(هيثم توفيق) جندي في زمن القادة
كنتُ أسمع المشايخ يوصون بأن يسكن (هيثم) وحده مع الشباب الجديد، ولم أفهم لمَ إلا فيما بعد.. تعرفتُ عليه وقُدِّم لنا على أنه طالب علم مجتهد من أبناء الدعوة الكبار، وسريعًا جدًا أحببته أكثر من كل الإخوة المحاضرين في المعتقل، حتى أصبحت أطلب منه تدريس كل المواد، ولم أعد أقنع سوى به ولا أحب سوى طريقة شرحه.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد جاءت الأخبار من على الباب أن مجموعة جديدة وصلت المعتقل، وبعدها بقليل وبعد التفتيش والإجراءات المتبعة دخل الشيخ، وأول ما دخل دخل غرفتنا، دخل فرحًا مستبشرًا كأنه كان مسافرًا وعاد إلى أرض الوطن، فتعجبتُ من حاله!
وتم تسكين الشيخ وحده، وكنتُ أسمع المشايخ يوصون بأن يسكن (هيثم) وحده مع الشباب الجديد، ولم أفهم لمَ إلا فيما بعد.. تعرفتُ عليه وقُدِّم لنا على أنه طالب علم مجتهد من أبناء الدعوة الكبار، وسريعًا جدًا أحببته أكثر من كل الإخوة المحاضرين في المعتقل، حتى أصبحت أطلب منه تدريس كل المواد، ولم أعد أقنع سوى به ولا أحب سوى طريقة شرحه.
وكان يأسرني ويدهشني استرساله بالمعلومات والأقوال، وأعجب لسنه وقدرته على التحصيل!
كان كالبحر الخِضَم.. وله رد لكل شبهة، وتأصيل لكل خلاف والتباس، يتناول كل ذلك في هدوء تام ولا تتغير نبرة صوته، وكأن الكتب بين عينيه يقرأ منها.
وهنا علمتُ لمَ طلب المشايخ أن يسكن وحده في زنزانة مع الشباب الجديد ممن يحتاج لضبط فكري في قضايا مثل: (الجهاد، ومسائل التكفير)، وبالفعل أقنع كثيرًا من الشباب، وكتب الله لهم الهداية لمنهج أهل السنة على يديه؛ ليس فقط لتأصيله العلمي المتين، ولا لأسلوبه القوي في العرض، بل لنقطة أخرى أهم -ربما- كثيرًا جدًا في جو السجون والمعتقلات، وهي: (حسن الخلق، والأدب الجم).
كان الشيخ مع قوته العلمية رقيق المشاعر، طيب القلب، تألفه وتحب الجلوس إليه ولو اليوم كله، صادق الوعد، يهتم بكل الإخوة ويعتقد كل أخ أنه الأقرب إلى قلب الشيخ مِن فرط اهتمامه به، صاحب دعابة، ويحب خفيف الظل منا.
قرر أن يجلس معنا طلابه -وهم من مناطق ومحافظات مختلفة- يروي كل منا تجربته الدعوية وسبب دخوله المعتقل، وتُقيم الأخطاء وعلى إثر ذلك يقوم الأخ بشراء المشروبات والحلويات لكل الإخوة تغريمًا له، ولكن المفاجأة عندما ذهبنا إلى الكافيتريا وجدنا الشيخ قد دفع كل المطلوب من كل الإخوة، وكان مبلغًا كبيرًا!
بلاء داخل البلاء.. هكذا كتب على صغير الجسم والسن، وكان يعجب من ذلك كبار الإخوة، فقد استدعي من السجن لجهاز أمن الدولة أكثر من مرة؛ لأنهم كلما قبضوا على مجموعة جديدة وجدوا أنهم على علاقة بالشيخ (هيثم)، وأنه مَن كان يتابعهم!
حتى أهل بيته لم يسلموا من الأذى؛ فقد استدعي من السجن يومًا وتم القبض على أخته حفظها الله، ولما عاد قال لنا: "إنها كانت تكتب له رسائل تثبته فيها، وتذكره بعدل قضيته، وكانت تُفتش وتقرأ من الأمن بالمعتقل، وشكوا في أنها تَنقل له أخبار الدعوة من الخارج، وتم الإفراج عنها بعد ذلك".
كان رحمه الله يستيقظ مبكرًا ويبدأ الدروس من الثامنة صباحًا وحتى الثانية عشرة منتصف الليل، وذلك بسجن دمنهور بعد الفتح وعدم غلق الزنازين، لا يمل ولا يكل، لم يقل يومًا: "إني متعب أو عندي زيارة! -بل- والله كنتُ على وشك النزول لإفراج وتبقى لي درس في الفرائض وخشيتُ أن أخرج وأنا لم أتمه"، فقلتُ للشيخ وكان يوم النبطشية له -دوره في خدمة الغرفة وتنظيفها، والطبخ وخلافه- وقد فرغ منها في الساعة الثالثة صباحًا وكان يخدم 16 أخًا، فقال لي: "تعالَ بعد الانتهاء"، فدخلت عليه وكان يصلي، ثم بدأت بالقراءة عليه وهو والله ينام من التعب ورفض تأجيل الدرس! همة كالجبال يغرسها في طلابه.
لو اطلعت على مصحفه تجد القراءات العشر على أطراف المصحف، وكان يخفيه عني دائمًا.. حتى تلصصت عليه فعلمت لمَ يخفيه، ولم يكن الشيخ يُدرِّس فقط، بل كان يطلب العلم أيضًا على يد المشايخ الكبار أو حتى طلاب العلم من أقرانه ممن أخذ كتاب لم يأخذه الشيخ.
قابلتُ الكثير من الإخوة الأفاضل وطلاب العلم والمشايخ الكبار، ولم يتركوا في نفسي أثرًا من الشيخ هيثم رحمه الله؛ ولذا حرصت على العلاقة به بعد الخروج، ولبعد المسافة بيننا كنت ألقاه عند نزوله القاهرة لمتابعة الإخوة بجامعة الأزهر.
وكنت أسير معه في جولاته على بيوت الإخوة، وأتكلم معه بين البيت والآخر؛ فهي الفرصة الوحيدة؛ وإلا فهو مشغول، وكنتُ أقنع بها وأفرح به، وأحيانًا أسافر له الإسكندرية فأجد كرمًا طائيًّا، فالشيخ ليس لديه وقت لجلسات الثمر إلا في الطرقات أو المناسبات؛ حتى يوم وفاته رحمه الله كان معه الإخوة يستغلون طريق السفر ليسألوه ويستشيروه.
وبعد كل هذا المشوار لا يعرفه إلا من خالطه من طلاب العلم، ولا يسمع عنه أحد، ولم يظهر يومًا على الفضائيات، حتى كتبه كان يكتب عليها: "تأليف طالب علم".
إنه جندي كان يُلقى به في خِضَم المعارك الفكرية فيفتح الله على يديه البلاد، واسألوا عنه في الصعيد أو الجيزة أو القاهرة.. تربى على يديه كوادر الدعوة في كثير من المحافظات.
جندي في زمن القادة...
إن كان في سيرة الشيخ (هيثم) كثير من الفوائد والصفحات المشرقة، فلعل أكثرها فائدة وأنصعها إشراقًا هو جنديته الباسلة، وفهمه لدوره في العمل الدعوي، بل في فهمه لقضية العبودية، «طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ» (رواه البخاري).
فاللهم ارحم شيخي وحبيب قلبي هيثم توفيق، وبلغه الدرجات العلى، والفردوس الأعلى.
إيهاب إبراهيم
- التصنيف:
- المصدر: