كيف تكون شهيدًا؟!
إن المسلم المؤمن بدين الله مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين. شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء وتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وجميع أصحابه ومن والاه.
قد تختلط بعض المفاهيم، وقد تتداخل، وقد تتعدد معاني المفهوم الواحد، فيتمسَّك الناس بمعنى من معانيه، وينسون الآخر، حتى يذهب طي الكتمان أو النسيان، وبه يُحجَّرون واسعًا، أو يحصرون متعددا.. ومن ذلك مفهوم الشهادة..
نعم هناك شهادات في العقود، كشهود البيع والنكاح، وهناك شهود الحوادث، كم شهد على فاعل يفعل يقتل بريئا أو يُنقذ غريقًا...
وهناك الشهادة التي يتداولها المسلمون كثيرًا ويزعمون لها حبا وبها وصلا، فمنهم من صدق الله فصدقه الله، ولو مات على فراشه، ومنهم من ادَّعى وتنمى، و"ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل" كما يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله.
وكان قد اشتهر شيء من هذا عند بعض الصحابة، وقد سألهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تعدون الشهيد فيكم؟» قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: «إن شهداء أمتي إذا لقليل» ، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: «من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد»، «والغريق شهيد»(مسلم؛ صحيح مسلم، برقم:[1915]).
ولكن للشهادة معنى آخر، هو التكليف الأصلي، وتلك الشهادات السابقة كرامة وتتويجًا لها وجزاء عليها، فعن أنس رضي الله عنه: مروا بجنازة، فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت» ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: «وجبت» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض»(البخاري؛ صحيح البخاري، برقم:[ 1367]، ومسلم؛ صحيح مسلم، برقم:[949])، فهؤلاء شهداء، من غير موت ولا قتل، ولا حمل ولا وضع، وغرق ولا حرق!
فما استشهادهم؟!
إذن لا بد أن للشهادة معنى آخر صحيح، ينبغي أن نكون منه على بال، وله على استعداد...
قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ، فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران: 52-53].
ونستمع لسيد قطب رحمه الله يُحدِّثنا عن هذا المعنى من الشهادة التي يؤديها المسلم، واستشهاد الله له، بأن يتخذه شهيدًا.
يقول سيد: "وفي هذا التوجه لعقد البيعة مع الله مباشرة لفتة ذات قيمة.. إن عهد المؤمن هو ابتداء مع ربه، ومتى قام الرسول بإبلاغه فقد انتهت مهمة الرسول من ناحية الاعتقاد وانعقدت البيعة مع الله، فهي باقية في عنق المؤمن بعد الرسول.. وفيه كذلك تعهد لله باتباع الرسول. فليس الأمر مجرد عقيدة في الضمير ولكنة اتباع لمنهج، والاقتداء فيه بالرسول. وهو المعنى الذي يركز عليه سياق هذه السورة- كما رأينا- ويكرره بشتى الأساليب.
ثم عبارة أخرى تلفت النظر في قول الحواريين: {فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ} ..
فأي شهادة وأي شاهدين؟
إن المسلم المؤمن بدين الله مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين. شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء وتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر.. وهو لا يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين. صورة يراها الناس فيرون فيها مثلاً رفيعاً، يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود، وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من أنظمة وأوضاع وتشكيلات.
وهو لا يؤدي هذه الشهادة كذلك حتى يجعل من هذا الدين قاعدة حياته، ونظام مجتمعه، وشريعة نفسه وقومه. فيقوم مجتمع من حوله، تدبر أموره وفق هذا المنهج الإلهي القويم.. وجهاده لقيام هذا المجتمع، وتحقيق هذا المنهج وإيثاره الموت في سبيله على الحياة في ظل مجتمع آخر لا يحقق منهج الله في حياة الجماعة البشرية.. هو شهادته بأن هذا الدين خير من الحياة ذاتها وهي أعز ما يحرص عليه الأحياء! ومن ثم يدعى «شهيداً» ..
فهؤلاء الحواريون يدعون الله أن يكتبهم مع الشاهدين لدينه.. أي أن يوفقهم ويعينهم في أن يجعلوا من أنفسهم صورة حية لهذا الدين وأن يبعثهم للجهاد في سبيل تحقيق منهجه في الحياة، وإقامة مجتمع يتمثل فيه هذا المنهج. ولو أدوا ثمن ذلك حياتهم ليكونوا من «الشهداء» على حق هذا الدين.
وهو دعاء جدير بأن يتأمله كل من يدعي لنفسه الإسلام.. فهذا هو الإسلام، كما فهمه الحواريون. وكما هو في ضمير المسلمين الحقيقيين! ومن لم يؤد هذه الشهادة لدينه فكتمها فهو آثم قلبه. فأما إذا ادعى الإسلام ثم سار في نفسه غير سيرة الإسلام أو حاولها في نفسه، ولكنه لم يؤدها في المجال العام، ولم يجاهد لإقامة منهج الله في الحياة إيثاراً للعافية، وإيثاراً لحياته على حياة الدين، فقد قصر في شهادته أو أدى شهادة ضد هذا الدين. شهادة تصد الآخرين عنه. وهم يرون أهله يشهدون عليه لا له! وويل لمن يصد الناس عن دين الله عن طريق ادعائه أنه مؤمن بهذا الدين، وما هو من المؤمنين!" [في الظلال: 1/ 402-403].
ربنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.
4 شوال 1435 31 / 07 / 2014
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: