رُجُولةُ الأطفالِ وَطُفُولةُ رجال!
أشباه الرجال لا همّ لهم إلاّ شهوات البطون والفروج، وما يدور حولها، وشهوة البغي في الأرض، والتسلّط على الناس، وما أكثر أشباه الرجال في حياتنا..! الذين يتبوّءون مراكز القوّة والتأثير! ويلتفّ حولهم الغوغاء والدهماء، ومرضى القلوب من المتزلّفين، ممّا يزيدهم غيًّاً وضلالاً.
- التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة -
نموّ الإنسان آية من آيات إبداع الله تعالى، وجليل حكمته، ومرآة تجلّيات أسمائه وصفاته.. لاحظ طفلك الصغير وهو ينمو ويترعرع، وأمعن النظر في تصرّفاته، وفكّر في بواعث حركاته ومواقفه تخرج بنتيجة واضحة: أنّه أنانيّ مفرط في الأنانيّةِ وحبّ الذات.. يرى أنّه أهمّ ما في الوجود، وكلّ شيء حوله يجب أن يكون له، أو يدور في فلكه.. كلّ مَا له من شعور وفكر، وعمل وسلوك، ورَغبات ومطالب فإنّما هي موجّهة نحو ذاته.. ولإشباع هذه: (الأنا) المفرِطة.. وعلى هذا الشعور العميق تقوم فطرة حبّ التملّك، والرغبة في الاستئثار بكلِّ شيء.
ويخطئ كثير من الآباء والأمّهات عندما لا يقبلون هذا الشعور من الطفل، وينكرونه عليه بشدّة، ويريدون إلغاءه من حياته بكلّ ما أوتوا من قوّة، ممّا يزيد الطفل تعلّقًاً بما هو عليه، ودفاعًاً عن مواقفه وتصرّفاته، بصورة لا شعوريّة.
ولاحظه بعد ذلك في مرحلةٍ لاحقة، تجده يتحوّل شيئًا فَشيئًا من هذه: (الأنا) المفرِطة التي لا يعرف غيرها، إلى الشعور بـ: (نحن)، مع الشعور (بالأنا)، ثمّ الشعور بالآخرين، مع الشعور بـ: (الأنا) و(نحن)، ويبدأ يشعر أيضًا أنّ إرادة الآخرين قد تتعارض مع إرادته، ومع إرادة: (نحن).. وهذا نموّ فطريّ سويّ..
فهو يشعر بأمّه أوّلاً -على سبيل المثال، إذ هي أقرب شيء من العالم إليه- يشعر بها على أنّه جزء منها، ثمّ يتحوّل شعوره بها على أنّها جزء منه، يتبع رغباته، ولا شغل له إلاّ تحقيقها، وربّما يكُون من سلوك الأمّ المفرط في التدليل وتلبية الرغبات ما يؤكّد له ذلك، ويعمّقه في نفسه، ثمّ يمتدّ شعوره ليشمل من يحيط به ممّن هو في دائرة الـ: (نحنُ)، ثمّ تتّسع دائرة شعوره وتمتدّ، فيبدأ يشعر بأمّه لا على أنّها جزء منه، ولا من خلال الشعور بـ: (نحن)، وإنّما هي جزء من العالم الذي يعيش فيه.. وهنا تراه يبتعد عنها، بينما كان لا يطيق فراقها..
وبينما كان لا يعرف إلاّ إرادته ورغباته فقد بدأ يشعر بإرادة الآخرين ورغباتهم، وأنّها قد تختلف مع إرادته ورغباته وتصطَدِم.. وبينما كان لا يعرف إلاّ لغة الأخذِ والمطالبة، فقد بدأ يعرفُ لغة الأخذِ والعطاء.
ثمّ يدخل طورًا آخر عندما يعرف أنّ ما يُحبّ ويرغب لا بدّ له فيه من المعاناة وبذل الجهد، وأنّ الحياة لا تقفُ عند لُغةِ ما يُحبّ الإنسان ويرغب، وإنّما هناك لغة الواجبِ، الذي يُسألُ عنه، ويطالَب بتأديته، ويجازى بفعله، أو يعاقب على تركه.
وإنّ أهمّ معيارٍ لنجابةِ الطفلِ أن تنضج في نفسه فكرةُ (نحنُ) و(الآخرين)، بصورة سويّة متوازنة، ويحسِنَ التعامل معَها منذُ مرحلةٍ مبكّرة، إذ إنّها تنبني عليها أخلاق وقيم، تشكّل شخصيّة الطفلِ، وتبني كيانه المستقبليّ المتميّز.
وإذا ظهر هذا الوعي في الطفل منذ مرحلة مبكّرة، وظهرت فيه هذه النجابة فأمّل له المستقبلَ المشرقَ بإذن الله، وما أصدق هذه الكلمة: "إذا أشرقت البدايات أشرقت النهايات"، "ومن لم تكن له بداية مُشرِقة لم تكن له نهاية مُغدِقة".
ولا يخفى أنّ هذه الأطوار التي يمرّ بها الطفل، ليست مُنفصلةً مُتمايزة، وإنّما هي مُتّصلة متداخلة، متمازجة متقاربة، وهي تختلف شدّةً ونوعاً من طفل إلى آخر، كما تختلف المدّة التي تتطلّبها من طفل إلى آخر.
وكلّما نما عقل الطفل، وازداد علمه ووعيه، وسمَت نفسه، وأرهفَت مشاعره، واتّسعت آفاقه، ضمرت مشاعر (الأنا) المفرطة واعتدلت، وتهذّبت أخلاقها وصفاتها، واحتلّت مساحتها (نحن)، بأخلاقها وصفاتها.
فإذا اكتمل عقل الإنسان، وبلغ أشُدَّه تمايز الناس، ثلاثة أصناف: فكان منهم عظماء الرجال، ومنهم عامّة الناسِ، ومنهم أشباه الرجال ولا رجال.. فعظماء الرجال هم المحسنون أهل الفضل، الذين يرون العطاء والبذل هو الذي يحقّق ذاتهم وطموحهم.. وعامّة الناسِ هم أهل العدل، وربّما غلبتهم (الأنا) المفرطة فجاروا، فاحتاجوا إلى من يردّهم إلى العدل، وأشباه الرجال هم أهل الظلم والجور، وربّما كان منهم العدل عندما يرون فيه مصلحتهم العاجلة.
ولا شكّ أنّ الأنا الفرديّة نعمة في الأصل، عندما تكون دافعًا إيجابيًّا، لأنّ فيها نفعًاً للجنس البشريّ كلّه، على أن لا تخرج عن حدّها إلى أثرة بغيضة مفرطة، فهناك الأنا الفرديّة المرَضِيّة، والأنا الفرديّة السويّة، التي تقوم على الاهتمام بالخصوصيّة، وتحمّل المسئوليّة، والسلوك الإيجابيّ.
فأمّا عظماء الرجال فهم الرجال بحقّ، والرجالُ قليلُ، وهم الذين ذابت من نفوسهم مشاعر (الأنا) وامّحت، واكتملت مشاعر (نحن) بأخلاقها وصفاتها، فهم لا يرون لحياتهم قيمة إلاّ إذا ارتبطت بحياة الناس، والعمل على إسعادهم، قد وضعوا نصب أعينهم العمل لإصلاح الناس وترقيتهم، روحيًّا ونفسيًّا وماديًّاً ترى كلّ واحدٍ منهم واسع النظر، عميق الفهم، رحب الصدر، متسامحًا لا يعرف العصبيّة لرأي أو حزبٍ أو فئة، يُقَدّم مصلحة الآخرين على مصلحته، وحقّهم على حقّه، فيضحّي براحته ووقته في سبيل إسعادهم، ويرى أنّ ما ينال من حظّ روحيّ بذلك يفوق أضعافـًا مضاعفة ما يبذل من حقّه، ويترك من حظّه.
وعظماء الرجال ربّما كانوا أطفالاً من حيث الصورةُ الظاهرة، ولكنّهم من حيث الحقائق التي يحملونها، والقيم التي يعونها قد سبقوا كثيرًا ممّن هم في صورة الرجال، ولقد عرفت هذه الأمّة نماذج فذّة من رجولة الأطفال المبكّرة، وأعني بالرجولة النضج، وما يقترن به من نبوغ علميّ أو عمليّ.
اقرأ من سير هؤلاء سيرة عبد الله بن الزبير، وسيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، وسيرة أمّ المؤمنين الصدّيقة بنت الصدّيق السيّدة عائشة، وغيرهم كثير.
ويتسامى عظماء الرجال ويتفاضلون، حتّى يكون منهم المصلحون الكبار، الحكماء الراشدون، المهتدون بهدي الأنبياء والمرسلين.. وأعلى العظماء شأنًا وشأواً: الأنبياء والمرسلون، فهم الأسوة العظمى للخلق كافّة، لأنّهم قد خرجوا عن حظوظ أنفسهم، ولم يتحرّكوا في الحياة لأجلها، وعاشوا حياتهم للغاية الكبرى التي خلقوا لها، دعاة للخلق إلى ربّهم، وهداة للعباد إلى ما يسعدهم في دنياهم، وينجيهم في آخرتهم، وكانوا منارات لمن بعدهم، ولم يبالوا بما نالهم في الله من أذى الخلق واستهزائهم، وكيدهم وافترائهم.
وأعلى المرسلين شرفًا وقدرًاً سيّدُنَا محمّد صلى الله عليه وسلم، الذي أثنى الله عليه بالخلق العظيم، وجمع له كمالات الأوّلين والآخرين، وجعل شريعته خاتمة الشرائع إلى يوم الدين.. فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، وإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، ولم يصدّه عن نفع الناس، والحرص على هدايتهم شيء.
وأمّا عامّة الناسِ، فهم الذين تتقارب في نفوسهم وسلوكهم ومواقفِهم: (الأنا) مع (نحن)، فلا يتخلّون عن (أنا) في سبيل الآخرين، كما لا يتنكّرون للآخرين انسياقـًاً وراء ذواتهم، وربّما مالت الكِفّة بهم ذات اليمين أو ذات الشمال، ولكنّهم عندما ينساقون وراء أنانيّتهم في موقف من المواقف يشعرون بإسفاف نفوسهم، وتدنّي مستواهم، ويحسّون بعذاب ضميرهم، وتأنيبه لهم.. فهم بين شدّ وجذب، لا يزالون يغالبون نزعات الطفولة في أنفسهم، ويرون ضرورة التسامي عليها، ويتطلّعون إلى حياة العظماء، ويرغبون في بلوغها، وهؤلاء لعمر الحقّ على خير عظيم.
وأمّا أشباه الرجال ولا رجال، فهم الأطفال في صورة رجال، وليتهم كانوا ببراءة الأطفال، ولكنّهم بتشوّه صورة الرجال، قد نمت أجسَامُهم، وامتدّت سنواتُ حياتهم، وربّما ملكوا الأموال الطائلة، وتمتّعوا بالجاه العريض، وكانوا على علم من علوم الدنيا، ولكنّهم لا يزالون يعيشون الطفولة العقليّة في نفوسهم ورغباتهم، يفرحون بما يفرح به الأطفال، ويحزنون لما يحزن له الأطفال، ويتعلّقون بالحسّيّات ومتعها، ويقنعون بها، ويقيمون لها أكبر الوزن والاعتبار.
فعندما يفرح الطفل بلعبة العيد، والثوب الجديد، والحلوى التي يحبّها، وشيءٍ من المال يجده بين يديه فهذا أمر معقول مبرّر، أمّا أن يكون فرح الكبير بمثل فرح الطفل الصغير، لا يزيد عليه ولا يتجاوزه، فهذه هي (الطفولة العقليّة والنفسيّة) عينها!
إنّهم لا يزالون يعيشون (الأنا) في أخصّ أنانيّتها، التي لا تعترف بأحدٍ سواها، وتريد من الناس جميعًا أن يعملوا لأجلها، ويقنعون من الحياة أن يدوروا في فلكها وهم الذين ينطبق عليه وصف الشاعر: "جسم البغال وأحلام العصافيرِ".
ترى أشباه الرجال معجبين بأنفسهم مغرورين، مخدوعين بأشياء الدنيا الحسّيّة، لا يعجبهم في الناس شيء، ولا يرضيهم عمل، دأبهم الاشتغال بعيوب الناس، ونقدهم وتجريحهم، وربّما أتوا أسوأ ممّا انتقدوه في الناس، وعابوهم به، إنّهم الذين وصفوا في القرآن أنّهم مردودون إلى أسفل سافلين.
أشباه الرجال لا همّ لهم إلاّ شهوات البطون والفروج، وما يدور حولها، وشهوة البغي في الأرض، والتسلّط على الناس، وما أكثر أشباه الرجال في حياتنا..! الذين يتبوّءون مراكز القوّة والتأثير! ويلتفّ حولهم الغوغاء والدهماء، ومرضى القلوب من المتزلّفين، ممّا يزيدهم غيًّا وضلالاً.
وينبغي أن يعلم أنّ الحياة ملأى باختبارات الطفولة والرجولة، ومن نجح في اختبار تأهّل لاختبار آخر، ولا يزال الطفل يسمو برجولته المبكّرة حتّى يكون في مصافّ العظماء، ولا يزال الرجل تسفّ به طفولته حتّى يكون من أموات الأحياء.. ولا سواء بين مراتب الأحياء، فالمرء حيث يضع نفسه.
عبد المجيد البيانوني