التوجيه البياني التفسيري
محمد مطني
والغرض من هذه العملية إبراز دور تلك الظواهر البلاغية في تحسين وتزيين وتجميل المبنى والمعنى في كلام الله وهو أصدق القائلين استناداً إلى ما ذكره بعض الدارسين، إذ قال: " إن وضع آيات كل سورة تحت التقسيم البلاغي التراثي يدلنا على مواطن الإعجاز في كل سورة من السور، مما يفتح الطريق أمام جمهرة الباحثين لإعادة صياغة إعجاز القرآن الكريم "
إذا كان التحليل قد كشف عن سياق بناء النص، وإذا كان فهم الدلالة الإعرابية قد أوضح مفهوم النص، فإن التوجيه البياني يفيد في إيضاح ما أسماه أسلافنا البيان التفسيري الذي يسمى أحياناً (البيان المبين)، والمقصود به: " ما يستخرج من فهم بلاغة النص من المعاني الأخر " ، لاجل ذلك أقتبسنا في هذا المبحث هذا المصطلح لفهم أدق لمجموعة الظواهر البلاغية الموجودة في سورة القصص، ولاستخراج ما فيها من كوامن المعاني.
ولا ريب أن التوجيه البياني معين على فهم إعجاز القرآن الكريم وفي ذلك يقول بعض الباحثين:
" إن مباحث إعجاز القرآن قد اقترنت بمباحث البلاغة إقتراناً مشعراً بالدور المهم المكمل من أحدهما للآخر، وهكذا نشعر أن الغاية من علم البلاغة فهم وإدراك إعجاز القرآن، وأن الغاية من تحديد إعجاز القرآن تسطير مباحث ومضامين علم البلاغة " . وقد عبر عن مثل ذلك وزاده ايضاحاً باحث أخر فقال: " والمتتبع للظواهر البلاغية الثلاثة البيان – المعاني – البديع.
وما تتضمنه من تفرعات وتقسيمات يلاحظ لأول وهلة بادىء ذي بدء أن لكلها شواهد من القرآن الكريم تدل على ما يتعلق بها من آيات تضمنت معانيها تلك المحسنات اللفظية والمعنوية، وهو الأمر الذي تنبه له الزمخشري في (الكشاف)، والجرجاني في كتابيه (أسرار البلاغة) (ودلائل الإعجاز) " .
والباحث يرى أن القدماء اهتموا بإبراز العلاقة بين سورة القصص والتوجيه البلاغي لظواهرها اللغوية، ومن أقدم النصوص في ذلك ما أورده القاضي الباقلاني اذ قال ـ رَحِمَه الله ـ في قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} ، " هذه تشتمل على ست كلمات سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف. وهي تشتمل على جملة وتفصيل وجامعة وتفسير، ذكر العلو في الارض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء، وإذا تحكم في هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما، لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تقر على هذا الجور، ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد وكفت في التظليم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجزه على صدره " ، ثم قال ـ رَحِمَه الله ـ عن قوله تعالى:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ، " وهي خمس كلمات متباعدة في المواقع نائية المطارح قد جعلها النظم البديع أشد تألفاً من الشيء المؤتلف في الأصل، وأحسن توافقاً من المتطابق في أول الوضع ".
وهذا الكلام لرجل قد بحث الجوانب البلاغية لسورة القصص من كل نواحيها، ونحن نلاحظ في التحليل البلاغي لسورة القصص إِذَا ما أخذناها على حده أنها تكاد أن تكون جامعة لمعظم ـ إن لم يكن كلّ ـ الظواهر البلاغية، فالسياق البلاغي يجري فيها بأسلوب جزل فخم مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} . فإن هذه الآية تبدأ بداية هادئة، ثم يتصاعد إيقاع جرسها البلاغي، ثم يهبط بالسكينة والطمأنينة على أم موسى عليه السلام، ثم يأتي الوعد الالهي ولم يقل تعالى: (جاعلوه مرسلاً)، بل جعله في جملة المرسلين ـ عَلَيْهم السَّلام ـ {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} لأن (من) التبعيضية هنا تدخله في أوائلهم، وهو كذلك عليه السلام من الرسل الخمسة أولي العزم.
وقد تنبه الزمخشري في الكشاف لهذه الطريقة البلاغية في سورة القصص لولا أنه خلط بعض مباحثه بنظريته الإعتزالية، فحاول إقحام الإعتزال في المعنى المستخرج من آيات سورة القصص ليعزز ما كان ـرَحِمَه الله ـ يذهب إليه فيه.
وقد حاول بعض الباحثين إيضاح ذلك كله (أي توجيه المعنى بلاغياً في سورة القصص)، فقال:
" وفي سورة القصص نجد صوراً بلاغية في آيات الصفات أخذت حيزاً كبيراً جداً في التفكير الاعتقادي، لأن القائلين بالحقيقة والمجاز في القرآن الكريم حاولوا أن يستدلوا بها (أي بصورة هذه الآيات) على ما كانوا يذهبون إليه من آراء ومذاهب، ولا ننسى هنا أن المعتزلة كانوا على رأس أولئك القوم.
فقوله عزّ من قائل: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، يحتوي على أمر، وخبر، وتقرير، ورد صدر على عجز، ومؤدى ذلك صورة بلاغية للإله الواحد الباقي. ولكن طوائف المعتزله القائلين بالمجاز أولوا الآية بلاغياً لأجل نفي الوجه عن الله عز وجل، فأخطاؤا الصواب " .
ونحن مع هذا الباحث فيما ذهب إليه، وسنحاول فيما يلي هذه الصفحة إعادة ترتيب الظواهر البلاغية في سورة القصص وفق التقسيم البلاغي.
والغرض من هذه العملية إبراز دور تلك الظواهر البلاغية في تحسين وتزيين وتجميل المبنى والمعنى في كلام الله وهو أصدق القائلين استناداً إلى ما ذكره بعض الدارسين، إذ قال: " إن وضع آيات كل سورة تحت التقسيم البلاغي التراثي يدلنا على مواطن الإعجاز في كل سورة من السور، مما يفتح الطريق أمام جمهرة الباحثين لإعادة صياغة إعجاز القرآن الكريم "