الانتصار على الجوع (من زكريات خالد حربي بمعتقلات مبارك)
لا أدري هل كانت معجزة أو كرامة من الله، أو بركة حلت علينا، أم هي حلاوة الإيثار حين يكون صادقًا خالصًا ولو على لقمة يابسة بعدس مر، أم هي روح المجاهد التي تأبي أن يشمت بها الطغاة، لم يكن شعور الشبع وحده هو المفرح بل كان الأهم هو شعور الانتصار على كيد الطغاة وتلك الألفة التي ربطت القلوب.
كانت الشمس تميل للغروب يوم 11 مارس سنة 1993، حين استقرت سيارة الترحيلات بنا أمام سجن (أبي زعبل) الشهير، كنا مجموعة من الشباب الصغير أكبرنا لا يتجاوز عامه العشرين وكنت أنا أصغرهم في الخامسة عشر من عمري، وكان أغلبنا مُرحل من زنازين فرق الأمن المركزي بالكيلو 10 طريق مصر إسكندرية الصحراوي والذي كانت أمن الدولة تتخذه كمقر للتحقيقات حين تزدحم مقراتها بالمعتقلين السياسيين، كنت قد قضيت قرابة الأسبوع في أحد مقرات أمن الدولة بالجيزة حيث التعذيب المتواصل..
ثم رحلت لفرق الأمن حيث بدء التحقيق معي من جديد واستمر قرابة الأسبوعين، عرفت فيهما معنى الحبس الإنفرادي للمرة الأولى في حياتي، وقفنا على بوابة المعتقل بحالة مزرية للغاية، جروح تنزف ودماء تلطخ الملابس المهللة المتسخة وأقدام حافية وشعور هائشة وعيون ذابلة ظلت لأسابيع معصوبة لا ترى النور..
قلّب ضابط مباحث السجن أوراقنا ثم اقترب مني وقال: "عندك كام سنة؟"
فأجبت: 15 "بتدرس؟" طالع تالته إعدادي "منين؟" من إمبابه - الجيزة
"طيب قف على جنب"، ثم نادى لأحد المخبرين وقال له: "اجمع لي العساكر والشاويشية والمخبرين حالاً".
لم أفهم المقصود وشعرت بالخوف، نظرت لإخواني الذين يقفون بعيداً عني فرأيت القلق على وجوههم، بعضهم حاول طمأنتي بابتسامة متكلفة زادت من قلقي وخوفي، دقائق وكان الجميع يقف أمام مكتب الضابط الذي خرج على الفور وطلب مني أن أقترب، اقتربت فوجدته يضع يديه على رأسي ويسحبني لأقف أمامه مباشرة ووجهي للعساكر والمخبرين، كان بعضهم ينظر إليّ متحيرًا في أمري والبعض الأخر يتصنع الحدة والغضب ليخيفني لكني شعرت بيد الضابط فوق رأسي لا تنوي الشر، بدء الضباط يتحدث: "أسمعني كويس يا ابني أنت وهو، إللي قدامكم ده.. ثم سألني اسمك إيه، قول اسمك بصوت عالي"، فنطقت باسمي فقال: "إللي قدامكم ده معتقل سياسي"، بدء البعض يضحك فعقب الضباط: "احفظوا وجهه كويس لأنه ممكن يخرج مع الأهالي في الزيارة ومحدش هياخد باله".
كان الجميع بين ضاحك وساخر وقال أحد المخبرين والله يا أشرف بيه حسني مبارك اتجنن هو خايف من العيال دي، مط الضابط شفتيه ثم أعاد التأكيد على حفظ ملامحي ودخل مكتبه ولم يعقب على سخرية المخبريين، تركونا لمدة نصف ساعة ثم عاد أحد المخبرين وبصحبته شاويش واصطحبنا لعنبر (أ) بسجن أبي زعبل الصناعي وفي الدور الثالث فتح زنزانة رقم 35 التي كانت فارغة تماما من أي شيء فأدخلنا وكتب أسمائنا على ورقة ولصقها على الباب من الخارج وانصرف.
انفجر إخواني في الضحك على ما حدث معي، وظللنا نتبادل التعليقات الساخرة، كانت الزنزانة مظلمة وبلا طعام أو فراش أو غطاء وبها أربع نوافذ عملاقة تصب السقيع على أرضيتها الخشنة، توضئنا وصلينا وجلسنا للمرة الأولى منذ أسابيع -مرت علينا أثقل من السنين- بلا تحقيق ولا تعذيب ولا عصابة على العين.
كالعادة ابتدئنا بالتعارف ثم أخذ كل شخص يحكي لنا قصته ولماذا أعتقل، وظللنا في حالة من السمر حتى منتصف الليل تقريبا، كنا منكمشين ومنزوين من البرد في ركن صغير من الزنزانة واقتنصنا النوم على هذه الحالة الواحد تلو الآخر، وحين وضعت رأسي على يدي لأنام كنت أفكر في ساعاتي الأولى في معتقلات مبارك الغير آدمية، وضحكت وأنا أتذكر رسالة مكتوبة أرسلتها لي أمي في فرق الأمن عن طريق أحد جيراننا الذي كان مجندا هناك، كانت توصيني بالصبر وتذكرني بالفرج وتنصحني: "كُلّ كويس، واتغطى كويس وحط البيجاما جوه البنطلون عشان متخدش برد وانت نايم"، ضحكت من قلبي فأنا الآن على البلاط بلا فراش ولاغطاء ولا بيجاما أصلا ولم أذق الطعام منذ يوم كامل.
في الصباح استطعنا رؤية الزنزانة بكل تفاصيلها لم تكن تختلف عما شاهدناه مساءً سوى في لون الحائط الأزرق الكئيب وبعض الكتابات المخطوطة على الجدران تحمل آيات الصبر وتوصي باليقين والثبات، قمنا إلى الماء فمسحنا الزنزانة ولم نجد ما نغطي بها أرضيتها فجلسنا على ثيابنا ونحن نتشاور كيف ندير حياتنا في هذه العلبة الصخرية المغلقة.
مرت الساعات والجوع يزحف معها بقلقه وإزعاجه، انتصف النهار ونحن نقتل الوقت بالحديث والفكاهات، لكن الفكاهة لا تغني ولا تسمن من جوع، بدء الجوع يهد الأجساد ويسيطر على الحديث، وعندما اصفرت الشمس وأخذت طريقها للغروب خيم الصمت على الجميع فلا طاقة ذهنية أو جسدية لتبادل الأحاديث، وحين ارتفع آذان المغرب تذكرنا أننا لم نذق الطعام منذ يومين كاملين.
فتح الله على أحدنا فقال: "يا شباب عليكم بالتسبيح فإنه طعام المؤمنين في آخر الزمان حين يحاصرهم الدجال بالجوع"، انهمك الكل في التسبيح والتحميد والتهليل حتى ارتخت الجفون ونامت العيون برحمه الله.
وفي صباح اليوم الثالث لم يكن من حديث سوى عن الطعام وتفسير تركنا بلا طعام لثلاثة أيام متواصلة، قال أحدهما: "ربما نسونا"، وقال آخر: "ربما يخططون لقتلنا جوعا"، وقال ثالث: "يا أخوة لو مت قبلكم فأنا أحل لكم جسدي فكلوه كي لا تهلكوا"، فرد آخر مازحا: "لا يا عم أنا أموت أحسن"، وعلق ثاني: "طب احجزلي الكتف".
وبدأت دورة جديدة من التنكيت والتعليقات الساخرة في محاولة مستميتة لهزيمة الجوع القاسي،
وقبل انتصاف النهار وقف أحد المخبرين على نافذة باب الزنزانة وبدء يسأل عن أسمائنا، أسرعنا نذكره أننا لم نحصل على أي طعام منذ ثلاثة أيام، بعضنا حول أن يجعل الأمر خطيراً فزعم أن معنا مرضى قد يموتون بسبب هذا فأجاب المخبر بكل برود: "طب ما أنا عارف أنكم مكلتوش من ثلاث أيام"، فقال أحدنا: "طب وبعدين الأكل هيجي إمته؟" فقال المخبر: "لما الباشا يأمر"، فقلت: أيوه يعني أمته فرد بنفس البرود: "لما الباشا يجيله مزاج يدخلكم الأكل هتاكلوا".
تركنا ومضى ونحن في حالة ذهول وغضب، قال أحدنا: "يا إخواني هو جي يقول الكلمتين دول عشان يهز معنوياتكم، مش ملاحظين أنه في الأول سأل عن الأسماء مع أنها مكتوبة على الباب بره، وبعدين مشي من غير ما ياخد اسم أي حد"، قال آخر: "استعينوا بالله واصبروا، ياله نتغدى تسبيح بقه زي امبارح"، انهمكنا في التسبيح والتكبير بعقل شارد، أدركنا أن زنازين المعتقل لا تختلف عن زنازين أمن الدولة، فكلاهما يهدف لكسر نفوسنا والسيطرة على إرادتنا.
كان أخطر ما في الجوع أنه يشعرك بضعفك وعوزك ويمتهن كرامتك أحيانًا، كنت أوشكت على البكاء لشعوري بالمهانة والقهر لكني أتجلد رحمة بإخواني.
صلينا العصر وجلس كل منا في مكانه لا يقوى على الحركة كانت الألسنة تلهث بالتسبيح والتكبير والعيون زائغة والوجوه واجمة، لم يعد هناك ما يقال ولم يحاول أحد أن يقول شيئًا، وحين اصفرت شمس النهار وأيقنا أن ليلة أخرى طويلة وقاسية ستمر علينا ونحن جوعى أذلاء، فجأه وقف الشاويش على نافذة الباب ومد يده برغيفين صغيرين وصحن صغير من العدس وهو يقول "التعيين يا شيخ"، هرول أحدنا فالتقط الرغيفين وصحن العدس ووضعها على الأرض ومد يديه للشاويش ينتظر باقي الطعام فصدمنا برد الشاويش الزاعق: "خلاص هو ده تعينكم"، فقلت له: احنا أربعتاشر واحد! فرد بغلظة: "عارف يا خويا، هو ده الأكل إللي البيه المأمور صرفه لكم"! ساعتها فقط شعرت أن الجوع كان أرحم من هذه اللُعاعة التي قد تتصارعها الأيدي والنفوس..
وضعت صحن العدس الصغير الذي لا يشبع طفلاً، والرغيفين النحيفين في وسط الغرفة والجميع يختلس إليهما النظر على استحياء.
قال أحدنا: "ياشباب والله ما فعلوا هذا إلا للتحريش بيننا كما يفعل الشيطان، فإنهم يتصورون أننا سنتقاتل على هذا الطعام، ولكننا بفضل الله أكبر من هذا، ونبينا صلى الله عليه وسلم علمنا كيف نفعل في مثل هذا الموقف، ففي غزوة الخندق كان الصحابة يربطون الأحجار على بطونهم لشدة الجوع، ثم جاء صحابي ومعه طعام قليل يكفي أربعة أفراد فعرضه على النبي صلى الله وسلم فاخذ النبي الخبر وكسره وأطعم منه الجيش بأكمله ببركة من الله، ونحن سنفعل مثلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الرغيفين فقطعهما لقيمات صغيرة وهو يدعوا الله أن يبارك في القليل حتى لا يشمت بنا الطغاة.
تحلقنا على صحن العدس ولقيمات الخبز وكنا نرى أن من آداب الطعام أن يبدأ أكبرنا سنا أولا، فأخذ أكبرنا لقمة وغمسها في العدس قائلاً: "بسم الله" ولكنه لم يضعها في فمه بل بحركة سريعة وضعها في فمي أنا وهو يبتسم قائلا: "ستأكل أنت حتى أشبع أنا، ألا تذكر أبو بكر الصديق حين قال: شرب النبي حتى ارتويت"، ذهلت من الموقف وظلت اللقمة في فمي حائرة مثلي، لم يمنعني الذهول من أن أبادله بلقمة أخرى، وبدأت على الفور أغرب وأعجب مائدة رأيتها في حياتي حتى الآن.
كل شخص يمسك لقمة ويضعها في فم أخيه، لم يضع أحد لقمة في فمه قط رغم قسوة الجوع وقلة الزاد، كانت البسمة والرضا والسعادة تذيب غصة اللقيمات الخشنة وتغطي على مرارتها، شعرت بدمعة حارة تنساب على خدي بعدما حاولت كثيراً حبسها فعجزت، مد أحد إخواني يده فمسح دمعتي وقال: "اصبر يا أخي الصغير"، فقلت: والله لم يبكني سوى تذكري لقول الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]، ربما للمرة الأولى أستشعر عظمة هذه الآية الكريمة، بدأنا نقوم الواحد تلو الآخر ونحن نردد الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين، حتى قام آخرنا وخلف ورائه بقايا طعام.
لا أدري هل كانت معجزة أو كرامة من الله، أو بركة حلت علينا، أم هي حلاوة الإيثار حين يكون صادقًا خالصًا ولو على لقمة يابسة بعدس مر، أم هي روح المجاهد التي تأبي أن يشمت بها الطغاة، لم يكن شعور الشبع وحده هو المفرح بل كان الأهم هو شعور الانتصار على كيد الطغاة وتلك الألفة التي ربطت القلوب.
لم تمضي دقائق حتى لمحت أحد الضباط يقترب خلسة من نافذة الباب ليشاهدنا ونحن نتقاتل على طعامهم المر -كما كان يظن- ولم أكن لأتركه حيران وهو يرانا نضحك ونتسامر، أسرعت إلى الباب وعندما اقتربت منه سألني بخبث: "الأكل وصلكم يا شيخ؟" فأجبته بابتسامة أشد خبثًا: آه وكلنا وشبعنا الحمد لله، وبعد إذن حضرتك في شوية أكل عندنا زيادة لو ممكن نبعتهم لزنزانة تانية؟" فرد: "بتهزر"، فقلت له لا والله العظيم، حتى بص حضرتك..
لم يجيب بل نظر إليّ لبرهة وعندما أدرك صدقي ومغزى ابتسامتي تمعض ورفع شفته العليا من الجهة اليسري وأدار ظهره وانصرف، فكانت فرحتنا بغيظه وكمده أكثر من فرحتنا بانتصارنا على الجوع وسمونا فوق متاع الدنيا، كل متاع الدنيا، وساعتها فقط أدركت أن مبارك كان محقًا في خوفه من شباب الإسلام حتى لو كانوا صغاراً.
- التصنيف: