(الثنائية) أسلوب دعوي فريد
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يتنافس مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه في جميع وجوه الخير والطاعة، فقد أخرج الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: "سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ فقلت مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله فقلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا».
الدعوة إلى الله تعالى أعظم عمل يمكن أن يقوم به الإنسان، كيف لا والله تعالى يقول بشكل واضح في كتابه العزيز: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّـهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي رضي الله عنه في الحديث الصحيح، عندما أعطاه الراية يوم خيبر: «لأَن يهديَ اللهُ بك رجلاً واحداً، خيرٌ لك من أن يكونَ لك حُمْرُ النَّعَمِ» (متفق عليه).
كل إنسان في الدنيا إن كان يعمل لحساب ملك أو وزير أو مسؤول، فإنه يطمع بأجر جزيل وكبير، يستمد القوة ممن يعمل عنده، يضرب بسيفه، ويتكلم باسمه، ويتفاخر بالعمل معه، أينما حل أو ارتحل، فما بالك بمن يعمل بالدعوة إلى مالك الملك، خالق الأرض والسماء، كيف سيكون أجره وجزاؤه عند الله تعالى.
الدعوة إلى الله تزيد من مقاومة المسلم ومناعته، فهو في هذه الحياة ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، لا يستطيع المسلم بمفرده مقاومة إغراءات الشيطان ووساوسه، ولذلك أوصى رسول الله عليه وسلم أن يتمسك المسلم بحبل الجماعة، وأن لا ينفرد بنفسه عن منهج الجماعة، حتى لا يكون هدفًا سهلاً للشيطان، وصيدًا ثمينًا لأتباعه، قال صلى الله عليه وسلم: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» (رواه المنذري بسند حسن).
للدعوة إلى الله تعالى أساليب متعددة، ووسائل مختلفة، كلها تهدف إلى شيء واحد، وغاية محددة، صلة المسلم بربه وخالقه، ولعل من أعظم هذه الوسائل، الثنائية في العلاقة الأخوية بين المسلمين، أي أن يكون لكل مسلم في الجماعة الإسلامية أخ واحد، يشكل معه ثنائية إيمانية وإسلامية، تساعدهما في الوصول إلى الله ونيل رضاه.
الثنائية الدعوية في القرآن الكريم:
في القرآن الكريم آيات تتكلم عن الثنائية، ولكن أقربها لموضوعنا قول الله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، إن في اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ليكون صاحبه ورفيقه في أعظم حدث في التاريخ له دلالة واضحة على الثنائية في الدعوة، لقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم الأقرب لنفسه وروحه وقلبه من بين أصحابه، وفي السيرة النبوية مواقف كثيرة تدل على خصوصية العلاقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنه..
لعل أشهرها حديث البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «كنتُ جالسًا عِندَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أقبَلَ أبو بكرٍ آخِذًا بطَرَفِ ثوبِه، حتى أبدَى عن رُكبتِه، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أما صاحبُكم فقد غامَر. فسلَّم وقال: إني كان بيني وبين ابنِ الخطابِ شيءٌ، فأسرَعتُ إليه ثم ندِمْتُ، فسألتُه أن يغفِرَ لي فأبَى عليَّ، فأقبَلْتُ إليك، فقال: يغفِرُ اللهُ لك يا أبا بكرٍ. ثلاثًا، ثم إن عُمَرَ ندِمَ فأتَى منزِلَ أبي بكرٍ، فسَأل: أثَمَّ أبو بكرٍ، فقالوا: لا، فأتَى إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسلم، فجعَل وجهُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتمَعَّرُ، حتى أشفَقَ أبو بكرٍ، فجَثا على رُكبتَيه فقال: يا رسولَ اللهِ، واللهِ أنا كنتُ أظلَمَ، مرتين، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إن اللهَ بعثَني إليكم فقُلْتُم كذبْتَ، وقال أبو بكرٍ صدَق، وواساني بنفسِه ومالِه، فهل أنتم تارِكوا لي صاحِبي، مرتين، فما أوذِيَ بعدَه».
والعلماء أثبتوا أنه رضي الله عنه كان ثاني محمد صلى الله عليه وسلم في أكثر المناصب الدينية، فإنه صلى الله عليه وسلم لما أرسل إلى الخلق وعرض الإسلام على أبي بكر، آمن أبو بكر، ثم ذهب أبو بكر رضي الله عنه وعرض الإسلام على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة آخرين من أجلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والكل آمنوا على يديه، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام قلائل، فكان رضي الله عنه (ثَانِيَ اثنين) في الدعوة إلى الله تعالى.
وأيضاً كلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، كان أبو بكر رضي الله عنه يقف في خدمته ولا يفارقه، فكان ثاني اثنين في مجلسه، ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قام مقامه في إمامة الناس في الصلاة فكان ثاني اثنين، ولما توفي دفن بجنبه رضي الله عنه.
الثنائية الدعوية في السيرة النبوية الشريفة:
أعظم مثال في السيرة النبوية على الثنائية، المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، حيث وصل المسلمون إلى أرض جديدة وحياة جديدة، نشأت عنها عدد من المشكلات، ليس أقلها الشعور بالغربة ومفارقة الأهل والديار، وترك معظم الأموال والمتاع في مكة، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية، حيث ظهرت بعض الأمراض بسبب الانتقال المفاجئ من مكة إلى المدينة.
كل هذه الظروف كان لا بد لها من حلول عملية سريعة، تمثلت بنظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، واللافت في هذا النظام اتباع الثنائية فيه، أي كل واحد من المهاجرين يكون له أخ من الأنصار، يكون قرينة وصاحبه وأخاه المقرب، ضمن الأخوة العامة بين جميع الصحابة الكرام، ولها ميزة أخرى في ذلك الوقت عن الأخوة العامة بين المسلمين، ألا وهي ميزة حق التوارث دون وجود صلة الرحم والقرابة، ثم نسخت بعد ذلك بقول الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75].
وتذكر لنا مصادر السيرة أسماء بعض الذين آخى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد آخى بين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ، وبين الزبير بن العوام وسلامة بن سلامة بن وقش، وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، وبين مصعب بن عمير وأبو أيوب خالد بن زيد، وبين سلمان الفارسي وأبو الدرداء، رضي الله عنهم أجمعين، وأسماء أخرى بلغت تسعين صحابيّاً.
لقد كان لهذه الثنائية في الأخوة آثارًا إيجابية كثيرة، تجاوزت مسألة المساعدة المادية، التي ضرب الأنصار فيها مثلاً رائعًا في الإيثار والجود والكرم، لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، إلى فوائد دعوية غاية في الأهمية، نذكر منها على سبيل المثال:
1- تصحيح الأفكار الخاطئة التي يمكن أن تظهر في سلوك أحد الأخوين، ولا يمكن أن يطلع عليها إلا الأخ المقرب، الذي يجتمع بأخيه أكثر من غيره، فيعرف دخائل نفسه وطريقة تفكيره وفهمه للإسلام والحياة، ويستطيع من خلال ذلك التوجيه والتصحيح ما استطاع لذلك سبيلاً.
جاء في صحيح البخاري عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: «آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم فنام ثم ذهب يقوم فقال: نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان».
جاء في شرح الحديث:
(متبذلة) لابسة ثياب البذلة، وهي المهنة، أي تاركة لباس الزينة.
(حاجة في الدنيا) أي ومنها زينة المرأة لزوجها وهو لا يأبه لذلك.
(ذي حق) صاحب حق، وكانت هذه الزيارة وهذا الحوار قبل أن يفرض الحجاب على المسلمات.
فهل يستطيع أي مسلم أن يفعل فعل سلمان؟! بل هل يمكن لأي مسلم وإن كان أخا لأبي الدرداء بشكل عام، أن يطلع على هذا الأمر، الذي يتطلب زيارات متكررة، وعلاقة متميزة بين الأخ وأخيه؟!
2- التنافس الممدوح بين الأخ وأخيه في وجوه الخير والطاعة، قال تعالى: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. والمتتبع لأسماء الصحابة في الأخوة التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم، في المدينة المنورة بعد الهجرة، يلاحظ وجود الفقير مع الغني، القوي مع الضعيف، العالم مع المتعلم، الحر مع العبد، وهذا ما يبث روح التنافس بين الأخوين، الغني بالبذل والعطاء، والفقير بالاستعفاف والاعتماد على النفس، وهذا مثال قصة عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، حيث عرض سعد على أخيه نصف ماله ليأخذه، فشكر له عبد الرحمن صنيعه وأثنى على كرمه، ثم طلب منه أن يدلّه على أسواق المدينة، ولم يمرّ وقتٌ قصير حتى استطاع عبدالرحمن بن عوف أن يكون من أصحاب المال والثراء.
لقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يتنافس مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه في جميع وجوه الخير والطاعة، فقد أخرج الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: "سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ فقلت مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله فقلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا».
وقد ذكر البلاذري أن النبي صلى الله عليه وسلم، آخى بين المسلمين في مكة قبل الهجرة على الحق والمواساة، واستدل بحديث الحاكم في المستدرك من طريق جميع بن عمير عن ابن عم: «آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان»، وهذا يؤكد فائدة الثنائية الأخوية والدعوية في بث روح التنافس المحمود بين الشخصين المتآخين، وإن كان ابن القيم وابن كثير ذهبا إلى نفي المؤاخاة بمكة المكرمة.
الثنائية الدعوية في الجماعات الإسلامية المعاصرة:
اتبعت كثير من الجماعات الإسلامية المعاصرة أسلوب الثنائية الأخوية الدعوية، كطريقة فعالة ومؤثرة في الدعوة الإسلامية، وخاصة في بلاد الشام ومصر، ففي سوريا مثلاً تتبع معظم الجماعات الإسلامية هناك أسلوب الحلقات (المجموعات)، التي تضم مجموعة من الشباب المتقاربين في السن والثقافة والتعليم، تكون فيما بينها أسرة واحدة، تحاول أن تحافظ على إيمانها وعقيدتها وأخلاقها، وسط الشهوات التي تحيط بالشباب اليوم من كل جانب، وتتقاسم هموم الحياة وأفراحها.
تحاول المجموعة الرقي بأفرادها، من خلال تبادل الخبرات العلمية والعملية، ومن خلال الحلقات الأسبوعية التي يلتقي فيها أفراد المجموعة الواحدة، دون أن يتغيب أحد عن هذا اللقاء، وداخل المجموعة يتبع أسلوب الثنائية الذي يجعل من كل اثنين في المجموعة كيانًا واحدًا، يسأل فيه أحد الأخوين عن الآخر إذا غاب عن اللقاء الأسبوعي، أو اعتراه خطب أو تقصير في المجموعة، أو أي شيء آخر مما يعتري الإنسان عادة في الحياة الدنيا من تقلبات أو تغيرات قد تؤثر عليه وعلى أدائه ضمن المجموعة.
وقد عرف هذا النظام في الأصل عند جماعة الإخوان المسلمين في مصر، حيث كون الإمام حسن البنا رحمه الله نظام الكتائب، الذي يقوم على مبدأ التربية المباشرة من المربي والمرشد إلى إخوانه ومجموعته، وذلك من خلال بعض العبادات والتوجيهات الأسبوعية، ضمن برنامج محكم ومنظم.
فوائد الثنائية الدعوية:
المتتبع لآيات القرآن الكريم وللسيرة النبوية الشريفة، يمكنه استنتاج الفوائد المترتبة على اتباع أسلوب الثنائية في الدعوة إلى الله تعالى، ويمكن تلخيصها في:
1- المؤازرة والمعاضدة:
فالثنائية في الدعوة تكسب الداعي قوة وتزيده منعة، ولذلك طلب سيدنا موسى عليه السلام السند والعون من الله تعالى، بأن يجعل معه أخاه هارون نبيا ووزيرا، عندما أرسله الله تعالى إلى فرعون، قال تعالى على لسان سيدنا موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا. وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا. إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا. قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ} [طه: 25-36].
قال الرازي رحمه الله في تفسيره: "اعلم أن طلب الوزير إما أن يكون لأنه خاف من نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر فطلب المعين، أو لأنه رأى أن للتعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة مزية عظيمة في أمر الدعوة إلى الله"، وقد جاء ذكر أسباب طلب المؤازرة في الآيات: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}، أي للمعاونة وزيادة القوة على أمور الدعوة إلى الله تعالى، وهذه من أعظم فوائد الثنائية في الدعوة إلى الله تعالى.
2- المشاورة والنصيحة:
قال تعالى في قصة داوود وسليمان: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 78-79]. وفي الآيات نصيحة سيدنا سليمان عليه السلام لوالده داوود عليه السلام، اللذان جعلهما الله تعالى نبيان وملكان عظيمان في الأرض، وفي ذلك دلالة على فائدة عظيمة من فوائد الثنائية في الدعوة إلى الله تعالى.
جاء في تفسير هذه الآيات: أن رجلان دخلا على داوود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن غنم هذا دخلت حرثي وما أبقت منه شيئاً، فقال داوود عليه السلام: اذهب فإن الغنم لك. فخرجا فمرا على سليمان، فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه: فقال: لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا. فأخبر بذلك داوود عليه السلام فدعاه وقال: كيف كنت تقضي بينهما، فقال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له منافعها من الدر والنسل والوبر، حتى إذا كان الحرث من العام المستقبل كهيئته يوم أكل، دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه.
وفي تعدد الآراء فائدة ومنفعة، فكيف إذا كانت من نبي يوحى إليه من الله تعالى، وكذلك الأخ في الدعوة، يمكنه إسداء النصيحة والمشورة في كثير من أمور الدعوة والحياة بشكل عام، مما يعود بالفائدة والنفع على كلا الأخوين في مسيرة الحياة والدعوة.
3- التعاون على أمور العمل والدعوة إلى الله تعالى:
قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، ثم قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:127-128].
فقد أشرك الله تعالى إسماعيل مع والده إبراهيم عليهما السلام بتطهير بيت الله الحرام، من جميع أشكال الكفر (عبادة الأوثان)، والنجاسات والخبث التي كانت تحدث في ذلك الوقت، وأمرهما أن يجعلاه طاهرا للمصلين العابدين لله تعالى، ثم أشرك الله تعالى إسماعيل مع والده إبراهيم عليهما السلام برفع أركان البيت وأسسه، وفي ذلك إشارة إلى فائدة الثنائية في العمل الدعوي، المتمثل هنا ببناء بيت الله الحرام ورفع أركانه.
وقد ورد في السيرة النبوية أيضا: «أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعثَ معاذًا وأبا موسى إلى اليمنِ، قال: يَسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا، وتَطَاوَعَا ولا تَخْتَلِفَا» (صحيح البخاري)، وأوصى معاذ بن جبل بالتدرج في الدعوة مع الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنك ستأتي قومًا من أهلِ الكتابِ، فإذا جئتَهم فادعُهم إلى أن يَشهَدوا أن لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبِرْهم أنَّ اللهَ قد فرَض عليهم خمسَ صلواتٍ في كلِّ يومٍ وليلةٍ، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبِرْهم أنَّ اللهَ قد فرَض عليهم صدَقَةً، تؤخَذُ من أغنيائِهم، فتُرَدُّ على فُقَرائِهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائمَ أموالِهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ، فإنه ليس بينه وبين اللهِ حجابٌ» (متفق عليه).
وفي إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لهما معا إلى اليمن داعيان، إشارة إلى فائدة الثنائية في أمر الدعوة وأثرها على الداعي والمدعو معا، أما الداعي فيشعر بالثقة بالنفس والقوة والطمأنينة مع أخيه، وأما المدعو فيستفيد من تنوع الأسلوب الدعوي، وسرعة القبول والفهم.
الثنائية في الدعوة إلى الله تعالى، أسلوب فريد من نوعه، له شواهده من الكتاب والسيرة النبوية الشريفة، إضافة إلى النجاح الكبير الذي حققه هذا الأسلوب على المستوى العملي المعاصر، وبالتالي فهو أسلوب يمكن الاعتماد عليه في الوقت المعاصر، سواء على مستوى الجماعات الإسلامية التي تطبقه في الغالب الأعم، أو حتى على مستوى الأفراد فيما بينهم داخل المجتمع المسلم.
فلا بد أن يبحث كل مسلم عن أخ مؤمن تقي، يصاحبه ويلازمه، يدله على الله بحاله ومقاله، ويأخذ بيده إلى طاعة الله ورضوانه، يكون له معينا في الضراء، ورفيقا في السراء، يتقاسم معه الأفراح، ويتعاون معه في الأتراح، وتكون هذه الأخوة الثنائية، سببا لدخول الجنة معا بإذن الله تعالى، تحقيقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «سبعةٌ يُظِلُّهمُ اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه... ورجلان تحابَّا في اللهِ اجتَمَعا عليه وتفَرَّقا عليه» (رواه البخاري).
جعلنا الله جميعًا منهم إنه سميع قريب مجيب.
عامر الهوشان
- التصنيف:
- المصدر: