[234] سورة الحج (8)
محمد علي يوسف
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
- التصنيفات: التفسير -
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج من الآية:27]..
وهل من وسائل إبلاغ في ذلك الوقت؟
وهل من مُكبِّرات صوت أو وسائل إعلام؟
كيف سيصل الأذان ويعرف الخَلق النداء إذن؟!
ليس شأننا..
عليك فقط أن تمتثل وتُبلِّغ..
ولقد وعد الله بأن صوتك سيصل..
ولقد وصل..
واستجابوا..
{يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج من الآية:27]..
- "بلِّغ ربي مني التحية وقل له أني قد مُتُّ مشتاقًا إلى بيته"..
كانت تلك الكلمات هي آخر ما سمعه الحاج عثمان قبل أن ينطِق صديق عمره الشهادتين ثم يُسلِم الروح..
الحاج عثمان هو رجل بسيط من أواسط أفريقيا -تحديدًا زامبيا- وكان الرجل قد قرَّر هو وخمسة من إخوانه في منتصف القرن العشرين أن يحجوا بيت الله ويُجاوِروا في رحابه مشتاقين إلى حرمه المقدَّس..
لم يثنهم عن تلك النية كسل ولم يُخفِّف ذلك الاشتياق طول مسافة أو قلة ذات يدٍ ولا حتى مخاطر طريق..
- نحن في ريعان شبابنا وفي ذروة عنفواننا فإن لم نخرج الآن لتلك الرحلة فمتى؟!
- أَوَ بعد أن يهن العظم ويضعف البدن ويخور العزم؟!
- لا والله! بل نخرج الآن ونعقِد العزم ونبتغي من الله العون ونستعين به على قلة الزاد ووعثاء السفر والظن فيه جميل وهو الرزاق ذو القوة المتين..
هكذا دار الحوار بين الأصدقاء الأفارقة الذين خالط الشوق قلوبهم وهوت إلى بيت الله المُحرَّم أفئدتهم..
وهكذا اتخذوا القرار..
سيحجون سيرًا على أقدامهم وسيستعينون بالله ربهم في رحلتهم الطويلة من مجاهل وأحراش أفريقيا الخمسينات إلى أرض الحجاز ومهبط الوحي ومهد الرسالة..
لن تكون الرحلة سهلة ولن يكون الزاد ميسورًا..
سيضطرون للوقوف في القرى والمدن التي يمرون بها بين الفيافي والجبال والغابات والمستنقعات..
وسيلجأون إلى كل قرية أيامًا ولربما شهورًا ليَجِدُّوا السعي ويكدُّوا ويكدحوا لتحصيل زاد السفر ومؤونة الرحلة حتى تنفد فيقفوا من جديد عاملين وكادحين بربهم مستعينين..
طالت الرحلة ليالي وأيامًا ساروا فيها عازمين وبمخاطر السفر غير آبهين..
سقط منهم عبر شهور سيرهم الواحد تلو الآخر..
هذا بلدغة حية..
وذاك بضربة شمس..
وثالث بملاريا حتى لم يتبقَ إلا الحاج عثمان وصديقه..
هاهما على متن عبَّارة تمخر بهم عباب ما سمُّوه حينئذ ببحر جدة..
وها هي جدة تلوح في الأفق لكن يبدو أن صديق الحاج عثمان لن يتمكن من الصمود أكثر من ذلك..
ها هو يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد رحلة دامت عامين ونيف كان الشوق فيها حاديه والحب قائده والاسترضاء بغيته ومنتهى أمله..
خرجت منه تلك الكلمات على بساطتها تحمل كثيرًا من عميق المعاني وصادق المباني..
"بلِّغ ربي مني التحية وقل له أني قد مُتُّ مشتاقًا إلى بيته"..
يا لها من زفرة محب وتنهيدة مشتاق صادق دلل على صدق حروفها بعمله وسعيه وها هو يجود في نهاية رحلتها بنفسه غير نادم ولا مستكثر لعمله..
إنها تلبية عملية لنداء سيدنا إبراهيم عليه السلام..
ذلك النداء الذي لم يخفت سطوعه رغم مرور القرون..
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]..
تلبية بالجوارح والأفعال وبالنفوس والأموال تصنع مشهدًا مهيبًا على ظهر ذلك المركب بعد تلك الرحلة الطويلة والشاقة التي لم يبلغ نهايتها إلا عثمان..
عاش الحاج عثمان طويلًا بعد ذلك المشهد المهيب الذي أسلم فيه صديق عمره الروح بين يديه..
مكث الحاج عثمان مجاورًا بيت الله الحرام عقودًا روى فيها قصة أصحابه الذين هوت أفئدتهم للبيت وتاقت أنفسهم الشابة إلى تلبية نداء ربهم فلبوا بأرواحهم قبل ألسنهم..
تلك القصة ومثلها كثير لرجال ونساء هوت أفئدتهم إلى البيت العتيق الذي جعله الله مثابةً للناس وأمنًا..
رجال ونساء لبوا النداء وتعلَّقت قلوبهم بالسماء فلم يبخلوا بغالٍ ولا نفيس ليبلغوه من كل فجٍ عميق يرفعون شعار "لبيك اللهم لبيك لبيك.. لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك.. والملك لا شريك لك"..
"لبيك إله الحق لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل"..
"لبيك حقًا حقًا تعبُّدًا ورِقَّا"..
"لبيك مرهوبًا ومرغوبًا إليك"..
لبيك.