد [5/276]، رقم [22425]، وابن خزيمة في كتاب الصيام باب ذكر البيان أن الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم جميع [3/226]، رقم [1963]، وابن حبان في كتاب الصيام [8/301]، كلهم من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
نايف بن جمعان جريدان
- التصنيف:
- المصدر: