للحياة مذاق آخر..! قصة قصيرة
طبيب القلب الأشهر.. عبارة سمعها فؤاد المصري من أستاذه وهو يتابع حديثه التلفزيوني، أذهلته المفاجأة، لم يكن يتوقع أن يذكره أستاذه، فكيف بنعته بهذه الصفة الكبيرة، التي راح صداها يتكرر في رأسه رغماً عنه: "تلميذي الدكتور فؤاد المصري طبيب القلب الأشهر".
طبيب القلب الأشهر..
عبارة سمعها فؤاد المصري من أستاذه وهو يتابع حديثه التلفزيوني، أذهلته المفاجأة، لم يكن يتوقع أن يذكره أستاذه، فكيف بنعته بهذه الصفة الكبيرة، التي راح صداها يتكرر في رأسه رغماً عنه: "تلميذي الدكتور فؤاد المصري طبيب القلب الأشهر".
رجعت به ذاكرته إلى سنوات دراسته في كلية الطب، وتذكر تشجيع أستاذه له، وتوقعه المستقبل الباهر الذي ينتظره! وكيف كان لهذا التشجيع من أثر كبير في نفسه، وكيف كان جل اهتمامه منصباً على دراسته فقط، إذ لم يسلك درباً سياسياً، ولم تكن له علاقات اجتماعية إلا في أضيق الحدود، حتى زواجه كان تقليدياً عن طريق الأهل، ولم تكن له شروط تذكر في شريكة حياته..
وتذكر حياته العملية التي انحصرت بين العمل في التدريس الجامعي، والمستشفى الجامعي، والعيادة الخاصة، روتين يأكل جلَّ وقته، حتى أولاده لم يكن لهم نصيب إلا فضول وقته، فقد سلَّم دفة إدارة شؤون البيت والأولاد لزوجته منذ البداية، انتبه إلى حديث أستاذه الذي كرر مرة أخرى وهو يدعي الفخر أن تلميذه الدكتور فؤاد المصري صار رمزاً من رموز جراحي القلب ليس في مصر فقط، بل يُذكر في المنتديات الطبية الدولية!
قال فؤاد بصوت مسموع وهو في قمة السعادة موجهاً حديثه إلى زوجته: أعظم شهادة نلتها بعد هذا المشوار الطويل! أومأت برأسها، ولم تنبس ببنت شفه، سألها فؤاد مندهشاً من موقفها: ماذا بك؟! لم أرَ الفرحة في عينيك، بل على العكس أرى حزناً عميقاً يكسو وجهك! هل هناك شيء ما حدث معك اليوم في عملك؟ قالت وهي تمسح دمعة فرَّت من عينها: لا، لكن، فؤاد: ماذا حدث؟! ابننا هيثم حدثني ظهر اليوم بالهاتف وأبلغني أنه انضم للثوار في ميدان التحرير، وأنا خائفة جداً عليه، وأخشى أن يصيبه مكروه!
تظاهر فؤاد بالتماسك، ليبثَّ الطمأنينة في قلب زوجته المريض، وقلبه كاد يتوقف من خوفه على ابنه، وقال لها: لا تخافي سأتصل به الآن، وأطلب منه أن يعود فوراً! قالت والأمل يداعب فؤادها: ليته يسمع كلامك ويعود إلى المنزل! لأول مرة يعصي لي طلباً، رجوته كثيراً، وبكيت في الهاتف، وانتحبت، وكان يقول لي وهو يبكي: آسف يا أمي، لم أكن لأعيش يوماً أعصي لك فيه أمراً، ولكن أرجوك يا أمي لا تحرميني شرف مشاركة الأحرار هذا الحدث العظيم الذي انتظرناه طويلاً، وإن شاء الله سأعود إليك منتصراً!
اتصل الأب بابنه الذي أصرَّ على موقفه، مردداً العبارات نفسها! طالباً الدعاء من والديه، تغيَّر وجه فؤاد، وبدت على ملامحه علامات متداخلة بين الغضب والدهشة من موقف ابنه هيثم الذي لم يعصِ له ولا لأمه أمراً يوماً ما! وتساءل في نفسه: متى اهتم هيثم بهذه الأمور السياسية؟ لم نتحدث سوياً في أي شأن سياسي، كان حديثنا دائماً في مجالنا الطبي، فهو في السنة النهائية، وأخشى أن تؤثر هذه الاهتمامات على تقدير الامتياز الذي يحتاج منه إلى كل وقته!
رنَّ هاتف فؤاد بالنغمة المخصصة لابنه هيثم، تهلل وجهه بالفرحة، وقال في نفسه: مؤكد سيعتذر عن عصيانه أمري، ويبلغني بأنه في طريقه إلى المنزل! وأنه لن يعود إلى الميدان مرة أخرى، ويعود إلى مذاكرته..
فؤاد: أهلاً، هيثم، أنت في الطريق إلى المنزل؟
هيثم بصوت ملؤه الرجاء: لا يا أبي، أنا في الميدان، أحاول مع زملائي تضميد جراح الثوار الأبطال، وأرجوك يا أبي شاركنا بعلمك وخبرتك هذا الشرف العظيم، فنحن في أمسِّ الحاجة إلى أستاذ كبير مثلك، فالمصابون الأبطال يرفضون ترك الميدان، أرجوك يا أبي، كن لهؤلاء الأبطال الذين تركوا ديارهم وأهليهم ومالهم وأعمالهم فداءً لمصرنا الحبيبة، طلباً لحريتنا وكرامتنا، كن سبباً في تخفيف آلامهم، فكم من شهيد سقط بين أيدينا بسبب قلة خبرتنا؟!
الأب: يا بني أنا عندي مسؤوليات كبيرة لا أستطيع التخلي عنها سويعات قليلة!
الابن باكياً راجياً: أرجوك يا أبي نحن في حاجة إليك وإلى أمثالك من الأساتذة.
الأب وقد رقَّ قلبه لبكاء حبيبه: حاضر سآتي غداً.
الابن: لا، يا أبي الآن، بين أيدينا عشرات المصابين.
تهلل وجه هيثم بالفرحة، وانطلق نحو أبيه يحتضنه ويقبل يده، الأب: دلني على مكان الجرحى، راح فؤاد يُعْمِلُ مشرطه الطبي، ولم يعبأ بما يسمع من دوي الرصاص الحي، وقنابل الغاز المسيل للدموع، وقد هاله ما رأى من عزيمة الأبطال المصابين؛ فكلٌّ منهم يرفض المكوث للراحة بعد تضميد جراحه، وينطلق إلى سدِّ ثغرة يمكن أن ينفذ منها بلطجي مأجور فيصيب أحد الثوار الأبطال وسط الميدان!
هيثم مشفقاً على أبيه: استرح يا أبي بعض الوقت، يبدو أثر الإرهاق الشديد على وجهك! الأب وقد اغرورقت عيناه بالدمع: استرحت كثيراً يا حبيبي، وحان وقت دفع جزء من الدَّين!
الأم الصابرة تأتي بالطعام والدواء بصحبة ابنتها، وتشدُّ من أزر زوجها وابنها طوال عشرة أيام، حتى جاء موعد النصر، سقوط النظام الظالم الذي جثم على صدور الملايين، وسلبهم حريتهم وأموالهم، وأذاقهم الذل والهوان، وأورثهم الضعف والمرض والفقر، عاشت الأسرة اللحظة التي انتظرتها مع ملايين الأبطال الأحرار في الميادين، وسجدوا شكراً لله...
محمود حسين عيسي
- التصنيف: