واحد من البشر يحبه الله

منذ 2014-07-09

ينال العبد محبة الله بمحبة لقاءه والقدوم عليه والشوق لرؤيته فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وهذا لا يقصد به تمني الموت، وإنما يقصد به أن لا يخاف من الموت ولا يرهبه القدوم عليه سبحانه وتعالى، وإنه ليعمل في هذه الدنيا بما أمره ربه وهو مشتاق ومستعد في لحظة من اللحظات أن ينقلب إليه، وإن الذي لا يحب لقاء الله قد غرق بالمعاصي والسيئات وقيدته ذنوبه وحرمته من هذه المنزلة العظيمة والدرجة الرفيعة..


الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، خالق الخلق على أحسن الصور، ورازقهم على قدر، ومميتهم على صغر وشباب وكبر، أحمده حمدا يوافي إنعامه، ويكافئ مزيد كرمه الأوفر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من أناب وأبصر، وراقب ربه واستغفر.
 

وليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين *** وكل الذي فوق التراب تراب


وأشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الطاهر المطهّر، المختار من فهر ومضر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذويه، ما أقبل ليل وأدبر، وأضاء صبح وأسفر، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:
عباد الله يسعى كثير من الناس خلال مسيرة حياتهم إلى كسب حب وإعجاب ورضا غيرهم من البشر طلباً للسلامة، أو طمعاً في منصب أو جاه أو مال، وأحياناً للمودة والقربى، وربما قد يكون هذا الحب والإعجاب لصفات وقيم وأخلاق، وقد يكون الحب أحياناً للاستعانة بهذا المحبوب على نوائب الدهر وآفات الزمان وتقلبات الأحوال، ويبذلون لأجل الوصول لهذا الحب والإعجاب الوقت والجهد والمال والنفس، هدفهم السعادة في الحياة وراحة البال وتحقيق الآمال، ذلك أنهم اعتقدوا أن غيرهم من البشر يستطيع أن يحقق لهم ذلك ولو كان يمتلك من أسباب القوة الشيء الكثير، ولكن هيهات، فهذا الحب والرضا معرض للزوال، ولن يكون سبباً لراحة هذا الإنسان إلا بمشيئة الله وإرادته.

لذلك كان الأولى بكل إنسان أن يبحث عن حب من بيده الأسباب والذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والذي قلوب العباد بين أصابعه يقلبها كيفما يشاء، إنه الله سبحانه وتعالى القائل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165].

إن أعظم كرامة قد يصل إليها العبد وأعظم حبٍ قد يناله هو حب الله له ورعايته وحفظه وقبول عمله وليس بعد ذلك من نعيم في هذه الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحببه فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» (البخاري).

وتخيلوا أحد من البشر يحبه رب البشر ويحبه أهل السماوات ويوضع له القبول في الأرض أي سعادة سيكون فيها!! إنها سعادة لا تأتي بها الأموال ولا المناصب ولا الأتباع ولن تصل إليها مهما كثرة وتعددت وتنوعت لأنها من عند الله وهي ثمرة حب الله لعبده قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} [المائدة: 54].

لقد وقف هود عليه السلام بهذا الحب يتحدى أشقياء الأرض وجبابرة الزمان وحيداً فمن كان الله معه مما يخاف وماذا يرجو؟ {قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ . إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . مِنْ دُوْنِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 53-56]. فكيدوني جميعًا لا يتخلف منكم أحد.. يا لروعة الإيمان والثقة واليقين بالله.

ذُكِر عن رجل من أهل العلم أنه كتب كتاباً في تفسير القرآن العظيم، وكان فقيراً، فخرج إلى إخوانه وخلانه من العلماء يستشيرهم، فأشاروا عليه برجل عنده المال والثراء، فقالوا له: اذهب إلى فلان يعطك المال فتنسخه، فاستأجر رحمه الله سفينة، وخرج في البحر حتى إذا مشى وأراد ذلك الثري ليعينه بالمال، فسخَّر الله له رجلاً يمشي على شاطئ البحر، فأمر قائد السفينة أن يركبه معه، فلما ركب الرجل معه سأل العالم وقال له: "من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قال: المفسِّر؟ قال: نعم، قال: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: إني ذاهب إلى فلان، أريد منه أن يساعدني في نسخ كتابي. فقال له الرجل: بلغني أنك فسَّرت القرآن؟ قال: نعم، قال: سبحان الله! ماذا قلت في تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]؟"، ففسر العالم الآية، وفهم مراد الرجل، فقال لقائد السفينة: "الآن ترجع بي إلى بيتي"، فرجع رحمه الله إلى بيته وكله يقين بالله عز وجل أن الله سيسد فقره، وأن الله سييسر أمره..

فما مضت إلا ثلاثة أيام وإذا برجل يقرع الباب، فلما فتح الباب، قال له: "إني رسول فلان إليك، بلغه أن عندك تفسيراً للقرآن يحب أن يراه، فأعطاه ذلك الكتاب الذي خرج من أجل أن يعرضه عليه، فرجع الرسول بالكتاب، فنظر فيه ذلك الثري فأعجبه، فأمر أن يوضع في كفة وأن يصب الذهب في كفة وأن يُبعث بذلك إلى الإمام". ما وثق أحدٌ بالله فخيبه الله، ولا أيقن عبدٌ بالله جل جلاله إلا كان الله له، فكم من أمورٍ نزلت بالإنسان وخطوبٍ أحاطت به ولم يجد غير الله مجيباً ولا مفرجاً.

أيها الناس.. عباد الله:
إن محبة الله منزلة تطلع إليها أقوامٌ، وزعمها أقوامٌ، وانحرف في الوصولِ إليها أخرون؛ فقد زعم اليهود والنصارى حب الله لهم مع عصيانهم وكفرهم به قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]. إن حب الله لا يناله العبد إلا بعد حب العبد لربه وتعلقه به والرضا بحكمه وقدره والالتزام بشرعه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32]. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يدعو على الصفا والمروة في مناسك الحج فكان يقول: "اللهم اجعلني ممن يحبك، ويحب ملائكتك، ويحب رسلك، ويحب عبادك الصالحين، اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين".

وقال أحد علماء التابعين رحمه الله: "مساكينٌ أهلُ الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته"، وقال أخر: "والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته".

فإذا كان حب الله للعبد بهذه المنزلة وبهذه العظمة وله ثمار تعود بركتها وخيريتها على العبد في الدنيا والآخرة، فإنه ينبغي علينا أن نبحث عن ما يحبه الله من الأقوال والأفعال والأعمال ونسارع للقيام بها والتزامها وتحقيقها في حياتنا، ومن تتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجد أنه ما من أحد إلا ويستطيع أن يكون ممن يحبهم الله ويرضى عنهم، وإن أول صفاتهم وأعمالهم أنهم يؤدون ما افترض الله عليهم من العبادات والطاعات ويتزودوا بعد ذلك بالنوافل من الأقوال والأفعال والأذكار.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّبُ إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» (البخاري)، إن من كان الله معه بهذه الصفة وبهذه الكيفية أي شيء من الدنيا يريد بعد ذلك؟!

ومن هذه الصفات التي تجلب للعبد محبة الله أن يقدم العبد محاب الله وأوامره على محابه ورغباته وشهواته. وتأملوا معي إلى نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، والخلة من أعلى درجات المحبة. أمره ربه تبارك وتعالى أن يذبح ولده! أيُّنا لا يحب ولده؟! أيُّنا لم يمتلئ فؤاده لحب أبنائه؟! فقال: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102]. أي امتحان أعظم من هذا الامتحان؟! وأي محنة واختبار وتمحيص من الله تبارك وتعالى لعبدٍ أعظم من هذا الابتلاء؟! ورؤيا الأنبياء حق ووحيٌ من الوحي. فقال له إسماعيل عليه السلام: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] إنه الإيثار! إنه الحب! إنه الولاء لله جل في عليائه! {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103].

طلب إسماعيل من أبيه أن يصرف وجهه عنه لأن القلب يعشق هذا الابن ويخفق بحبه ولا يريد أن يَرَى الدم يخرج من وجهه أو من رقبته، ولا يريد الابن أن ينظر إلى المعاناة التي ستكون في وجه أبيه. فتلَّه للجبين وأخذ السكين وبدأ يؤثر محبة الله عز وجل على محبته هو لولده، ونجح في الاختبار، وفاز في الامتحان وقدَّم مُراد الله عز وجل على مُراد النفس فجاء الفداء وجاء الخلاص من الرب العظيم الرحيم بعباده قال تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107].

والله عز وجل قد كفانا أن نقتل أنفسنا أو أبنائنا لنثبت صدق حبنا له وحبه لنا، فهناك أعمالاً كثيرة ومتعددة ينال بها العبد محبة الله، فأنت عندما تقدم ما يحبه الله فإن الله يحبك، عندما تنهض من نومك لصلاة الفجر وأنت بحاجة إلي النوم وتقدم أمر الله على شهوتك ورغبتك فإن الله يحبك، وعندما تخرج الزكاة من مالك وأنت تحب المال حباً جما لكنك قدمت أمر الله فإن الله يحبك، وعندما تبتعد عن الحرام والنفس تنازعك والشيطان يمنيك ويعدك ويزينه لك لكنك التزمت أمر فإن الله يحبك.

وعندما تترك المجاملة والتزلف والنفاق لإرضاء فلان من الناس وتكلمت بالحق ولم تداهن فيه فإن الله يحبك وعندما تقدم الله وتؤثره على كل شيء فإنه يحبك، إن حنظلة بن عامر رضي الله عنه في ليلة عرسه يسمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد والخروج إلى معركة أحد فترك فرشه وعرسه؛ خرج وهو جنب فقاتل قتال الأبطال ثم قتل فغسلته ملائكة الرحمن بين السماء والأرض بصحائف من ذهب بماء المزن. لقد فاز بجنة عرضها السموات والأرض. فإياك أن تقدم هواك ورغباتك أو أمر فلان وعلان على أمر الله حتى لا تكن من المحرومين من محبيته.

عباد الله:
وينال العبد محبة الله بالمحافظة على الطهارة والنظافة وجمال الهيئة والمنظر والملبس في البيت والشارع والمسجد قال تعالى عن عباده المؤمنين وهم فبيوت الله: {فيه رجالٌ يُحبُّون أن يتطهَّروا واللهُ يحبُّ الْمطَّهِّرين} [التوبة: 108]. أما التجمل لله فهو التزين لله بلا كبر ولا استحقار لعباده لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس» (رواه مسلم).

وينال العبد محبة الله بكثرة ذكره بتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والاستغفار ذلك أن أفضل ما عمرت به الأوقات واشتغلت به القلوب والجوارح هو ذكر الله تبارك وتعالى في كل حين وعلى كل حال؛ فالذاكرون يذكرهم الله يقول سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرَّب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» (رواه البخاري).
 

أحبكَ حُبين: حبُ الهوى *** وحبٌ لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حبُ الهوى *** فشغلي بذكركَ عمن سواكَ
وأما الذي أنتَ أهلٌ له *** فكشفك لي الحُجب حتى أراكا
فما الحمدُ في ذا وفي ذاك لي *** ولكن لكَ الحمدُ في ذا وذاكا
يا حبيبَ القلبِ ما لي سِواكا *** فارحم اليومَ مُذنبا قَد أتاكا
يا رَجائي وراحتي وسُروري *** قَدْ أَبى القلبُ أن يُحبَ سِواكا


قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:
عباد الله: ومن أراد أن ينال محبة الله فلا ينبغي أن يعيش لنفسه وحسب، بل لا بد أن يكون نفاعاً خدوماً لإخوانه وأبناء مجتمعه؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل - سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه ديناً أو يطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد -مسجد المدينة- شهراً ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كتم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام» (السلسلة الصحيحة للألباني: 906). ألا يستطيع أحدنا أن يقوم ببعض هذه الأعمال لينال محبة الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].

هذا ابن المبارك عليه رحمة الله حج مع جمع من أهلِ (مَرو) فلما كانوا في منتصف الطريق نزلوا في مكان ليستريحوا قليلا بجانب قرية من القرى، وبينما هم كذلك إذ بهم يرون امرأة قد أخذت دجاجة ميتة كانت في عرض الطريق فسألها ابن المبارك لما يا أمة الله؟ قالت: لقد أصيب أهل هذه القرية بالمرض والجوع ولي صبية صغار والله ما أجد ما أطعمهم، فتأثر ابن المبارك ومن معه ونادى فيهم ليس لكم حج هذا العام وأخذ الأموال والطعام ودفعها إلى أهل تلك القرية فأدخل السرور عليهم وقضى حاجتهم وعاد إلى بلاده. كم من الأجر سيناله وكم من الدعوات تلهج بها ألسنة الفقراء والمحتاجين والأيتام ستطاله؟

عباد الله: وينال العبد محبة الله بمحبة لقاءه والقدوم عليه والشوق لرؤيته فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وهذا لا يقصد به تمني الموت، وإنما يقصد به أن لا يخاف من الموت ولا يرهبه القدوم عليه سبحانه وتعالى، وإنه ليعمل في هذه الدنيا بما أمره ربه وهو مشتاق ومستعد في لحظة من اللحظات أن ينقلب إليه، وإن الذي لا يحب لقاء الله قد غرق بالمعاصي والسيئات وقيدته ذنوبه وحرمته من هذه المنزلة العظيمة والدرجة الرفيعة. عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت قال: ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشّرَ برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بُشّرَ بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه كره لقاءه وكره الله لقاءه» (رواه البخاري).

كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يخرج إلى الصحراء يخلو عن الناس بربه، ويتمثل بقول الشاعر:
 

وأخرج من بين البيوت لعلَّني *** أحدِّث عنك النفسَ بالسر خالياً


وهذا الصحابي الجليل معاذ بن جبل حين حضرته الوفاة، وجاءت ساعة الاحتضار نادى ربه قائلاً: "يا رب إنني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك. اللهم إنك تعلم أنني ما كنت أحب الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار. وإنما لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق العلم"، ثم فاضت روحه بعد أن قال: لا إله إلا الله. ودخل المزني على الإمام الشافعي في مرضه الذي توفي فيه فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟! فقال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها، ثم أنشأ يقول:
 

ولما قَسا قَلبي وضاقت مَذاهِبي *** جَعلتُ رَجائي نحو عَفوِكَ سُلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوِكَ ربي كان عفوُكَ أعظما
فما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل *** تجود و تعفو منة وتكرما


ثم تشهد ومات رحمه الله.
فلنحسن علاقتنا بربنا ولنعمل بما أمرنا ولنقتدي برسولنا صلى الله عليه وسلم، ولنسارع إلى العمل الصالح حتى ننال رضا ربنا ومحبته. اللهم إنا نسألك لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. آمين.

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

 حسان أحمد العماري

  • 16
  • -1
  • 31,589

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً