غزة تحت النار - (44) الغزيون في الشتات وأحزان العيد

منذ 2014-07-31

أيها الغزيون الفلسطينيون الشرفاء، في الوطن والشتات، لا تحزنوا في يوم عيد فطركم على ما أصابكم، ولا تبكوا فقيدكم، فهم عند الله شهداء، وبين يديه جل وعلا كرماء، وعنده سيكونون خير النزلاء، مع الصديقين والأنبياء، واعلموا أن ما أصابكم من حيفٍ فإنه سينقلِب إلى عدل، وأن دماءكم ستُصبِح ثورة، وستصنع انتفاضة، تكون على العدو لعنة، ولوجوده نهاية، ولبقائه خاتمة، وإنه لنصرٍ بإذن الله قريب، نصنعه بأيدينا ككعك العيد، ونفرح به يوم أن ننتصر على عدونا، ونعود إلى أرضنا كفرحة عيد، فهذا وعدٌ من الله لنا صادقٌ غير مكذوب.

الغزيون في بلاد اللجوء القريب والشتات البعيد، حَزنى مكلومين، صامتين باكين، تملأ الدموع عيونهم والمآقي، وترتسِم على وجوههم صور المآسي، ويسكن قلوبهم الحزن والجَوى، وألم البُعد والنوى، وتباريح العجز والغياب، وظلم القانون وقهر الحدود، وجفاء القريب وتآمر الشقيق، وبؤس الحال وذُل السؤال، يصمُت لسانهم، وينطلِق نبض قلوبهم، دعاءً ورجاءً، وأملًا وسؤالًا، لله الواحد القهار، أن يرحم هذا الشعب وأن يكون معه، وأن ينصره وألا يخذله، وأن يتكرَّم عليه بفضله، وأن يمنّ عليه بنصره، فهو وحده سبحانه وتعالى الرجاء، وفيه ومنه الأمل.

الغزيون بعيدًا عن أرض الوطن، تتراءى أمام عيونهم البيوت المهدَّمة، والشوارع المُدمَّرة، وآثار البِلَى والخراب، ومظاهر العدوان، ومآسي القصف، وما خلفته الصواريخ والغارات، وقذائف الدبابات ومدافع الميدان، وسلاح الطيران وبوارج البحر، فأحدثت في القطاع دمارًا كأنه زلزال، وخرابًا دونه الطوفان، وحريقًا لا يقل عنه البركان، فما نجا منه أحد، ولا أبقى شيئًا على حاله، حجرًا أو شجرًا، ولا طيرًا أو بشرًا.

لا تغيب عن الغزيين في شتاتهم المُضني، وغيابهم المُحزِن المؤلم، وبُعدِهم القسري الجبري، صور أهلهم الصامدين، وشهدائهم البررة المنتقين، وأبنائهم المهرة المقاومين، ورجالهم الشُم الميامين، وإن كان يبكيهم كثيرًا صور الأطفال الشهداء، الذين هشَّم العدو بصواريخه وقذائفه جماجمهم، ومزَّق أجسادهم، وبعثر أحشاءهم، وثقب أجسامهم، ولم يرحم براءتهم، ولم تشفع عنده طفولتهم، ولم يُنقذهم من دمويته طُهرهم الصادق، ونقاؤهم الخالص، ولا أن بعضهم كان في رحم أُمّه جنينًا ساكنًا، وفي بطنها آمنًا، ينتظر ساعة الخروج، ولكن الحقد الصهيوني طاله في رحم أُمّه، فقتله وإِيَّاها، وربما قتل من قبلهما أباه وجده، وعمه وخاله، وشقيقه وشقيقته، وهدم بيتهما، وأفسد حياة شعبهما.

الغزيون في شتاتهم بعيدًا عن أهلهم ومخيماتهم، يتسمرون أمام المحطات الفضائية، يتابعون كل خبر، ويدققون في كل نبأ، تنخلع قلوبهم من صدورهم مع كل صاروخٍ يسقط، وتنفطِر نفوسهم مع القذائف التي تنهمِر، ويتبادلون الرسائل والصور، خوفًا وقلقًا، وحزنًا وألمًا، فهم يعرفون الأماكن، ويحفظون الشوارع، فهناك وُلِدوا وفي جنبات القطاع نشأوا وترعرعوا، فبات لهم في كل مكانٍ ذكرى وبقايا قصة، والكثير من الحكايا التي لا تُنسى، فما زالوا يذكرون مدارسهم التي فيها درسوا، والشوارع التي كانوا فيها يمرون، والأسواق التي كانوا فيها يتجولون، والحواري التي شهدت طفولتهم، وزرعت فيهم حب الوطن، وأصالة الانتماء إليه، وشوق العودة إليه، والعيش فيه، ورفض التخلي عنه والتفريط فيه، أو المساومة عليه والقبول ببديلٍ عنه.  

الغزيون في بلاد اللجوء والشتات شأنهم شأن أي فلسطينيٍ آخر، لا يختلفون عنهم في شيء، يقاسون مثلهم، ويعانون مثلما يعانون، ويشكون مما يشكون، ويتعرَّضون إلى المعاملة القاسية نفسها التي يتعرَّض لها كل فلسطيني، في كل البلاد والأصقاع، كثيرٌ منهم محرومٌ من العمل، وممنوعٌ من السفر، ولا يملكون الكثير من متاع الدنيا، ولا يستمتعون في الحياة كغيرهم، وكأنهم ليسوا بشرًا، أو لا يحق لهم الانتساب إليهم، فتراهم يقفون على البوابات، وينتظرون على المعابر، ويُمنعون من دخول المطارات، ويصطفون أمام السفارات، يبحثون عن عيشٍ كريم، وإيواءٍ عزيز، يقيهم ظلم القريب، وقسوة الأخ الشقيق.

رغم ذلك فإن الفلسطينيين جميعًا ومعهم الغزيين في الشتات، لا يعرفون كيف سيقضون أيام هذا العيد، وكيف سيطيب لهم المعايدة ولبس الجديد، وأكل الحلوى واللحم والثريد، وتقبُّل التهاني وتبادُل الزيارات، بينما أهلهم في غزة بين مشردٍ وشهيد، وجريحٍ ومفقودٍ، وغائبٍ ومجهول المكان، ولا شيء يجمعهم، ولا بيت يؤويهم، ولا شيء عندهم يُفرِح ويسر، سوى مقاومتهم الصامدة، ورجالهم الشجعان، الذين حفظوا حقهم، وصانوا كرامتهم، وأدَّبوا عدوهم، ووقفوا له بالمرصاد، يردون عليه بالمثل، صاعًا بصاع، وكفًا بكف.  

إنه يوم عيد الفطر السعيد، يأتي رغمًا عنَّا، وبغير إرادةٍ مِنَّا، فقد أراده الله يومًا لنا، نفرح فيه بعد شهر صيامنا، والله يعلم أن مصابنا كبير، وجرحنا غائر، وخسائرنا كثيرة، ومصيبتنا عظيمة، وشهداؤنا قد ملأوا جوف الأرض وما زال غيرهم فوقها ينتظر من يدفنها ويواريها التراب، ولكنه جل وعلا قد مَنَّ علينا بالعِزَّة والكرامة، هذه العِزَّة التي كُنَّا نتوق إليها ونتطلَّع، ونشتاق إليها ونتمنى، حتى كانت هذه المقاومة العظيمة، التي امتلكت الإرادة، وحازت على السلاح، وأصبحت ذات شوكةٍ قاسية، فأخافت العدو حقًا، وآلمته يقينًا، وعلَّمته أن هذا الشعب سيبقى قويًا عزيزًا، ولن يقبل أن يُهان أو يستذِل، ولن يسكت على من يحتل أرضه، ويقتل شعبه، ويسوم أهله سوء العذاب.

أيها الغزيون الفلسطينيون الشرفاء، في الوطن والشتات، لا تحزنوا في يوم عيد فطركم على ما أصابكم، ولا تبكوا فقيدكم، فهم عند الله شهداء، وبين يديه جل وعلا كرماء، وعنده سيكونون خير النزلاء، مع الصديقين والأنبياء، واعلموا أن ما أصابكم من حيفٍ فإنه سينقلب إلى عدل، وأن دماءكم ستُصبِح ثورة، وستصنع انتفاضة، تكون على العدو لعنة، ولوجوده نهاية، ولبقائه خاتمة، وإنه لنصرٍ بإذن الله قريب، نصنعه بأيدينا ككعك العيد، ونفرح به يوم أن ننتصر على عدونا، ونعود إلى أرضنا كفرحة عيد، فهذا وعدٌ من الله لنا صادقٌ غير مكذوب.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مصطفى يوسف اللداوي

كاتب و باحث فلسطيني

  • 0
  • 0
  • 2,153
المقال السابق
(43) الخسائر البشرية الإسرائيلية بين الحقيقة والخيال
المقال التالي
(25) براءة أطفال فلسطين لا تشفع!

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً