رمضان وتجديد الذات
في رمضان يجد المسلم نفسه ملازِمًا جادة الإيمان، مندفعًا مع الوفود الإيمانيه نحو نفحات الله تعالى ورحماته ومنحه التي لا تُحصى ولا تُعد، فهو بين منح المغفرة للصائم والدعوات المستجابة عند إفطاره وليلة القدر التي تجمع له طاعة 83 عامًا أو يزيد، فضلًا عن غَل الشياطين وغلق أبواب الجحيم وزلفى الجنة من الطائعين، وكفى المؤمن شرفًا أن خلوف فمه وهو صائم أطيب عند الله من ريح المسك.. إن المسلم في رمضان بالفعل يتغير، وتأخذ حياته صبغة نورانية جميلة، وتعزف نفسه عن المعصية عزوف الملائكة عنها.
بسم الله الرحمن الرحيم
رمضان محطة سنوية تؤثر في النفس تأثيرًا بالغًا، حيث تنتعش بدواخلنا القوى الروحية، وتنقمع القوى الشهوانية، فضلًا عن التحكم الفريد في رغبات الفرد بتأثير الصوم الذي يقوي العزائم ويجمح المثالب.
وفي رمضان يكون القرب أكثر من الله تعالى ويحلو الصيام والقيام والدعاء والتضرُّع والخشية والاستكانة وإطعام الطعام والصدقة.. والكثير مما يطول ذكره ويصعب حصره من معالِم البِرّ والخير.
ورمضان شهر التضامن الاجتماعي باقتدار حيث يستشعر الغني فقر الفقير، وتملأ جنبات نفسه السعادة وهو يمد يدَّ العون لأخيه المحتاج: صدقةً وزكاةً وعطفًا وصِلة.. فتتصالح النفوس مع ذواتها ومع بعضها البعض في منظومة إيمانية بديعة لا تجد لها مثيلًا إلا في روضة الإسلام الغناء.
وفي رمضان يجد المسلم نفسه ملازِمًا جادة الإيمان، مندفعًا مع الوفود الإيمانيه نحو نفحات الله تعالى ورحماته ومنحه التي لا تُحصى ولا تُعد، فهو بين منح المغفرة للصائم والدعوات المستجابة عند إفطاره وليلة القدر التي تجمع له طاعة 83 عامًا أو يزيد، فضلًا عن غَل الشياطين وغلق أبواب الجحيم وزلفى الجنة من الطائعين، وكفى المؤمن شرفًا أن خلوف فمه وهو صائم أطيب عند الله من ريح المسك.. إن المسلم في رمضان بالفعل يتغير، وتأخذ حياته صبغة نورانية جميلة، وتعزف نفسه عن المعصية عزوف الملائكة عنها.
يقول ابن عاشور: "حكم الصيام حكمٌ عظيمٌ من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فردًا فردًا؛ إذ منها يتكون المجتمع" (التحرير والتنوير؛ لابن عاشور: [2/153]).
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، "أي ليعدكم به للتقوى - التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، لما في الصيام من مراقبة الله تعالى[1] أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين، لأنّ الصوم شعارهم" (الكشاف؛ للزمخشري: [1/162]).
والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي، وإنما كان الصيام مُوجبًا لاتقاء المعاصي، لأن المعاصي قسمان: قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصب، فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكُّر، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها، لأنه يعدل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية. وفي الحديث الصحيح: « » أي وقاية (رواه النسائي عن معاذ رضي الله عنه)..
ولما ترك ذكر مُتعلِّق جُنَّة تعين حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم، ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العِلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات" (التحرير والتنوير؛ لابن عاشور: [2/158]).
الخطة الرمضانية:
- خير بداية لرمضان تكون بتطهير المحل، ونقصد به نقاوة القلوب لإقبالها على علام الغيوب، بتقديم التوبة الصادقة والتقلُّل من أدران الذنوب، فعائشة رضي الله عنها أنها قالت: "إنك لن تلقى الله بشيءٍ خير من قلة الذنوب، فمن سرَّه أن يسبق الدائب المجتهد فليكف نفسه عن كثرة الذنوب".
- أيام رمضان شأن سائر الأيام تمرُّ سِراعًا، بل ربما هي أسرع من غيرها، وهذا يتطلَّب عزيمةً صادقة وهِمَّةً عالية في ترتيب الأوقات واغتنام النفحات -وما أكثرها في شهر البركات- وترتيب الوقت في هذا الشهر الكريم من أهم مفاتيح جني الثمرات، وذلك برصد أوقات محدَّدة لكل عبادة حسب ما تسمح به الأحوال، والحذر من لصوص الوقت من الرفقاء والثقلاء والطفيليين، قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام من الآية:70]، مع الحذر أيضًا من آفات الكسل والتسويف، وشغل النفس بأمورٍ يمكن تداركها بعد فوات الشهر الكريم، والانشغال بالمهم عن الأهم.
قال أبو بكر الوراق: "استعن على سيرك إلى الله بترك من شغلك عن الله عز وجل، وليس بشاغل يشغلك عن الله عز وجل كنفسك التي هي بين جنبيك".
وقال الحسن: "من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه".
- مما ينبغي الاهتمام به في شهر الخير هو تجميل العبادة وتزينها واستشعار أنها ستهدى لله عز وجل فلا بُدَّ أن تكون على أحسن حال وأجمله وأطيبه، وهذا لا يتأتى إلا بمزيج من الإخلاص والبُعد عن شوائب الرياء، والإكثار من قربات السِرّ فإنها تقع من الله بمكان، مع معايشة وتدبر كل آية تمرّ عليها بين دفتي المصحف، وإدمان الذكر على كل حال، وتحري أوقات الدعاء المستجابة: (أثناء الصوم، عند الفطر، بين الأذان والإقامة، وقت السحر، ليلة القدر...).
- تفطّن لدقيق العبادات التي لا يلحظها إلا الراسخون في العلم وأصحاب الهِمم العالية، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه أهل السنن بسندٍ صحيح).
ومنها تكرار ختمات القرآن اقتداءً بالحبيب صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الكرام، فقد كان أبو رجاء العطاردي يختم في كل عشر، وكان قتادة يختم في كل سبع دومًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر كل ليلة. وكان الأسود النخعي يختم في كل ليلتين.
قال ابن رجب: "وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث، على المداومة على ذلك. فأما في الأوقات الفاضلة، كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يُطلَب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة شرَّفها الله، لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن، اغتنامًا للزمان والمكان".
ومنها أيضًا التبكير للصلوات، والجلوس بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس، فقد قال صلى الله عليه وسلم: « » (رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه).
- رمضان شهر تربوي، حيوي، تفاعلي، تلاحمي.. فما أجمل أن تتعدى القربات إلى من حولك، صدقة على المحتاج وصلة للأقرباء وإعانة للضعفاء.. وسائر وجوه البِرّ والتكافل الاجتماعي، ففي كل هذا تآلف لأواصر المحبة وتناغم المجتمع في بوتقة الإيمان حيث تزول بيننا أدران الحقد والغل والحسد وسائر المهلكات.
قال مالك بن دينار: "إن الأبرار لتغلي قلوبهم بأعمال البِرّ، وإن الفجار لتغلي قلوبهم بأعمال الفجور، والله يرى همومكم، فانظروا ما همومكم رحمكم الله".
وهذا الإيمان العملي من شأنه أن يُجسِّد المنهج الإسلامي واقعًا فعليًا بيننا، ولا يكون نصيبًا منه إلا شعارات وخُطب رنانة ليس لها من أرض الواقع نصيب، ونصير -بحسن سلوكنا- رسل دعوة نحبب الناس في الدين، فيمد الغني يدَّ العون للفقير، ويساعد القوي الضعيف، ولا يضيع بيننا يتيم ولا أرملة ولا مسكين، وهذا عين رضا ربّ العالمين، وإذا رضي الرب على قوم فانتظر الخير الجزيل.
- يا حبذا رمضان بإنسانٍ مختلف وهِمّة متميزة، لتجنيد الطاقات، وتعبئة الإرادات، وتقوية العزائم، وشحذ الهِمم، وإذكاء البواعث، ومن أهم الأفكار العملية في هذا الصدد:
1- تكوين فِرق عمل في الحي لجمع البيانات عن محتاجي التبرعات والزكوات في المنطقة القاطنة، ومن ثم التشارك في جمع التبرعات وإعداد الحقيبة الرمضانية العامرة بشتى المأكولات وتوزيعها في بداية الشهر الكريم على مستحقيها من فقراء الحي، ومن فطّر صائمًا فله مثل أجره، وفي نهاية الشهر نتشارك في لجان جمع زكاة الفطر وتوزيعها على أصحابها.
2- التشارك في عمل لوحات رمضانية جذَّابة عن فضائل الصوم تشمل الآيات والأحاديث النبوية المرغبة فيه وتعليقها على قارعة الطرق وفي مداخل العمارات. أيضًا شراء الكتيبات والمطويات الرمضانية وتوزيعها على الأقارب والأحباب والجيران.
3- كُن رسول خير اقتداء بالحبيب صلى الله عليه وسلم ولا تدع المناشط الدعوية تفوتك، وما أجمل أن تصطحب صديق لك رقيق الدين إلى درس العصر أو صلاة ترويح، مُستغِلًا وجاهتك عنده وعلاقتك الطيبة به مع أسلوبك المقنع في جذبه إلى الرحاب الرمضانية، ولأن يهدي الله بك رجلًا خير لك من حُمر النعم، والدال على الخير كفاعله، وبذلك تنال الأجر مرتين، وما أروع أن يكون رمضانك رمضانين بل رمضانات عديدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- (أيسر التفاسير؛ لأبو بكر الجزائري: [1/80]).
- التصنيف: