الأطفال البؤساء.. ورؤية تحتاج إلى الرعاية
إنَّ من يَشْهَدُ حياةَ هؤلاء الأطفال البؤساء سَيَعْلَمُ بأَنَّهم كِبارٌ برُجُولَتِهِم، أَشِدَّاءٌ بصَلابَتِهِم وكِفاحِهِم، وأنَّ من يَشْهد حياةَ الكِبَارِ البُخَلاء سيَعْلَمُ بأنَّهُم صِغارٌ برَخَاوَتِهِم ولِينِهِم، ضِعافُ العُقولِ بأنانيَّتِهِم، جُبَناء ببُخْلِهِم وغَطْرَسَتِهم، وسألت نفسي وأنا أَشْهَدُ معَ مَنْ يَشْهَدُ حياةَ هؤلاء: كيف لا يَصِلُ الأغنياء الفقراء بصِلاتِ الرحمة التي أودعها الله في قلوبِ الرُّحَماء؟ وكيف يمضي الأغنياء في طريقهم، ويسعون إلى تحقيق غاياتهم ولا يَعْبَؤُون بهؤلاء الأطفال البؤساء؟
ملايين من الأطفال بالشوارع يكابدون الأحزان ويتجَرَّعون الآلام، ولا بيتَ يأويهم ولا أسرة تكفلهم، فتراهُم يَتَغَلْغَلون في الأزِقَّة ولا يُبالون بما يعرفونه وما لا يعرفونه منها، ويلعبون تارة، ويَتَهاوَشُون ويَتَشاحَنُون تارةً أخرى، ولا ينتسبون في اللَّهو والمَرَح إلى الطفولة في ظلال العز، وهم بين لِدَّاتِهِم من الأطفال كالشَّوكة المبثوثة.
تراهُم ينطلقون على سَجِيَّتِهم، ويتعلَّمون كيف يَنْبَعِثُون في الحياة انْبِعاثَ السَّهم، ويَشِبُّون ويترعرعون كما يَشِبُّ الشِّبْلُ في عَرِين الأسد، لا كما يَشِبُّ الطٍّفل الصغير مُنَعَّمًا، ويَتَلَقَّوْنَ تربيةَ الحياة القاسية لا تربيةَ الأُسَرِ والمَدارس.
ويتَعلَّمون كيف يتَوسَّدُون الأرضَ ويَلْتَحِفُون السَّماء، ويبيتون على الطَّوَى بأَطْمَارِهِم البالِيَة، حتَّى تَعْتادَ أجْسامُهُم على البردِ وصَلابَتِه، وتَنْضُجَ جُلودُهُم، وتَنْسَلَّ لُحومُهُم عن عِظامِهِم، وتَلْبَسَ جِلْدًا سميكًا خَشِنًا كجلدِ الحِذاء، فلا يَبْقَى فَرْقٌ بين أعضاءٍ رُكِّبَت بعضُها فوقَ بعض، وبين طُوبِ الرَّصيف.
ويتعَلَّمُون كيف تتَبَدَّدُ قُوَّتُهُم اللَّيِّنَة النَّاعِمَة، وتُجْمَعُ لهم قُوَّةٌ بعد أن تَيَبَّسَت وتوَقَّحَت، وتُفْرَغَ منهم قُوَّةُ الطِّفلِ المُتْرَف مَنْ حَشْوُهُ ريشٌ وقُطْن، وتَمْلَؤُهُم صَلابَةٌ تهديهِم إلى أن يُبْدِعُوا لأنفسهم أسبابَ العيش، لا أن ينتظِروا من يُبْدِعُ لهم، فيتَدفَّقُوا على الدُّنيا كتَدَفُّقِ النَّهر الهَادِر، وبداخلهم هُمومَ الرَّجُلِ الكامِل وهم لم يتَجاوَزُوا سِنَّ المدارس.
ويَشِبُّون أشقياء برُجُولَتِهم قبل أوانِها، وبطُفُولَتِهِم في أُمْلُودِها الرَّيَّان، ويتظَاهَرونَ على بعضِهِم ولا مَطامِعَ لهم في الحياة إلا لُقَيْماتٍ تَكْفِيهِم، وأمثالُهُم لا يتنافَسُون على الدُّنيا إلاَّ تَنافُس الغالِب على المَغْلوب، حيث لا صَوْلَة إلاَّ لمن كان جَلداً بإقدامه وإحجامه، فتَراهُ يَنْشُبُ أظَافِرَه في جسمِ مَنْ يُعادِيه ولا يُبالي، أو يَلْكِزُه ويَصْفَعُه، أو يَعْلُوه ويَرْكَبُه، أو يَصْدِمُه بمَنْكِبِه، أو يُمَرِّغُه في التُّراب فيَنْجَدِلُ على الأرض.
إنَّهُم أطفالٌ براعِم نشأت بينهم الطَّوائِل، وأفْسَدَتْهُم شياطينُ رؤوسِهِم الصَّغيرة، فهَاجَت أحقادُهُم إزاءَ مَن يَحْيا حياةَ التَّرَفِ والغِنَى، وثارت دَفائِنُهُم، وتَحَوَّلَت فِطْرَتُهم وبَرَاءَتُهُم إلى شَقَاوَة، إنَّهُم أبناءُ الحياةِ وأبناءُ الأرضِ التي خالطَ تُرابُها رَسْمَ وُجوهِهِم، فشاخَ الصِّبَا في عُنْقُودِه، وكَتَبَ الفقرُ الجَفافَ على أغصانِهِم، كما يَكْتُبُ الذُّبُولُ على الزَّهرةِ تساقُطَ الأوراق.
إنَّهُم يعيشُون ويموتُون ولا تَعْرِفُ أرْواحُهُم دِفْءَ الأسرة، ولا حياةَ الثَّراء العَريض والنِّعمةِ السَّابِغَة، قد حِيلَ ما بينهم وبين حياةِ أبْناء الأسر والمدارس أَسْتارٌ كِثاف، وبينهم وبين حياةِ الجُفاة الغِلاظِ القُلوب، حُصونٌ مانعة وحُجُبٌ حديديَّة، فتَبَرَّؤُوا منهم حتَّى لا يَصِمَهُم الفقرُ والبُؤْس بوَصْمَةِ عار، ولا تَلْدَغَهُم عَقارِبُه فتُهْلِكَهُم.
وتراهُم يَسْتَقْبِلونَهُم اسْتِقْبالَ الغَريمِ لغَريمِه، والمُكْرَهِ على ملاقاةِ الأعداء، وإذا الْتَمَسُوهُم حيث تَزْدَحِمُ النَّعْماءُ على أَفْواهِهِم الشَّرِهَة، التي تأكل في بَطْنَيْنِ لا بَطْنٍ واحدة، لم يَجِدُوا عندهم ما يَرْوِي عَطَشَ ظَامِئ أو يَسُدُّ رمَقَ جائِع، وتَرَى جُيوبَهُم مثقلة، وخزائِنَهُم مُكَدَّسَة، ولكنهم لا يَجُودونَ إلاَّ على أمثالِهِم ليَزْدادُوا غِنًى على غِناهُم، وكأنَّ الغِنَى تَرِكَةٌ يَتَقاسَمُونها فيما بينهم، حتَّى لا يَتَبَقَّى منها نصيبٌ لهؤلاء الأطفال البؤساء.
وإذا جَدَّ الجِدُّ وافْتَقَدْتَهُم لم تَجِدْهُم، ولم يَجِد عندهم هؤلاء الأطفال ما يَسْتَعينون به على تَبْدِيدِ ظَلامِ لَيْلِهِم الأَسْوَدَ الكَالِح، ولم يَجِدُوا عندهم إلاَّ بُخْلاً أعْظَم مِنْ بُخْلِ البُخَلاء، وإن جادُوا عليهم لم يَجُودُوا إلاَّ بما يَصْرِفُهُم عن أبوابِهِم، ويَدْفَعُ عنهم مُلاحَقَتَهُم، ويَمْنَعُ عنهم شَرَّ حَسَدِهِم أَنْ يُصِيبَهُم فيُؤْذيهِم، وما يُرْضِي ضَمائِرَهُم العَليلَة، ولكِنَّ ضَمائِرَهُم لا تُرْضِيهِم، حيث جَارُوا على مَنْ دونَهُم وهَضَمُوا حُقُوقَهُم، وحَرَمُوهُم مِنْ صَدَقاَتِهِم، ومِنْ زَكاةِ أموالِهِم، فكانت أموالهم وبالاً عليهم وجزاؤُهُم من جِنْسِ عَمَلِهِم.
إنَّ من يَشْهَدُ حياةَ هؤلاء الأطفال البؤساء سَيَعْلَمُ بأَنَّهم كِبارٌ برُجُولَتِهِم، أَشِدَّاءٌ بصَلابَتِهِم وكِفاحِهِم، وأنَّ من يَشْهد حياةَ الكِبَارِ البُخَلاء سيَعْلَمُ بأنَّهُم صِغارٌ برَخَاوَتِهِم ولِينِهِم، ضِعافُ العُقولِ بأنانيَّتِهِم، جُبَناء ببُخْلِهِم وغَطْرَسَتِهم.
وسألت نفسي وأنا أَشْهَدُ معَ مَنْ يَشْهَدُ حياةَ هؤلاء: كيف لا يَصِلُ الأغنياء الفقراء بصِلاتِ الرحمة التي أودعها الله في قلوبِ الرُّحَماء؟ وكيف يمضي الأغنياء في طريقهم، ويسعون إلى تحقيق غاياتهم ولا يَعْبَؤُون بهؤلاء الأطفال البؤساء؟
ولكنني علمت بأنَّ لله سبحانه ملائكة تصعد وتنزل، وتشهد حياة هؤلاء المُنْكَسِرَة قُلوبُهُم، فتَشْمَلُهُم الرَّحمة التي لا يَتَعَرَّضُ لنَفَحاتِها إلاَّ السُّعَداء مِنْ عِبادِه الرُّحَماء، الذين يبعثون الآمال في قلوبٍ فيها كثيرٌ من اليأس، ويُخَفِّفون الآلام عن المُتألِّمين، ويوقِظون الطُّموح النَّائِم لدى هؤلاء المنكوبين، فتُشْرِقُ أحلامُهُم من جديد، وتَجْري في أوصَالِهِم حَرارَةُ الحياة.
حينها خاطبت نفسي والضّمير الإنساني: لا تَبْكِ يا عَيْن على هؤلاء الأطفال البؤساء، فهم أبناءُ الحياة لا أبناءُ أهاليهم، إنما البُّكاء على الكِبار الجُبَناء، ونطقَ لسانُ الحكمة فقلت: يا عَجَبًا كيف يَحْيَا هؤلاء وهؤلاء حياةً واحدة، فَيَنْعَمَ هؤلاء بشَقاوَتِهِم، ويَشْقَى أولئك بنَعِيمِهِم، ويتَضَوَّر هؤلاء شَهْوَةً كُلَّما أَكَلُوا ازْدَادَت بُطونُهم شراهة، ويَتَضَوَّرَ أولئك جوعًا، وكُلَّما جَاعُوا لم يَجِدُوا ما يَأْكُلونَه، وإِنْ أَكَلُوا تَكْفيهِم لُقَيْماتٌ فتُشْبِعُهُم، فعَلِمْتُ بأنَّ منهم مَنْ عَرَفَ النِّعمة ولم يتَذَوَّق حلاوَتها فهو بها سَقِيم، ومنهم مَنْ حُرِمَ منها ولكنَّه عَرَف حلاوة الرِّضا في الشَّبَع فهو مُعافَى بالقليل.
وعَلِمْتُ بأنَّ منهم مَنْ يَلْبَسُ لَحْمًا على عِظامِه وقَلْبُه أَجْوَفٌ فارِغ، ومنهم من يَلْبَسُ جِلْدًا يابِسًا وقَلْبُه مُصانٌ مَحْمِيٌّ، وكُلاًّ منهم له حياةٌ وموت، ولكن شَتَّانَ ما بين مَنْ يَحْيَا داخل جُدْرانٍ، مُحاطًا بأهله، فما مِنْ أَنَّةٍ مِنْ أَنَّاتِه إلا وجَدَ لها قَلْبًا رَحيمًا يَحْتَويها، فإنْ ماتَ يموتُ مَرَّةً واحدة، وبين مَنْ يَحْيا حياةَ الشَّوارع، وأنِينُهُ ضائِع، ودُموعُه غيرُ مَرْحومَة، قد ثَكِلْتْه الحياةُ بهُمومِها كما ثَكِلَهُ الموتُ بسَكَراتِه مَرَّات.
وكأنَّ دنيا النَّاس جارِيَةٌ على غيرِ مَجاريها، وكأنَّ الدَّمَ الجاري في عروقنا ليس دمًا إِنْسانِيًّا، وكأن لكُلٍّ مِنَّا قانونًا يحكُمُه، في حين علينا أن نَحْكُمَ الأغنياءَ والفقراءَ بقانونٍ سواء، فيجِدُ الأطفالُ البُؤَساء والفقراء المعوزون عَمَلاً شَريفًا يُصيبونَ منه رِزْقَهُم، فلا يكونون عالَةً يتكَفَّفُون الناس.
ويَجَدُ الأغنياء والأثرياء من يرُدُّونهم إلى صِفاتِهم الإنسانِيَّة، فتستقيمُ نفوسُهُم، ويُصْلِحُوا ما أفْسَدَهُ التَّرف، حينها تتلاشى الفوارق بينهم وبين من دونهم، ويحكُمُ الجميع قانونٌ إلهي عادل، يلزمهم بكلمة الحقِّ والواجب لا بالكلمة الواحدة.
صفية الودغيري
- التصنيف:
- المصدر: