هل ثبت عن السلف أنهم كانوا يتركون مجالس العلم في رمضان؟
قال ابن القيم في مدارج السالكين: "الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود والجود به أفضل من الجود بالمال لأن العلم أشرف من المال".
كتب : أبو جعفر عبد الله الخليفي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد:
فإن مما اشتهر في هذه الأعصار أن السلف كانوا يتركون مجالس العلم في شهر رمضان ويتفرغون لقراءة القرآن، والحق أن ذلك قد ورد عن ثلاثة من علماء السلف وهم الزهري وهو تابعي وعن الثوري ومالك وهما من أتباع التابعين، ولم يرد شيءٌ عن الصحابة في ذلك.
قال ابن رجب في (لطائف المعارف: [1/183]): "كان الزهري إذا دخل رمضان يقول: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام"، قال ابن الحكم: "كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم".
قال عبد الرزاق: "كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن" (أهـ).
وهذه الآثار الثلاثة لم أجد لها أسانيد بعد البحث الطويل، ولم أجد أحداً ذكرها قبل الحافظ ابن رجب، وقد استعنت ببعض البرامج البحثية. ثم وجدت سنداً لأثر الزهري: قال ابن عبد البر في (التمهيد: [6/111]): حدثنا خلف بن أحمد، حدثنا أحمد بن سعيد قال: سمعت عبد الله ابن جعفر أبا القاسم القزويني يقول: سمعت طاهر بن خالد بن نزار يقول: سمعت أبي يقول سمعت القاسم بن مبرور يقول: سمعت يونس بن يزيد يقول: "كان ابن شهاب إذا دخل رمضان فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام، وكان ابن شهاب أكرم الناس وأخباره في الجود كثيرة جدا نذكر منها لمحة دالة" (أهـ).
أقول: وهذا سندٌ لا يصح فعبد الله بن محمد بن جعفر أبو القاسم القزويني، قال ابن عساكر في ترجمته من (تاريخ دمشق: [32/ 169]): "قال ابن المقرئ هكذا حدثنا هذا الشيخ ورأيت أصحابنا ضعفوه بعد كتابنا عنه والله اعلم وأنكروا عليه أشياء" (أهـ).
وقال أيضاً [32/ 171]: أخبرنا أبو محمد بن الأكفاني شفاهانا عبد العزيز بن احمد نا تمام بن محمد اجازة أنا أبو عبد الله بن مروان قال وكان خليفته يعني محمد بن العباس الجمحي على دمشق عبد الله بن محمد القزويني كتب إلي أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن مندة وحدثني أبو بكر اللفتواني عنه أخبرنا عمي عن أبيه ح قال اللفتواني وأنا أبو عمرو بن مندة إجازة عن أبيه أبي عبد الله قال قال أنا أبو سعيد بن يونس: "عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني يكنى أبا القاسم كان فقيها على مذهب الشافعي وكانت له حلقة بمصر.
وكان قد تولى قضاء الرملة وكان محمودًا فيما يتولى وكان يظهر عبادة وورعا وكان قد ثقل سمعه شديدا وكان يفهم الحديث ويحفظ. وكان له مجلس إملاء في داره وكان يجتمع إليه حفاظ الحديث وذوو الأسنان منهم. وكان مجلسه وقيرا ويجتمع فيه جمع كثير فخلط في آخر عمره ووضع أحاديث على متون محفوظة معروفة وزاد في نسخ معروفة مشهورة فافتضح وحرقت الكتب في وجهه وسقط عند الناس وترك مجلسه فلم يكن يجئ إليه أحد توفي بعد ذلك بيسير" (أهـ)..
وقال أيضاً: "وأخذ عليه أنه كان إذا حدث يقول لأبي جعفر بن البرقي في حديث بعد حديث كتبت هذا عن أحد فكان ذاك يقول له نعم كتبته عن فلان وفلان فلما كثر هذا منه، قال له القزويني ما مثلي ومثلك إلا كشاعر جاء إلى رجل فمدحه بقصيدة فلما فرغ منها وانتظر جائزته قال له هذه قصيدة مقولة فحلف ذاك أنه ما قالها إلا هو وأنه سهر فيها حتى نظمها فقال له الممدوح أنا أنشدك إياها حتى تعلم أنها مقولة فأنشده إياها فأنكر الناس هذا على القزويني مع ما أنكروا عليه واتهموه بأنه يفتعل الأحاديث" (أهـ).
وفي سؤالات الحاكم للدارقطني: [115] سألت أبا الحسن عن عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني المحدث بمصر فقال: "كذاب يضع الحديث" (أهـ).
أقول: فهذا الأثر موضوع على الزهري والله أعلم.
وقال المزي في (تهذيب الكمال: [2/397]): وَقَال عَبد الله بن الحسين المصيصي: "سمعت عَبد الله بن يوسف يقول: سماعي [ الموطأ] من مالك عرض الحنيني، عرضه عليه مرتين، سمعت أنا وأبو مسهر. قال: وكان الحنيني إذا دخل شهر رمضان، ترك سماع الحديث. فقال له مالك: يا أبا يعقوب، لم تترك سماع الحديث في رمضان؟ إن كان فيه شيء يكره في رمضان، فهو في غير رمضان يكره؟ فقال له الحنيني: يا أبا عَبد الله، شهر أحب أن أتفرغ فيه لنفسي" (أهـ).
المصيصي قال عنه ابن حبان في المجروحين: "كَانَ يَقْلِبُ الأَخْبَارَ وَيَسْرِقُهَا، لاَ يَجُوْزُ الاحْتِجَاجُ بِهِ إِذَا انْفَرَدَ" (أهـ).، أقول: وهذا الأثر -إن صح- يخالف ذلك الذي أورده ابن رجب عن الإمام مالك، فظاهره أن الإمام مالك ينكر على من ترك مجالس الحديث في رمضان، ويقيس في ذلك قياساً صحيحاً، وهو أن ما كان قربةً في غير رمضان، فهو قربة في رمضان أيضاً، ولكن الأثر لا يصح عن مالك، وحتى الأثر الذي ذكره ابن رجب لو صح إلى ابن عبد الحكم فلا يصح عن مالك فإن ابن عبد الحكم لم يدرك مالكاً.
وقبل أن أن أتيح المجال للإخوة ليفيدوا بما عندهم في هذا الموضوع:
هنا عدة تنبيهات:
التنبيه الأول:
لا شك عند عموم المسلمين في فضل القرآن وضروروة العناية به لكل مسلم وأن ذلك يتأكد في رمضان.
قال أبو عبيد القاسم ببن سلام في (فضائل القرآن: [234]): "حدثنا حجاج، عن شعبة، عن محمد بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، أنه كان يقرأ القرآن في رمضان في ثلاث".
وقال ابن كثير في فضائل القرآن: "ولهذا يستحب إكثار تلاوة القرآن فى شهر رمضان لأنه ابتدئ بنزوله ولهذا كان جبريل يعارض به رسول الله فى كل سنة فى شهر رمضان" (أهـ).
ولكن لا بد لقاريء القرآن من تدبره، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]، قال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة: [1/74]): الوجه الخامس والخمسون: "ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».
وتعلم القرآن وتعليمه يتناول تعلم حروفه وتعليمها وتعلم معانيه وتعليمها وهو اشرف قسمي علمه وتعليمه فإن المعنى هو المقصود واللفظ وسيلة اليه فنعلم المعنى وتعليمه تعلم الغاية وتعليمها وتعلم اللفظ المجرد وتعليمه تعلم الوسائل وتعليمها وبينهما كما بين الغايات والوسائل" (أهـ).
وقال شيخ الإسلام كما في (مجموع الفتاوى: [17/ 424]): "وأما النوع الثاني الجهال فهؤلاء الأميون الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون. فعن ابن عباس وقتادة فى قوله {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} [البقرة من الأية:78] أي غير عارفين بمعاني الكتاب يعلمونها حفظا وقراءة بلا فهم ولا يدرون ما فيه. وقوله {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة من الأية:78] أي: تلاوة. فهم لا يعلمون فقه الكتاب إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم. قاله الكسائي والزجاج وكذلك قال ابن السائب لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته إلا أمانى إلا ما يحدثهم به علماؤهم. وقال أبو روق وأبو عبيدة أي تلاوة وقراءة عن ظهر القلب ولا يقرأونها فى الكتب ففي هذا القول جعل الأماني التى هي التلاوة تلاوة الأميين أنفسهم وفي ذلك جعله ما يسمعونه من تلاوة علمائهم وكلا القولين حق والآية تعمهما" (أهـ).
أقول: ولا شك أن تعلم السنة من أعظم ما يعين على فهم القرآن. قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل من الأية:44]
فلا يجوز والحال هذه، أن يجعل تعلم السنة المعين على فهم القرآن من الصد عن القرآن الذي يتأكد الإقبال عليه في شهر رمضان، بل إن تعلم السنة من أعظم ما يعين على فهم القرآن.
وقال ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله: [178/2]): "والكلام في العلم أفضل من الأعمال، وهو يجري عندهم مجرى الذكر والتلاوة إذا أريد به نفي الجهل ووجه الله تعالى والوقوف على حقيقة المعاني" (أهـ).
قال الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34].
قال الشافعي في (الرسالة ص: [77]): "فذكر الله الكتاب وهو القرآن وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول الحكمة سنة رسول الله" (أهـ).
أقول: فإذا كانت الحكمة هي السنة، فالأمر بذكرها شاملٌ لكل السنة، لا فرق بين شهر وشهر.
والزهري ومالك وسفيان إذا قرأوا القرآن، فقهوه على وجهه لما عندهم من علم الكتاب والسنة وآثار السلف، واكتمال أدوات الاجتهاد عندهم، وهذا لا يوجد في عامة أهل عصرنا.
قال زهير بن حرب في (كتاب العلم: [97]): "ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن أيوب قال قال رجل لمطرف: أفضل من القرآن تريدون؟ قال: لا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا".
وهذا يبين منهجية السلف في طلب فقه القرآن، وأن ذلك يكون بطلب الأحاديث النبوية والآثار السلفية.
التنبيه الثاني:
الأثر الوارد عن سفيان فيه أنه كان يترك جميع العبادة، يدل على أنه يترك فضول المباحات من باب أولى.
فلا يأتي شخصٌ مسرف في المباحات ولا يقبل على القرآن إقبال السلف، بل إذا قرأه هذه هذاً، ولا يفقه كثيراً منه، ثم يترك مجالس العلم بل ينكر على من يرى في يده كتاباً، أو يحضر مجالس العلم بحجة اتباع السلف!
التنبيه الثالث:
قال البخاري في صحيحه [1902]: "حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ".
أقول: وأعظم الجود، الجود بالعلم.
قال ابن رجب في (لطائف المعارف ص: [171]): "فدل هذا على أنه صلى الله عليه وسلم أجود بني آدم على الإطلاق. كما أنه أفضلهم وأعلمهم وأشجعهم وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة. وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق من إطعام جائعهم ووعظ جاهلهم وقضاء حوائجهم وتحمل أثقالهم، ولم يزل صلى الله عليه وسلم على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ" (أهـ).
وما قاله ابن رجب متجه فالصحابي قال "أجود بالخير" ولم يقل "أجود بالمال"، والألف واللام للاستغراق فتفيد العموم، والمناسبة بين الجود بالعلم ومعارضة جبريل بالقرآن، أظهر وأبين من المناسبة بين الجود بالمال ومعارضة جبريل بالقرآن وإن كان كلاهما واقعاً منه صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن القيم في (مدارج السالكين: [2/292]): "الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود والجود به أفضل من الجود بالمال لأن العلم أشرف من المال" (أهـ).
وقال شيخ الإسلام كما في (مجموع الفتاوى: [4/42]): "كما أن لله ملائكة موكلة بالسحاب والمطر فله ملائكة موكلة بالهدى والعلم هذا رزق القلوب وقوتها وهذا رزق الأجساد وقوتها قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة من الأية:3] قال إن من أعظم النفقة نفقة العلم أو نحو هذا الكلام وفي أثر آخر نعمت العطية ونعمت الهدية الكلمة من الخير يسمعها الرجل فيهديها إلى أخ له مسلم" (أهـ).
أقول: فإقامة مجالس للعلم تسد شيئاً من حاجة الناس إلى الوحي، من أعظم ما يحصل به الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في جوده في شهر رمضان. بل حاجة الناس إلى العلم أعظم من حاجتهم إلى المال، قال شيخ الإسلام كما في (مجموع الفتاوى: [22/ 402]): "فَتَبَيَّنَ أَنَّ حَاجَةَ الْعِبَادِ إلَى الْهُدَى أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إلَى الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا؛ فَلِهَذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ هُوَ الْمَفْرُوضُ عَلَيْهِمْ" (أهـ).
التنبيه الرابع:
نجد بعض الناس يتركون مجالس العلم في شهر رمضان، وربما أنكروا على من يحضرها في هذا الشهر، والحجة اتباع السلف!، ثم نجده حريصاً حرصاً عظيماً على إعطاء كلمة بعد الركعات الأربع الأولى من صلاة التراويح ولم يثبت هذا عن أحدٍ من السلف فأين اتباعهم؟!
التنبيه الخامس:
قال الذهبي في ترجمة يحيى بن محمد بن يحى الذهلي من (سير أعلام النبلاء: [12/ 288]) وهو من رجال ابن ماجه: "وسمعت محمد بن صالح يقول: حضرنا آخر مجلس للإملاء عند يحيى بن محمد الشهيد في شهر رمضان من سنة سبع وستين ومئتين، وقيل في شوال" (أهـ).
وهذا - إن صح - يدل على شهرة تلك المجالس عند السلف في شهر رمضان.
وجاء في سند كتاب الأمالي في آثار الصحابة لعبد الرزاق ما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم، رب زدنى علما أخبرتنا المسندة الخيرة الكاتبة أم عبد الله نشوان بنت عبد الله بن على الكنانية سماعا عليها في تاسع جماد الأول سنة 865 هـ.... وذكر سند الكتاب إلى أن قال: نا أبو عبد الله الحسين بن عبد الجبار السكرى قراءة عليه في يوم السبت 15 شهر رمضان سنة 415 هـ..." وأكمل السند (أهـ).
وجاء في السماعات الموجود في مستخرج أبي نعيم على صحيح مسلم [3/151]: "وكتب يوسف بن خليل بن عبد الله سمع جميع هذا الجزء على الشيخ الإمام العالم الأوحد الحافظ شيخ الإسلام شمس الدين أبي الحجاج يوسف بن خليل بن عبد الدمشقي مد الله تعالى في عمره سماعه فيه بخطه بقراءة الإمام العالم تقي الدين أبي محمد إدريس بن محمد بن أبي الفرج بن بدير الحموي الجماعة العلماء الإمام العالم عماد الدين أبو محمد عبد الحميد بن علي بن الحسن بن عبد الله الدخاني، وشمس الدين أبو الحسن علي بن محمود بن علي، وشمس الدولة بن أبي بكر بن عبد الله بن عمر السهروارديان، والمقري مجد الدين أبو محمد عبد الله بن الحسين بن علي، وأبو البنا محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الأزبكيان، والفقيه رشيد الدين أبو محمد عبد الواحد بن محمد بن علي بن مروان بن أبي بكر الفهري الطرطوشي، وشرف الدين أبو سليمان داود بن أبي بكر بن أبي القعنبي بن قتيبة الفرضي، وبهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن الإمام العالم أقضى القضاة محي الدين أبي المكارم محمد بن قاضي القضاة أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الأسدي..
ونجم الدين أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن عبد الرحمن بن شبلي الأربلي، وأبو حفص عمر بن إبراهيم بن خليل المؤذن الخضري، وعبد الرحمن بن صالح بن هاشم بن العجمي، وابو الحسن علي بن عبد بن عسكر الحلبي ومحمد بن أبي الفتح بن ياقوت الأدمي أبوه وفيا المسمع ابن مو بن عبد الله الكرخي قطب التشريع عبد الصمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن بكران التريحاني وذلك في يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان سنة سبع وأربعين وستمائة بدار المسمع بحلب حماها الله تعالى، والسماع الصحيح والحمد لله على كل حال الحمد لله وحده"
وجاء في سند كتاب فضائل الصحابة للدارقطني: "خْبَرَنَا الشَّيْخُ الصَّالِحُ أَبُو بَكْرٍ مِسْمَارُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعُوَيْسِ النَّيَّارُ الْمُقْرِئُ الْبَغْدَادِيُّ....وذكر السند إلى أن قال: قال: أنا أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الدارقطني الحافظ، قراءة عليه وأنا أسمع يوم الثلاثاء لست بقين من شهر رمضان من سنة خمس وثمانين وثلثمائة" (أهـ).
أقول: فأملى الدارقطني هذا الكتاب في شهر رمضان.
وجاء في أمالي ابن سمعون لأبي الحسن البغدادي المتوفى عام 387 هـ: "وأول المجلس الخامس عشر: حدثنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن سمعون إملاء يوم الثلاثاء النصف من شهر رمضان سنة سبع وثمانين وثلاث مئة" (أهـ)، وجاء في (أمالي المحاملي: [1/ 271]): "مجلس يوم الأحد لأحد عشر بقين من شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة" (أهـ).
وجاء في العمدة لفخر النساء شهدة بنت أحمد بن الفرج الإبري: الشيخ الثالث والعشرون: [102] "أخبرنا الشيخ الصالح والدي أبو نصر أحمد بن الفرج بن عمر الدينوري رحمه الله بقراءة البونارتي في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة تسعين وأربعمائة" (أهـ).
وجاء في سند كتاب الغيلانيات لأبي بكر الشافعي: [1] "أخبرنا أبو محمد الحسن بن عبد الملك بن محمد بن يوسف قراءة عليه فأقر به، وأنا أسمع وهو يسمع وذلك في جمادى الأولى من سنة أربع وتسعين وأربعمائة قال: أنبأ أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان قراءة عليه في شهر ربيع الأول من سنة خمس وثلاثين وأربعمائة قال: ثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله البزاز المعروف بالشافعي إملاء في يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وهو أول سماعي منه" (أهـ).
أقول: فأملى كتابه هذا في شهر رمضان.
وجاء في كتاب المجالس العشرة للحسن الخلال [30]: "حدثنا الحسن بن محمد الشيخ الحافظ إملاء في يوم الجمعة بعد الصلاة لست خلون من شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة بجامع المنصور.. وأكمل السند" (أهـ).
والمتأمل في سماعات أهل الحديث يجد كثيراً من هذا، وقد وقعت هذه السماعات في تلك العصور ولم ينكرها أحد فتأمل.
التنبيه السادس:
اشتهر عند أهل التواريخ والسير أن غزوة بدر وفتح مكة كانا في شهر رمضان، فإذا كان الجهاد البدني مشروعاً في شهر رمضان وليس من الأشهر الحرم فكذلك الجهاد العلمي، وهو أجل من جهاد السيف.
قال ابن القيم في (الفروسية: ص[157]): "فالفروسية فروسيتان فروسية العلم والبيان وفروسية الرمي والطعان
ولما كان أصحاب النبي أكمل الخلق في الفروسيتين فتحوا القلوب بالحجة والبرهان والبلاد بالسيف والسنان.
وما الناس إلا هؤلاء الفريقان ومن عداهما فإن لم يكن ردءا وعونا لهما فهو كل على نوع الإنسان.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله بجدال الكفار والمنافقين وجلاد أعدائه المشاقين والمحاربين فعلم الجدال والجلاد من أهم العلوم وأنفعها للعباد في المعاش والمعاد ولا يعدل مداد العلماء إلا دم الشهداء والرفعة وعلو المنزلة في الدارين إنما هي لهاتين الطائفتين وسائر الناس رعية لهما منقادون لرؤسائهما" (أهـ).
وقال في مفتاح (دار السعادة: [1/80]): "وقد اختلف في تفضيل مداد العلماء على دم الشهداء وعكسه وذكر لكل قول وجوه من التراجيح والادلة ونفس هذا النزاع دليل على تفضيل العلم ومرتبته. فإن الحاكم في هذه المسئلة هو العلم فيه واليه وعنده يقع التحاكم والتخاصم والمفضل منهما من حكم له بالفضل. فإن قيل: فكيف يقبل حكمه لنفسه قيل وهذا ايضا دليل على تفضيله وعلو مرتبته وشرفه. فإن الحاكم إنما لم يسغ ان يحكم لنفسه لاجل مظنة التهمة والعلم تلحقه تهمة في حكمه لنفسه فإنه إذا حكم حكم بما تشهد العقول والنظر بصحته وتتلقاه بالقبول ويستحيل حكمه لتهمة فإنه إذا حكم بها انعزل عن مرتبته وانحط عن درجته فهو الشاهد المزكي العدل والحاكم الذي لا يجور ولا يعزل" (أهـ).
ولا يعزب عن ذهنك أن الرد على أهل البدع أولى من الرد على الكفار.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح [12/34]: "قال ابن هبيرة وفي الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين والحكمة فيه أن في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام وفي قتال أهل الشرك طلب الربح وحفظ رأس المال أولى" (أهـ).
وبهذا يدفع قول من كره الكلام في أهل البدع في شهر رمضان.
ويا ليت شعري إذا كان لا ينكر على من أفضى إلى امرأته في ليلة الصيام لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة من الأية:187]، مع كون هذا الأمر مباحاً في أصله، وقاصر النفع على الرجل وامرأته، فكيف ينكر على من اشتغل بما هو دائرٌ بين الفرض الكفائي، والفرض العيني، ونفعه متعدٍ للمسلمين، ويتأكد في هذه الأعصار التي كثرت فيها الفتن والبدع.
قال الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث [ص225]: "أخبرني عبد الغفار بن أبي الطيب المؤدب، قال: حدثنا عمر بن أحمد بن عثمان، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلج، قال: حدثني جدي، قال: سألت أحمد بن حنبل، قلت: يا أبا عبد الله أيهما أحب إليك: الرجل يكتب الحديث أو يصوم ويصلي؟ قال: يكتب الحديث. قلت: فمن أين فضلت كتاب الحديث على الصوم والصلاة ؟ قال: لئلا يقول قائل: إني رأيت قوما على شيء فاتبعتهم.
قال الخطيب قلت: طلب الحديث في هذا الزمان أفضل من سائر أنواع التطوع لأجل دروس السنن وخمولها، وظهور البدع واستعلاء أهلها" (أهـ).
أقول: هذا في زمن الخطيب فكيف في زماننا؟
ولا يأتي زمان إلا والذي بعد شرٌ منه كما ورد في الخبر.
وقال معمر في جامعه [1092]: عن الزهري قال: "ما عُبد الله بمثل الفقه".
والزهري أحد المنقول عنهم ترك إقراء الحديث في رمضان فلا تنس ذلك!.
وقال ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله: [2/178]): "والكلام في العلم أفضل من الأعمال، وهو يجري عندهم مجرى الذكر والتلاوة إذا أريد به نفي الجهل ووجه الله تعالى والوقوف على حقيقة المعاني" (أهـ).
والناس في زمن ابن عبد البر لا شك أنهم أعلم بالحديث وآثار الصحابة والعربية من أهل عصرنا، ومع ذلك قيل هذا، فما يقال في أهل أعصرنا ؟
التنبيه الأخير:
قال البيهقي في شعب الإيمان: "فصل في الاستكثار من القراءة في شهر رمضان وذلك لأنه شهر القرآن" (أهـ).
أقول: ولا أعلم أحداً سبقه إلى تسمية رمضان بــ(شهر القرآن).
فإن هذه التسمية لم تكن مشتهرةً عند السلف بل لم تكن موجودةً أصلاً، وما رأيت أحداً تابعه عليها فلا تجد لهذه التسمية ذكراً في كلام شيخ الإسلام ولا تلميذه ابن القيم ولا ابن رجب ولا النووي ولا ابن حجر ولا أئمة الدعوة النجدية، ولكنها اشتهرت بين المعاصرين والله أعلم.
هذا، وصلِّ اللهم على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم
- التصنيف:
- المصدر: