تشديدات القرآن - (3): وفيكم سَمَّاعون لهم

منذ 2014-07-24

وهذه الجملة {وفيكم سمَّاعون لهم} جملة اعتراضية، أي: اعتراض للتنبيه على أنّ بغيهم الفتنةَ أشدّ خطرًا على المسلمين؛ لأنّ في المسلمين فريقًا تنطلي عليهم حيلُهم، وهؤلاء هم السُّذَّج من المسلمين والمغفلون والمستغفلون والمستخَفُّون الذين يعجبون من أخبارهم ويتأثّرون بها، ولا يبلُغون إلى تمييز التمويهات والمكائد عن الصدق والحقّ، فيذيعونه في الصف، خاصة مع وجود سيل وسائل الإعلام النشَّارة..

قال الله تعالى:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ، لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[التوبة:46-47].
يكشف الله سبحانه دسيسة بعض الناس، ويكشف كذبهم وتظاهرهم بالخير وإرادة الإصلاح؛ والمتمثل هنا في الخروج للجهاد في سبيل الله مع المسلمين.

وبُيَن أن برهان صدق إرادتهم هو ما يظهر من العمل لا ما يضمرون في صدورهم أو يدّعونه فقط... لو أرادوا.. لأَعدُّوا..

والطامة، والخزي أن الله سبحانه هو الذي كره انبعاثهم فثبطهم، ولم يقل كرهوا .. مما يدل على خبث طويتهم وفساد نيتهم من جهة.. وأيضًا رحمة من الله بالصف المؤمن؛ لأنَّ خروج هؤلاء هم سبب للفتنة والهزيمة والخبال والاختلال والاختلاف..

فلا يحزن المسلمون أنْ لم يخرج معهم أناس مِن أنواع أناس كره الله انبعاثهم: عسكراً كانوا، أو سياسيين، أو دعاة، أو طلبة علم، مشايخ ومشهورين، أو إعلاميين.. كلّ أولئك قد يكون خروجهم مع المسلمين كما وصف الله حال هؤلاء.. وصدور الناس وبطون الأيام غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه، يكشفه حين يشاء؛ حكمة ورحمة، وقد قال الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:179].

ولستُ أقصد من هذه الآيات هنا إلا قوله تعالى:{وفيكم سمَّاعون لهم}، وما يتصل بها.

فحتى خروج هؤلاء الأوباش والفَتَنَة والمخبِّلين والمثبطين والمبطِّئين إنما يضر الصف ويفعل فعلته في وجود هولاء "الـسّـماعين"، ولذلك أردف الله تعالى وجود السماعين بعد ذكر أضرار هؤلاء كالتعليل له، يعني هم يفعلون هذا وأنتم فيكم من يسمع لهم ويتأثر بهم..

وهذه الجملة {وفيكم سمَّاعون لهم} جملة اعتراضية، أي: اعتراض للتنبيه على أنّ ابتغاءهم الفتنةَ أشدّ خطرًا على المسلمين؛ لأنّ في المسلمين فريقًا تنطلي عليهم حيلُهم، وهؤلاء هم السُّذَّج من المسلمين والمغفلون والمستغفلون والمستخَفُّون الذين يعجبون من أخبارهم ويتأثّرون بها، ولا يبلُغون إلى تمييز التمويهات والمكائد عن الصدق والحقّ، فيذيعونه في الصف، خاصة مع وجود سيل من وسائل الإعلام النشَّارة..

والقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف، والنفوس الخائنة خطر على الجيوش؛ ولو خرج أولئك المنافقون والضِّعاف ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم، بل لزادوهم اضطرابًا وفوضى. ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل؛ وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك الحين .

سامع وسمّاع، وقائل وقوَّال وعالم وعلاّم...وفاعل وفعَّال مبالغة للقوة أو الكثرة، أي كثير الفعل أو شديدَهُ.. شديد الاستماع أو كثير الاستماع..

فجاء كلمة {سـمَّاعون} مشددة بصيغة مبالغة للدلالة على أنّ استماعهم كثير وتامّ وشديد وقوي، سواء كان استماعهم مقترنًا بتصديق واعتقاد، أو لضعف شخصية تُصَدِّق الخبرَ ونقيضَه، أو لاندساس مقصود مُبَيَّت، كما في الآية الأخرى: {سمَّاعون للكذب سمَّاعون لقوم آخرين}[ المائدة : 41 ]، وكأنه ديدن لهم.

وفي السَّمَّعين هنا أقوال في من هم؟

فعن الحسن، ومجاهد، وابن زيد: معنى {سمّاعون لهم}، أي جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم، وقال قتادة وجمهور المفسّرين: معناه وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم. أي من ضعاف المسلمين.

وجيء بحرف {فــي} من قوله: {وفيكم سمَّاعون لهم} الدالّ على الظرفية دون حرف (مــن)؛ فلم يقل: (ومنكم سمّاعون) لهم أو (ومنهم سمَّاعون)، لئلا يتوهّم تخصيص السَّمَّاعين بجماعة من أحد الفريقين دون الآخر؛ لأنّ المقصود أنّ السّمّاعين لهم فريقان: فريق من المؤمنين وفريق من المنافقين أنفسهم مبثوثون بين المؤمنين لإلقاء الأراجيف والفتنة وهم الأكثر ؛فكان اجتلاب حرف {فــي} إيفاءً بحقّ هذا الإيجاز البديع، ولأنّ ذلك هو الملائم لمَحْمَلَيْ لفظ {سمَّاعون }؛ فقد حصلت به فائدتان.

ولا مانع من اجتماع الأمرين وتواجد النوعين، بل هذا هو الذي يحتمله معنى الآية ونطق به المفسرون ويصدّقه الواقع..

أناسٌ من المندسين والمندسات؛ السَّماعين والسّمّاعات في الأوساط النسائية والرجالية، همهم تَسَمُّع أخبار الناس ثم الطيران بها إلى الأسياد الذين يعيثون في الأرض فسادًا وإفسادًا؛ من أجل عروشهم وقروشهم وكروشهم..

أو أنهم يبثون الأراجيف في أوساط المؤمنين، من بث فرقة وإنشاب خلاف، وتشكيك، ونزع الثقة من بينهم، وإلقاء الشبهات، وتضخيم أمر العدو لتغزو الهزيمة النفسية قلوب المؤمنين...

ثم أناس من ضعاف الإيمان وضعيفاته، ومن المغفلين والمغفلات، والسُّذّج منهم جميعًا، يسمعون لهؤلاء، فيتأثرون بهم، فيكونون هم أيضًا أسبابًا لمثل تلك الفتن والهزائم، ويكونون مُكَثِّرين لسواد المندسين؛ لا كثَّرهم الله تعالى.

أو أنهم يسمعون منهم زخرف قولهم ومعسول كلامهم فيثقون بهم، فيدلونهم على عورات المسلمين أو إفشاء أسرارهم، لظنهم أنهم معهم وهم عليهم..

كل أولئك كائنون.. وكل ذلك كائن...

ولعل دولة الحق تستعين بمخبريها للحفاظ على أمن وأمان العباد والبلاد، منضبطة بضوابط الشريعة، حافظة لحقوق الناس وخصوصياتهم، متجافية عن التجسس والتَّسمُّع.. ثم إن المبخرين للتحقيق في الضرر الواقع والتصدي للمتوَقّع.. ولكن المؤسف أن يعمل هؤلاء -في غير دولة الحق- على إيقاع الأمر المراد، ثم إلصاقه بالأبرياء لتحقيق رغبة الطغمة... وكأنهم في حرب ضد تجمعات وطنها، ولو كانت على الإسلام.. بل هي كذلك. وقد أصبح النفاق مؤسسات أمنية قائمة بذاتها، تحمي عروش الظَّلمة، وتعمل لصاح الطبقة، لا لصالح آبائهم وأمهاتهم من الشعوب.

السَّمَّاعون الذين هم فينا، منهم مَن ليسوا منَّا، ولكنهم دخلاء مندسين، يتجلببون بمظاهرنا، وينطقون بألسنتنا، ولكن بواطنهم علينا، ومنهم مَن هم مِنَّا، ينشدون غايتنا، ويحاولون سِكَّتنا، ولكن قَصُرت بهم الهمم، وضَحُلَت منهم الأفهام، وضَعُفَت لديهم البصائر، فكانوا معاول هدم في أيدي الدخلاء، يهدمون بها أحلام السالكين، ومتفجرات، يفجرون بها جماعاتهم في كل منعطف يكونون أحوج ما كونون إلى وحدة الصف واجتماع الكلمة!

نحتاج إلى أن يصمَّ أحدنا أذنيهم لئلا يسمع بها عنهم، بينما يجب أن نفتح منهم الأذن الأخرى لنسمعهم أحسن القول وأطيب الكلام، لعلهم يهتدون.

وببلاغة القرآن الكرين هذه نكون قد أخذنا أبلغ نصيحة في حماية الصف من الداخل.
اللهم سَلِّمنا وسلِّم الناس منا.
مراجع المنقول-عدا المقول-: تفاسير:
الطبري، القرطبي، ابن كثير، فتح القدير، ابن عاشور، سيد قطب.. وغير ذلك

 والله أعلم

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 1
  • 0
  • 23,505
المقال السابق
(2) اثَّاقلتم
المقال التالي
(4): لأُقَطِّعَنَّكم ولأُصلِّبنَّكم!

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً