استشهاد غزة
أبو محمد بن عبد الله
إن بادئ الرأي لعنوان المقال، قد يحسب أني أنعى غزة، ولستُ أنعى غزة إلى الأمة، ولسنا نقول "غزة شهيدة" كما أن "حماة شهيدة" كلَّا، بل لو كان ذلك لكنت أنعى الأمة إلى غزة...
فالشهادة في حسِّ بعض المسلمين أن تُقتَل في سبيل الله، والشهيد من قُتِل في سبيل الله تعالى في أتون المعركة...
إن الشهادة وظيفة في الحياة، وليست نهاية الحياة!
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله على آله وصحبه ومن والاه؛ وبعدُ فإن بادئ رأي لعنوان المقال، قد يحسب أني أنعى غزة، ولستُ أنعى غزة إلى الأمة، ولسنا نقول "غزة شهيدة" كما أن "حماة شهيدة" كلَّا، بل لو كان ذلك لكنت أنعى الأمة إلى غزة...
الشهادة، وما أدراكم ما الشهادة! فما الشهادة، ومن الشهيد؟!
يتمنى كثيرٌ من أخيار المسلمين الشهادة في سبيل الله، ومنهم من يرجوها، وفي ظنهم معنى واحد للشهادة، وهي أن يموت في سبيل الله تعالى.. أن تأتيه حبة هاهنا أو هنا؛ في مَقتَلٍ من جسده فترتقي روحه إلى عليين، وتسكن حواصل طيرٍ خضر؛ تسرح في الجنة حيث تشاء. حتى إن بعض الشباب كانوا في الجهاد الأفغاني ينطلقون يتعرضون للموت طلبًا للشهادة، وكان إمام العلماء وأمير المجاهدين الشيخ عبد عزام رحمه الله، ينازعهم هذا الاندفاع، ويقول لهم: نريدكم أحياءً تدكُّون معاقل الروس، لا أن تُعرِّضوا أنفسكم ليقتلوكم!
ونِعْم المنتهى تنتهي إليه حياة المسلم، ونِعْمَ المرتقى ترتقيه روحه، وأنعِم به من حُسنِ خاتمة؛ أن تموت شهيدًا في معركة حق مع الكافرين، وهذه حيث تحب أنت أيها الصادق وتشتهي! فما يحب الإسلام وما يشتهي منك..
فالشهادة في حسِّ بعض المسلمين أن تُقتَل في سبيل الله، والشهيد من قُتِل في سبيل الله تعالى في أتون المعركة.
وهذا المعنى أخذَتْهُ الشهادةُ في جيلٍ كان قد أدَّى ما عليه من العمل للإسلام، كان قد صبر وضحى حتى شهد أمام العالم أن هذا الدين حقٌّ، وأنه الحقيق بأن يسود العالم ويحكم الناس، وأنه تأوي إليه البشرية تحتمي به من ضلال الدنيا وشقاء الآخرة... عندئذ لم يبقَ لهم من الشهادة إلا أن يموتوا في سبيل الله، ليُتوِّجوا حياتهم بحياة أخرى تمتد، حتى نهانا الله تعالى عن أن نقول عنهم أو نحسبهم أمواتًا: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}[البقرة:154]، {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169]. فلفظ الشهيد، ليس فقط من يُقتل في سبيل الله تعالى، بل إن الشهادة لا تعني الموت، وإنما تعني الحياة، لذلك انتقل الشهيد من حياة إلى حياة أرقى.
كما أن الميت إذا مات انقطع عمله، بينما حتى الشهيد الذي يُقتل في سبيل الله لا ينقطع عمله لأنه حيّ، فعمله المؤثِّر في الأمة باقٍ، وموعظته باقية.
وكانت في حياتك لي عظات *** وانت اليوم اوعظ منك حيا
بل إنّ الشهيد، لبقائه حيًّا، ولدوام فعله على الأرض- حتى وإن كان تحتها- لا نحسبه ميِّتًا، ولا نقول له ميت!
فالشهيد، مبالغة من الشاهد، كفاعل وفعيل، والشاهد هو الذي يدلي بشهادته، وبالحق الذي يعلمه والصدق الذي يعتقده ويتخلَّق به، فيشهد بإحقاق الحق في واقعة معيَّنة، شهدها وحضرها، وتختاره من أفضل ما تجد أمانة وصدقًا وعلمًا بما يشهد فيه، وحضورًا لما يشهد به.
بل الله تعالى من أسمائه الحُسنَى "الشهيد"، كما قال تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}[الأنعام:19]. وقد جاء في القرآن نحو 19 مرة بأن الله شهيد، وهو الحي الذي لا يموت، ولا تأخذه سِنةُ ولا نوم.
وقد جاء في وصف أهل هذه الأمة أنهم شهداء على الأمم، وجاء في وصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه شهيد على هذه الأمة: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الحج:78]. وتلاحظ في هذه الآية أن هذه الشهادة جاءت بعد جهاد في سبيل لله تعالى؛ لإقرار منهجه في الأرض، ونشر دينه في العالمين، وإقامة الحجة على المدعوين، وإزالة العقبات من طريق دعوته، ولم تأتِ بعد قتلٍ في سبيل الله تعالى فَحَسْب.
وفي الآية الأخرى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143]، فالأمة كلُّها مشروعة شهادة، وموظَّفة في هذا المنصب؛ لتقوم حجة الله تعالى على خلقه، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك في الأمة.
وعيسى عليه الصلاة والسلام كان شهيدًا على قومه لمَّا كان حيًّا فيهم، وهو قد توفَّاه الله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117]، ولم يمت شهيدًا مقتولا: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}[النساء:157]، بل وينزل في آخر الزمان، ومع ذلك سُمِّي شهيدًا، وليس معناه أن عيسى عليه السلام يقول: وكنت عليهم شهيدً؛ يعني: قتيلا!
إذن الشهادة، ليست نهايةً، وليست موتًا، وليست انعدامًا للشخص من هذه الحياة، وإنما هي عمل إيجابيٌّ يفعله الحيُّ في حياته، و"ليس بمأمور أن يلقي بيده إلى التهلكة إذا علم أنه لا يجدي عنه الاستبسال، فإن من منافع الإسلام استبقاء رجاله لدفاع العدو"[الطاهر بن عاشور؛ التحرير والتنوير:5/ 122].
فالشهادة وظيفة في الحياة، وليست نهاية الحياة!
والشهيد ليس من قُتِل مجاهدًا فحسب، بل هو الذي يؤدي شهادة صدق لهذا الدين، ويبرهن على ذلك بالنفس والنفيس، حتى يكون منتهاه القتل في سبيل الله تعالى.
وعلى هذا نقول: إن غزة شهيدة، قد أدت شهادة من أعظم الشهادات في التاريخ.
غزة شهيدة على نفسها أولا، ثم شهدت على الأعداء، كما شهدت على الأصدقاء، شهدت على الكفر، وشهدت للإيمان...
كيف ذلك؟!
هي شهيدة على نفسها بأنه يمكنها أن تصنع شيئًا يهز أركان الكفر، حتى تتداعى جسده في العالم بالسهر والحمى، ويدعون بالويل والثبور!
ولو أنها استسلمت من أول لحظة للعدوِّ، واعتذرت من أول يوم، بأنها لا طالقة لها بالنَّتِن ياهو وجنوده، لربما قَبِل عُذرَها أكثرُ المسلمين.. ولربما صدَّق أنها لا تستطيع... لكن اليوم لا يمكنها أن تقول لا أستطيع، إذا أعدت ما تستطيع، لأن الله تعالى يستطيع.
غزة شهيدة على الأمة أنها تستطيع أن تنتفض فتنتصر بإذن الله القدير النصير، فهذه نقطة في الأرض، صغيرة المساحة، العدو من أمامها، بل محيطٌ بها، والبحر من ورائها، محاصرة بَرًّا وبحرًا وجوًّا، ومن باطن الأرض كذلك... ومع ذلك هي تُرعب العدو وتُرهبه، وتخلط أوراق المتآمرين معه.. وهي بهذه الحال، فما بالك لو كانت أُمًّا للدنيا وعندها جيشُ عظيم؟!
غزة شهيدة على أن أرحام المسلمات ما عَقِمَت، وأنها مازالت تلِد خالدًا وأبا عُبيْدة؛ كُلًّا فيما يُحسن، وإن وُجِدَت أرحام أخرى – ليتها عقمت- تلد عبَّاسًا وإن ادَّعى الإيمان فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: « !!!»( محمد بن يوسف الصالحي الشامي؛المتوفى: 942هـ؛ سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد: 10/ 315)
غزة شهيدة على أن مشكلة الأمة في نفسها، وأن ذلَّها من ذِلَّتها، وقيودها من خنوعها، لا من حديدٍ في أيديها وأعناقها، لذلك طال منامها، كما قال الشاعر:
طالَ الْمَنامُ عَلَى الْهَوانِ فأيْنَ زَمْجَرَةُ الأُسُودِ
واسْتَنْسَرَتْ عُصَبُ البُغاثِ ونحنُ في ذُلِّ الْعَبيدِ
قَيْدُ العَبيدِ مِنَ الْخُنوعِ وليْسَ مِنْ زَرَدِ الْحَديدِ
فَمَتَى نَثُورُ عَلَى الْقُيودِ مَتَى نَثورُ عَلَى القُيودِ؟!
غزة شهيدة على أنَّ الأمة على كثرة المسلمين قد أصابتها الغثائية، فتداعت عليها الكَفَرَة تداعيها على القصعة فتناهشتها، وما بها من قلِّة، ولكن لأنها ما حَسُن إسلامها كما ينبغي، ولا قويَ التزامها وتمسُّكها بدينها، وإنما اثَّاقلت إلى الأرض! ومصداق ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الألباني؛ السلسلة الصحيحة، برقم:[958]).
»، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: « »، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: « »(غزة شهيدة لصالح الإيمان بأنه ما زال يفعل فعله، ويصنع الرجال ويصبغهم بصبغته، حتى يصير الواحدُ منهم يَخشى الموتُ موتَه، كما قال الشاعر:
فـــي شَانِــــهِ ولِسانِـــهِ وبَنَانِهِ * * * وَجَنانِـــهِ عَجَبٌ لمَــــنْ يَتَفَقّــدُ
أسَدٌ دَمُ الأسَدِ الهِزَبْرِ خِضابُهُ * * * مَوْتٌ فَريصُ المَوْتِ منهُ يَتَرَعَّد
غزة شهيدة قولا وفعلا لعون الله في الأرض، وإذنه بنصر المؤمنين؛ إذا صبروا وكانوا مؤمنين، وأنه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:249].
غزة شهيدة على خرافية جيش لا يُقهَر، وشهيدة على أنه جيش جبانٌ غادرٌ، يقتل الأطفال كما كان يقتل الأنبياء، وأنه مهزوم في نفسه، لولا فريق من بني جلدتنا ممن وقف في صف بني يهود، وهم الحبل من الناس الذين يُمِدُّونهم بشريان الحياة: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}[آل عمران:112]، ولا بد لهذا الحبل من أن ينقطع يومًا، بإذن الله، وعسى أن يكون قريبًا.
غزة شهيدة على أنظمة تنتسب للعروبة وللإسلام، أسماء قادتها بين ما عُبِّدَ وحُمِّد، أنهم ليسوا مما يدَّعون في شيء، بل هم مع العدو على أمتهم، وشعوبها ودينها! حَزَبَهم ابتلاءُ غزة فظهرت سرائرُهم فِعالا أبلغ من الأقوال، وكما يقال: "كلُّ إناءٍ بما فيه ينضح"، فهي شهيدة على أنهم ليسوا أولي أمرٍ مِنَّا، إذْ لو كانوا منَّا لتداعى سائرهم بالحمى والسهر لآلام الأمة، بل لمذابح صباياها وعجائزها! كيف يكون خلاف ذلك والنبي الصادق المصدوق يقول: «صحيح مسلم، برقم:[2586])، ونحن لا نُصَدَّق على رسول الله أحدًا دَعيًّ؛ كائنا من كان.
»(مسلم؛غزة شهيدة على ما لا يُحصى من العلماءٍ عدَّا، أنهم لا يُحصَى بهم اعتدادًا، وأن كثيرًا منهم قد تخلى عن دوره، ورغم هذا المصاب الجلل، والحدث العظيم، والنازلة المُذهلة لم يُحرِّكوا ساكنا-إلا من رحم الله منهم- وبعضهم دولهم تدعم بني صهيون، وتؤيِّد الطغاة الظلمة! فغزة شهيدة أن هؤلاء العلماء ليسوا كعلماء السلف رحمهم الله، فابن تيمية ينقل عنه تلميذه ابنُ كثير رحمهم الله؛ قال:"وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مستهل هذا الشهر وكان يوم السبت إلى نائب الشام في المرج، فثبَّتهم وقوَّى جأشهم وطَيَّب قلوبهم ووعدهم النصر والظفر على الأعداء، وتلا قوله تعالى: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}[الحج: 60]، وبات عند العسكر ليلة الأحد ثم عاد إلى دمشق وقد سأله النائب والأمراء أن يركب على البريد إلى مصر يستحث السلطان على المجيء، فساق وراء السلطان، وكان السلطان قد وصل إلى الساحل فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة وتَفَارَطَ الحال، ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام إن كان لهم به حاجة، وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن، ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام، ثم قال لهم: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعائكم وأنتم مسئولون عنهم)[ابن كثير، البداية والنهاية، طبعة دار الفكر، ص14/ ج 15].
فانظر كيف أن العالم الذي لا يُشق له غبار، ولا يطعن فيه طاعن، ولا يُشكك في سلفيته ولا في علمه، ولا يُتهم بإخوانية ولا قطبية ولا خارجية.. كيف يهدد السلاطين بخلعهم ونصب من يقوم مقامهم في مصالح الأمة ورعايتها والدفاع عن أعراضها!! لم يقل يومًا: لا تؤمنوا حتى يأذن لكم الفرعون!
كان فرعون هو الذي يقول للناس: {آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}[الأعراف:123]، أما اليوم فقد صار بعض الناس هم الذين يقولون للناس: آمنتم به قبل أن يأذن لكم الفرعون؟! فلا نجاهد العدو حتى يأذن ولي الأمر، ولا ننصر المستضعفين حتى يأذن الفرعون، ولا نحمي الحمى، ونصون الأعراض ونحرر المقدسات حتى يأذن الفرعون!
ولا يُدرَى أن رسالة غزة هذه المرة في أي اتجاه بالنسبة لحكام المسلمين؛ أهي كما هي للمسلمين من الشعوب المسلمة المستضعفة، بأنكم أيها الحكَّام ممكن أن تفعلوا وتنصروا دينكم وأمتكم على مِكْنَتِكم ومنعتكم مثلما فعلنا على ضعفنا واستضعافنا؟ أو تكون لهم في الاتجاه الآخر؛ بأن تقول: أيها الحكام، حكام اليهود على رؤوس المسلمين، لن تفعلوا للحق شيئًا إلا أذى، ومهما تواطأتم معهم، فإنه سيدحركم يوما كما يدحر يهود، وسيلحقكم بهم محشرًا؛ كما ارتضيتم أنتم لأنفسكم، بالتخندق وراء يهود في حرب الإسلام والمسلمين، ومن أحبَّ قومًا حُشِرَ معهم: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}[الصافات: 22-24].
إن غزة شهيدة حيَّة، وشهادتها حياة في حال الحياة، وإن الإسلام يريدنا أحياءً لا أمواتًا، يريدنا شُعَلًا تحرق جذور الباطل وجذوعه وفروعه... يريدنا خلفاء الأرض من بعد محق الكافرين...
ولذلك فأرجو أن نغيِّر من مفهومنا للشهادة، أو على الأقل نُعَدِّل؛ خاصة ونحن أحوج ما نكون إلى رجال، الواحد منهم بألف أو آلاف..
جميلٌ أن يتمنى المسلم الموت في سبيل الله، ويسأل الله تعالى أن يختم له بالشهادة، لكن أن يختم له بالشهادة بعد طول عمرٍ وحسن عمل، لا أن يُجهِز عليه بالشهادة! «
»(مسلم؛ صحيح مسلم، برقم:[1908]). فيطلبها بعد أن يؤدي شهادة لهذا الدين، ويقيم لله دينه في الأرض، ودعوته في العالمين. وذروة سنامه بالغزو في سبل الله، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « »(مسلم؛ صحيح مسلم، برقم:[1910]).ولكن الشهادة المفروضة على الناس جميعًا هي ليس أن يموتوا قتلى في سبيل الله،
إن الشهادة الحقيقية أن تشهد لهذا الدين بالأحقية، وبالجدارة في صنع الملائكة على الأرض من البشر حين يلتزمون به قَلْبًا وقالبًا.
أن تشهد بالتزامك على المتفلِّتين، وتشهد بإيمانك على الكافرين، وتشهد بجهادك على القاعدين، وتشهد بصدقك على الكاذبين..
تشهد بما تحققه من انتصارات على أن الله ينصر عباده حين ينصرونه ولو كانوا قلة، ولو كانت أيديهم فارغة من مظاهر القِوى الأرضية، إذا بذلوا وسعهم وطاقتهم. وأعدُّوا ما استطاعوا
وفي قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء}[البقرة: 140]، " تعبير عجيب عن معنى عميق- إن الشهداء لمختارون. يختارهم الله من بين المجاهدين، ويتخذهم لنفسه- سبحانه- فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد. إنما هو اختيار وانتقاء، وتكريم واختصاص.. إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة، ليستخلصهم لنفسه- سبحانه- ويخصهم بقربه.
ثم هم شهداء يتخذهم الله، ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس. يستشهدهم فيؤدون الشهادة على أن ما جاءهم من عنده الحق، وعلى أنهم آمنوا به، وتجردوا له، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق وعلى أنهم هم استيقنوا هذا، فلم يألوا جهداً في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس، وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس... فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله، فهو إذن شهيد. أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها. واتخذه الله شهيدًا.. ورزقه هذا المقام. هذا فقه ذلك التعبير العجيب"[انظر: سيد قطب؛ في ظلال القرآن: 1/ 481-482].
وخلاصة الأمر أنها ثلاث شهادات، يقتضي بعضها بعضًا، ويَصدُق به:
شهادة الكلمة: وهي مفتاح الإسلام، وهي شهادة التوحيد، توحيد الله بالعقد والعبادة، وتوحيد الني صلى الله عليه وسلم بالاتباع: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدًا رسول الله.
وشهادة الأداء: شهادة للحق وأهله، وشهادة على الباطل وأهله، وهي التمثيل الفعلي والترجمة العملية للشهادة الأولى.
وشهادة النهاية: شهادة القتل في سبيل الله تعالى.
اللهم مَتِّعنا بطول عُمُر غزة، وكثرة عمارها، اللهم أثلج صدورنا بنصرها فإنك أنت المولى والنصير، اللهم اجعلنا ممن تشهد لهم غزة لا عليهم.
والله أعلم
ويمكنكم الاطلاع أيضًا على مقال: كيف تكون شهيدًا؟!
وأيضًا: غزة فوق القصف.