أوراق في السيرة و الأخلاق - التبسم.. زاد دعوي

منذ 2014-07-04

لا يسلم التصدي للدعوة إلى الله، وحمل الناس على الرجوع إلى جادة الحق من آثار جانبية، وعوارض غير محمودة، تفضي أحياناً كثيرة إلى عكس المرجو منها! ذلك أن فلسفة التغيير الإسلامي تقتضي نبل الوسيلة والغاية معاً، واستحضار البعد الإنساني للرسالة.

لا يسلم التصدي للدعوة إلى الله، وحمل الناس على الرجوع إلى جادة الحق من آثار جانبية، وعوارض غير محمودة، تفضي أحياناً كثيرة إلى عكس المرجو منها! ذلك أن فلسفة التغيير الإسلامي تقتضي نبل الوسيلة والغاية معاً، واستحضار البعد الإنساني للرسالة.

غير أن التدافع الحاصل بين الحق وتجليات الباطل المتعددة يحمل بعض العاملين في حقل الدعوة، بل وكل مسلم غيور، على المبالغة في إظهار الحزم والشدة، مما يمس جانب الرفق واللين في تبليغ الدعوة، وترشيد أنماط التدين المغلوطة.

ومما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، ألا يقف المسلم في التصدق وفعل الخير عند عتبة (المادي)، بل يتجاوزه إلى (المعنوي)، الذي يمثل لُحمة العلاقة بالآخر وسداها، فجاء في الحديث الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة» (صحيح الجامع)، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق».

قد يبدو هذا الفعل هيناً إذا قورنت كلفته بأعمال البر الأخرى، التي تتطلب بذل المال أو الجهد، لكن الحقيقة أنه أمر شاق، خصوصاً على النفس التي لم تتعود الخير، يقول الأستاذ محمد قطب: "إن تبسمك في وجه أخيك، الذي يبدو لك هينًا حتى ما يصح أن يوضع في الصدقات، لهو أشق على النفس التي لم تتعود الخير ولم تتجه إليه، هناك ناس لا يبتسمون أبداً، ولا تنفرج أساريرهم وهم يلقون غيرهم من الناس، إنهم شريرون أو في نفوسهم مرض، وينابيع الخير مغلقة في نفوسهم وعليها الأقفال" (1).

أما الزعم بأن التجهم والعبوس وتقطيب الجبين ضرورة، يفرضها الحزم والحرص على الوقار الداخلي، فهو زعم لا ينهض، ولا يتكئ على دليل شرعي، فقد كان هديه صلى الله عليه وسلم هو البشاشة والتبسم، ولقيا الناس بالبشرى والاستبشار، وكان في ضحكه ومزاحه ودعابته وسطاً بين من جف خلقه، ويبس طبعه، وتجهم محياه،  وعبس وجهه، وبين من أكثر من الضحك، واستهتر في المزاح، وأدمن الدعابة والخفة (2).

وكما أن في البسمة تأليفاً للقلوب، واستحضاراً لقيم المودة والإخاء الإنساني فإنها كذلك زاد دعوي يهيئ النفوس لتمثل حقائق الإسلام، ويُعين على تقريب الأفهام لمراد الله ورسوله، ورُب سامع لكلام الحق يُعرض عنه لعبوس أو غلظة من لدن الداعي، فإذا ألقت عليه البسمةُ رداء الإيناس نشطت روحه، وانشرح صدره، وأذعن للحق راضياً، وهو ما فطن إليه سلف هذه الأمة مبكراً في تشديدهم على لزوم جانب اللين والبشاشة، والتماس أرق العبارات وألطف الأساليب.

يقول الإمام أبو حاتم البستي: "البشاشة إدام العلماء، وسجية الحكماء؛ لأن البشر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي، ومن بش للناس وجهاً لم يكن عندهم بدون الباذل لهم ما يملك، لذا لا يجب على العاقل إذا رُزق السلوك في ميدان طاعة من الطاعات، إذا رأى من قصر في سلوك قصده، أن يُعبس عليه بعمله ووجهه، بل يُظهر البشر والبشاشة له فلعله في سابق علم الله أن يرجع إلى صحة الأوبة إلى قصده عما يجب عليه من الحمد لله، والشكر له على ما وفقه لخدمته وحرم غيره مثله" (3).

أما الماوردي فيستهل حديثه عن المزاح بذم الإفراط فيه، وحث العقلاء على اجتنابه، إلا في إحدى حالتين: "إحداهما إيناس المصاحبين، والتودد إلى المخالطين، وهذا يكون بما أنس من جميل القول، وبسط من مستحسن الفعل... والحالة الثانية أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سأم وأحدث به من هم" (4).

إن التوجيه النبوي الذي يأمر بالتبشير وينهى عن التنفير، هو الإطار العام الذي ينبغي أن يتحرك داخله كل من انتسب لصف الدعاة والعاملين للإسلام، فواقع الحياة الإنسانية اليوم حافل بالهموم والمنغصات، التي أفقدت المسلم المعاصر زمام نفسه، وألقت به في متاهة اليأس والكآبة والارتياب، لذا فمن مقتضيات التيسير الذي حث الشارع الحكيم على لزومه والأخذ به أن يجنح الخطاب الدعوي إلى الرفق والتلطف، وبث الأمل والإيجابية في النفوس حتى تسترد حيويتها وفاعليتها، وتتفجر فيها ينابيع الخير والطموح إلى آفاق أرحب.

إن التبسم هبة الله التي تؤلف القلوب، والمفتاح الذي تلين له مغالق النفوس، وهي المدخل اليوم لاستعادة قيم وجدانية، كادت أن تندثر تحت وطأة اللهاث خلف المادة، والسعي للإشباع والابتلاع.

فجربها..

جرب أن تلقى الناس بوجه طلق، وعلى فمك ابتسامة مشرقة، ولن تندم على التجربة قط!
إنها لتستطيع وحدها أن تفتح مغالق النفوس، وتنفذ إلى الأعماق، تنفذ إلى القلب! إلى الطاقة المكنونة في الكيان البشري، فتربط بينها وبينك برباط الجاذبية، حينئذ تصير قطعة من الكون الأعظم، دائرة معه في فلكه الفسيح؛ لأنك تلتقي بفطرتك الصحيحة مع فطرته الحقة، فتلتقيان في الناموس الكبير.
وحينئذ ترى الله! فهذا هو الطريق! (5).

ـــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد قطب: قبسات من الرسول. دارالشروق. 2003. ص 115.
(2) د. عائض القرني: محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه. دار ابن حزم. 2002. ص 97.
(3) أبو حاتم البستي: روضة العقلاء ونزهة الفضلاء. مكتبة نزار مصطفى الباز. 2006. ص 122.
(4) أبو الحسن الماوردي: أدب الدنيا و الدين. دار اقرأ. بيروت 1985. ص 319.
(5) محمد قطب: مرجع سابق. ص 122.

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

  • 2
  • 0
  • 6,298
المقال السابق
عبد القطيفة!
المقال التالي
جبريون وربِ الكعبة!

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً