أنا مبتعث وفي حيرة من أمري
الابتعاث إلى بلاد الكفار فيه فتن عظيمة، ومصائب كبيرة، وذلك لما عليه تلك البلاد من فساد أخلاقيٍّ، وانحراف فكريٍّ، وعقائد كفريَّة، وشبهات وشهوات لا حدود لها، من أجل هذا حذَّر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من السَّفر إلى بلاد الكفَّار، وحرَّم السَّكن والعيش بين الكفَّار، والإقامة في بلادهم فقال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ».
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
السؤال:
السَّلام عليكم ورحمه الله وبركاته، جزاكم الله خيراً على ما تقومون به، وجعل ذلك في ميزان حسناتكم، لديَّ استشارة عائليَّة ودراسيَّة ودعويَّة في نفس الوقت، أنا رجل ولله الحمد متزوِّج، ولديَّ خمسة أبناء، قمت بالتَّقديم على برنامج الابتعاث بعد استشارات واستخارة لإكمال درجة البكالوريوس، حيث أنَّني موظَّف في وزارة الصَّحة، وصدر قرار ابتعاثي إلى أستراليا، قبل ستة أشهر تقريباً، سافرت أوَّل مرَّة لوحدي، وعند بداية الدِّراسة بدأت بصراع مرير مع نفسي، لماذا قدمت إلى بلد الكفر؟!
الدِّراسة مختلطة داخل الفصول، ويجبرونك على المشاركة في النِّقاش مع النِّساء، كما أنَّ مدرِّسات الفصل أغلبهنَّ نساء، وعدد قليل جداً رجال، بدأت الدَّراسة وأنا كاره هذا الوضع، حيث أنَّني في السُّعوديَّة ملتحق بحلقات القرآن وأولادي معي في حلقات القرآن، وكذلك وضع المدرسة التي يدرسون بها، مرَّت عليَّ ثلاثة أشهر وأنا مع صراعٍ نفسيٍّ وفكريٍّ، وقرَّرت إلغاء البعثة، وعدت إلى السُّعوديَّة لآخذ أولادي بعد أن نجحوا في مدارسهم، وقلت في نفسي يتغيَّر الحال بعد ان أحضر أولادي وزوجتي، وأنَّ ما أعانيه قد يكون نوع من الحنين للوطن..
المهم أنِّي قد أحضرت أولادي معي إلى أستراليا، وزاد الصِّراع النَّفسيُّ أكثر وأكثر، حيث أنَّني فكرت في وضع المدارس وما فيها من مخالفات، ناهيك عن تربية الطِّفل على غير الدِّين، وكذلك لا يوجد إلا مدرسة إسلاميَّة واحدة وهي بعيدة، وكذلك لا يوجد فرق بينها وبين المدارس الأستراليَّة إلى حدٍّ كبير، كما أنَّ أبنائي عند خروجنا من البيت يسألوني أسئلة: بابا لماذا هذه تلبس كذا؟ ولماذا هذه كاشفة وجهها؟ وهذا لماذا يلبس كذا وكذا؟ حتَّى أنَّني تعبت من كثرة التَّفكير، وأقول في نفسي: إنَّ الله لن يسألك لماذا لم تحصل على درجة البكالوريوس أو الماجستير؟ لكن سيسألك عن أولادك، ولماذا قصَّرت في الأمانة؟
وقد حاولت الرُّجوع إلى السُّعوديَّة، ولكن خفت من الكلام من أنِّي أخفقت في الدِّراسة، ومواجهة الأصدقاء وزملاء العمل، فما تنصحونني؟ هل أتوكل على الله وأرجع؟ أم أرجع أولادي وأحضرهم وقت الإجازات معي؟ وأنزل لهم وقت إجازتي، حيث أنَّ الإجازة مختلفة بيننا وبين أستراليا، أم أبقيهم معي وأدرِّسهم في أستراليا؟ جزاكم الله خيراً، ووفَّقنا الله وإيَّاكم لما يحبُّ ويرضى.
الجواب:
الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
ألخِّصُ لك أخي الفاضل جواب استشارتك في النِّقاط الآتية:
أولاً: أشكرك على ثقتك بموقع المسلم، ومتابعتك له، ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا أهلاًّ لهذه الثِّقة، وأن يجعلَ في كلامنا الأثر، وأن يتقبَّل منا أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعلها كلَّها خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل فيها حظَّاً لمخلوق.. آمين.
ثانياً: تذكُر أخي أنَّك موظَّف في وزارة الصِّحة، ومتزوِّج ولك خمسة أولاد، وقدَّمت للابتعاث خارج المملكة، وتمَّ قبولك في الابتعاث إلى أستراليا، وسافرت في البداية بمفردك، وفوجئت ببيئة غير البيئة التي نشأت وتربَّيت عليها، ونمط جديد في الجامعة لم تعتد عليه في السُّعوديَّة، حيث اختلاط الجنسين، وضرورة أن تختلط وتشارك النِّساء في الكلام والمناقشة، وكون النِّسبة الغالبة في الجامعة هي من النِّساء، حتَّى هيئة أعضاء التَّدريس معظمها من النِّساء، شعرت بضيق شديد من هذا الفساد والضَّياع، ظننت أنَّ بعدك عن وطنك وأسرتك السَّبب في ضيقك وحرجك، فقدمت بأسرتك وأولادك معك، ولكن الأمر ازداد سوءاً، حيث أنَّ الأولاد والأسرة بهتوا من المشاهد المنفلتة من القيم والآداب والأخلاق، وأحدثت تلك المشاهد عندهم ردَّة فعل عكسيَّة، جعلتهم يسألونك باستغراب وتعجب عمَّا يرون ويشاهدون، جعلك تفكِّر جديَّاً بقطع الابتعاث، لولا خوفك من كلام الأقرباء والأصدقاء وزملاء العمل بأنَّك قد أخفقت في دراستك، ثمَّ تستنصحنا: هل أتوكل على الله وأرجع؟ أم أرجع أولادي وأحضرهم وقت الإجازات معي؟ وأنزل لهم وقت إجازتي، أم أبقيهم معي وأدرِّسهم في أستراليا؟
لا تقلق أخي كلُّ مشكلة في هذه الدُّنيا لها حلٌّ في شريعتنا الغرَّاء، فالله تعالى يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، ولم يترك نبيُّنا عليه الصَّلاة والسَّلام شاردة ولا واردة إلا وضَّحها لأمَّته، حتىَّ قال بعض المشركين لسلمان الفارسي رضي الله عنه: "قد علَّمكم نبيُّكم كلَّ شيء حتى الخراءة".
ثالثاً: الابتعاث إلى بلاد الكفار فيه فتن عظيمة، ومصائب كبيرة، وذلك لما عليه تلك البلاد من فساد أخلاقيٍّ، وانحراف فكريٍّ، وعقائد كفريَّة، وشبهات وشهوات لا حدود لها، من أجل هذا حذَّر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من السَّفر إلى بلاد الكفَّار، وحرَّم السَّكن والعيش بين الكفَّار، والإقامة في بلادهم فقال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: 2654، والتِّرمذي: 1604، وصحَّحه الألباني في إرواء الغليل: 1207).
رابعاً: قرأت فتاوى عدَّة في حكم السَّفر إلى بلاد الكفر، فوجدت أحسنها وأقربها للصَّواب والواقع فتوى العلامة الشَّيخ محمَّد بن صالح العثيمين حيث قال: "وأمَّا الإقامة في بلاد الكفَّار فإنَّ خطرها عظيم على دين المسلم، وأخلاقه وسلوكه وآدابه، وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك، فرجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا فسَّاقاً، وبعضهم رجع مرتداً عن دينه، وكافرا به، وبسائر الأديان، والعياذ بالله حتَّى صاروا إلى الجحود المطلق، والاستهزاء بالدِّين وأهله، السَّابقين منهم واللاحقين، ولهذا كان ينبغي بل يتعيَّن التَّحفُّظ من ذلك، ووضع الشُّروط التي تمنع من الهوي في تلك المهالك" (مجموع الفتاوى).
ثمَّ ذكر رحمه الله شروطاً ثلاثة لجواز الابتعاث، والسَّفر إلى بلاد الكفر، وهي:
1- أن يكون لدى المبتعث علمٌ شرعيٌّ، يحميه من الشُّبهات.
2- أن يكون لديه الدِّين؛ الذي يعصمه من الوقوع في الشَّهوات.
3- أن يكون البلد بحاجة لتخصُّصه، وما يريد تعلُّمَه.
فأنت أخي الفاضل طبِّق هذه الشُّروط الثَّلاثة على نفسك، ثمَّ استفت قلبك، ثمَّ خذ قرارك، فهل لديك علمٌ تجابه به شُبه القوم، ولديك دينٌ تدفع به الشَّهوات العاصفة هناك، والشَّرط الثَّالث مهمٌّ للغاية فلو كان لديك فرصة للتَّعليم في بلدك، وفي نفس التَّخصُّص المطلوب، فتعلَّم في بلدك.
خامساً: إن وجدت أنَّ الشُّروط تنطبق عليك، فاحزم أمرك، واستعن بالله، واصطحب معك أسرتك، وإيَّاك من تركهم بعيداً عنك، فذلك فساد لك ولهم، وأنا حسب علمي أنَّ المملكة العربيَّة السُّعوديَّة لها مدرسة لجميع المراحل الدِّراسيَّة في كلِّ بلد لها سفارة فيه، تسمَّى (المدرسة السُّعوديَّة) وتدرَّس فيها نفس مناهج التَّعليم في المملكة، فابحث عنها في أستراليا تجدها، ولو ذهبت لسفارة المملكة عندك يفيدوك، فإن لم تجد مدرسة، أرى أن تدرِّس أبناءك المناهج السُّعوديَّة منازل، وتجلب لهم مدرِّسين يشرحون لهم الموادَّ الصَّعبة عليهم، ويقدِّموا الامتحانات في السَّفارة، وعلى العموم استشر السَّفارة السُّعوديَّة عندك تجد الخبر اليقين.
سادساً: هناك جاليات عربيَّة وإسلاميَّة كثيرة في أستراليا، وكذلك يوجد مراكز إسلاميَّة منتشرة هناك، فحاوِل أن تسكن قريباً من هذه المراكز، ففي مجاورتها خير ونفع، حيث تُقام في هذه المراكز دورات علميَّة شرعيَّة، ومحاضرات، وندوات، ودروس، وحلقات لتحفيظ القرآن الكريم، وهذه المراكز تعتبر محاضن تربويَّة نافعة لك ولزوجتك وأولادك، وتعتبر أيضاً مجالاً خصباً للتَّعرُّف على الصَّالحين، وتكوين علاقات وصداقات لك ولأفراد أسرتك، فابحث عنها تجدْها، واستعن بالشَّبكة العنكبوتيَّة في عمليَّة البحث.
سابعاً: عليك ملاحظة أبنائك وبناتك ومتابعتهم في سلوكيَّاتهم، وأصدقائهم، وعلاقاتهم، ولكن بأسلوب تربويٍّ راقٍ، لا بأسلوب التَّخوين والتَّشكيك، فأنت أسوارك مهدَّدة من جميع الجوانب، فلا بدَّ أن تكون دائماً متيقظاً حذِراً، وعليك باللُّجوء إلى الله تعالى في خلواتك، رافعاً يديك إلى الله داعياً، أن يحفظ الله لك ولأفراد أسرتك الدِّين، والأخلاق والقيم، والمبادئ، وأن يسترك وإيَّاهم في غربتك، وأن يعيدك إلى أرض الوطن سالماً غانماً باسماً، فالله سبحانه هو الحافظ والمعين.
ثامناً: لو قرَّرت الإقامة والاستمرار في بعثتك، فداوِ قلبك، وانعش روحك، واغسل عن نفسك وأولادك ما علق بهم من أدران العيش في ذلك البلد، بأن تغتنم كلَّ إجازة فصليَّة، أو سنويَّة بعمرة لرحاب بيت الله العتيق، تلين بها قسوة القلب ووحشته في فترة البعد عن هذه الأجواء الرُّوحانيَّة المفقودة في تلك الديار، واجعل من برنامجك في الإجازة زيارة العلماء الرَّبَّانيين لاستشارتهم فيما يعرض عليك من ظروف، كذلك زيارة ذوي الأرحام والأقرباء.
تاسعاً: النَّظرة سهم من سهام إبليس، وربَّ سهم وقع في مقتل، فلا تتبع النَّظرة النَّظرة، وجاهد نفسك في غضِّ البصر، وحاذر الخلوة فالشَّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وتقوَّ بمغذِّيات الإيمان من قراءة القرآن، وأذكار الصَّباح والمساء، وصلاة الجماعة مع المسلمين.
عاشراً: أولادك أعظم استثمار في حياتك، وأسرتك زينة عيشك، فاحرص عليهم، وعلى تربيتهم التَّربية الصَّالحة، وحفظهم من أخلاق ذلك المجتمع التي لا يوافق بعضها أخلاق الشَّريعة الغرَّاء، وخصِّص لنفسك وأولادك حلقة علم وأُنْسٍ تحيي قلوبهم بذكر الله، وتربطهم بكتاب ربِّهم حفظاً وتفكُّراً، وتناقش أحوالهم وتتفهَّم ما يواجهونه من تغيُّر عن بيئتهم في المملكة، وتعالج ذلك مع والدتهم بتروٍ وتَفَهُمٍ.
حفظك الله وعيالك في حلِّك وترحالك وغربتك.
أجاب عنها: سعد العثمان