علَّمني رمضان
إبراهيم محمد صديق ( الأراكاني )
يرحل رمضان وتعلَّمنا منه الكثير، وكم نحن بحاجةٍ إلى أن نستمر مع كل الدروس التي تعلَّمناها.
- التصنيفات: تزكية النفس - ملفات شهر رمضان -
من قبل شهور ونحن نُتمتِم بذكر رمضان، نعُد الأيام والدقائق، نترقب يوميًا دخول الشهر لنبدأ رحلة جديدة، رحلة مع شهر رمضان.
ها هو رمضان الخير والنور، رمضان العطر والطُهر، رمضان الصلاة والذكر.
يدخل رمضان فتُغرِّد المآذن بأعذب الألحان، وتشدو البلابل (أئمة التراويح) بأجمل الأصوات، ولئن كنا نعيش في كل الشهور للحياة فإننا نعيش الحياة في رمضان، ولئن كان كل الشهور للجسد فهذا الشهر للروح.
رمضان الذي ينظر من كوته يرى ظلالًا وأفنانًا ورُبىً وجنانًا.
رمضان؛ أراه في حلقات الذكر، وفي صفوف المصلين، في شال الطفلة وهي تلف على رأسها ويصل إلى رجلها، في كوب القهوة وبين أطباق الفطور، في جموع المصلين وبين غمغمات العابرين، رمضان المدفع وصوت الأطفال من بعييييد وهم يقولون: "أذذذذذذذن".. ويطيرون إلى السفرة كما الحمائم تطير إلى أعشاشها.
رمضان يضوع بعبق الحب، ويفيض بريحان الود، وسرعان ما ينقضي، لا نجده حتى نفقده، ولا يكاد يبدأ حتى ينتهي.
هذا رمضان شهر الحب، شهرٌ تنضوي فيه كل أسرار الحياة، وكم علَّمنا هذا الشهر من أسرارٍ وأسرار، شهر علَّمنا الحب، علَّمنا الود، علَّمنا كيف نغسل قلوبنا بماء زمزم، ونجمل أفواهنا بحلا التمر، ولا زال هذا الشهر يُعلِّمنا الكثير.
كان يضيع الصلوات ولا يلتزم بها وخاصةً الفجر، كان يرى أنها ثقيلة كالجبال، وأن لذة نومه ليست إلا في تلك الدقائق فقط، يأتي رمضان ليتغير هذا الإنسان، يتبدَّد هذا الوهم، يتحول هذا الفتور إلى نشاط؛ فتراه في الصف الأول كل يوم!
إنها مدرسة الصيام وهكذا رمضان يُعلِّمنا.
كان بكت الدخان لا يُفارِق جيبه، يهرب من مشكلات الحياة وضغط الواقع إلى نفثة مسمومة يُدخلها في جوفه ويلوث بها جمال الحياة، يأتي رمضان فيتغير كل شيء يُمسِك عن التدخين أربع عشرة ساعة، والكثير منهم شد عزيمته فترك الدخان، هكذا رمضان يُعلِّمنا.
كان يجد الوقت لأصحابه، وتصفح مواقع التواصل، والجلوس مع الأولاد، ومتابعات المباريات؛ إلا أنه يتعذَّر بضيقه عند قراءة القرآن! كان لا يعرف طريق المصحف طيلة العام، ويأتي رمضان فيهتدي إليه.. يكتشف أسراره.. ويلتذ بمعانيه.. يلتزم بقراءته كل يوم.. ويتزوّد منه في كل حين.. وهكذا رمضان يُعلِّمنا.
كان يتمايل يمينًا وشمالًا بها.. لا يستطيع أن ينام دون أن يسد أذنيه بالسماعات ويستمع إلى مغنيه المفضل، لا تفوته أية أغنية جديدة، وينتظر بفارغ الصبر آخر ألبوم.. ولكن ما إن أتى رمضان حتى بدأ يتعرّف على القرآن، ووجد فيه ما أبعده عن الغناء وأهله.. كان أعلم الناس بالأغاني وصار أجهل الناس بها وأبعد الناس عنها.. إنه رمضان يُعلِّمنا.
يجلس لينهش لحوم إخوانه لا يكاد يسلم منه أحد، وحتى أصدقاؤه يتهرّبون منه فقد عرف بالطعن في الظهر، لا يجلس مجلسًا ويقوم منه إلا وقد نال من الكثير، ولكن جاء رمضان فغيَّره! أمسك لسانه وحفظ إخوانه، كلما هم بالغيبة تذكر «
» (رواه الإمام ابن ماجة) ولا يزال رمضان يُعلِّمنا.كان ضعيف الإنتاجية، يرى نفسه ِصفرًا على الشمال دائمًا! في رمضان صام ثلاثين يومًا.. صلَّى كل الصلوات.. ما تخلَّف عن التراويح.. تصدَّق.. إنجازات يُصفّق لها الكون.. ويهتف لها المجد.. وهكذا يُعلِّمنا رمضان.
ويرحل رمضان.. رمضان الذي يعبق بريّا الأزاهير، رمضان الذي يتوب فيه كل عاصٍ، وتسطع فيه أنوار كل القلوب، وتمتلئ الصدور محبة ورضا.
يرحل رمضان ولكن يبقى ذلك الرصيد الذي اكتسبناه منه يمدنا بالقوة كلما فترنا أو ضعفنا أو حاول الشيطان أن يقطع علينا الطريق.
يرحل رمضان وتعلَّمنا منه الكثير وكم نحن بحاجةٍ إلى أن نستمر مع كل الدروس التي تعلَّمناها.