[292] سورة العنكبوت (1)
محمد علي يوسف
هل يعقل أن تكون إجابة كل أسئلة امتحان الفتنة تتلخص في أمر واحد، فكلما واجه المرء سؤالًا ألقاه في ورقة الإجابة قائلًا: "هذه فتنة ينبغي اعتزالها"؟ ولو كان ذلك هو الحل دائمًا وأبدًا فأين الصادعون في كل زمان؟ أين من حفظ الله بهم الحق، ومكن بهم للملة، وسالت في سبيل ذلك دماؤهم وهشمت عظامهم؟ هل كانت إجابتهم دوما نعتزل لأنها فتنة؟!
- التصنيفات: القرآن وعلومه - التفسير - تزكية النفس -
هذه فتنة.. ألا فاعتزلوها!
لسان حال البعض كلما سمعوا كلمة فتنة، وما قالوا بذلك إلا لأن أذهانهم انصرفت مباشرة إلى نوع معين ووحيد من الفتنة، التباس الحق والباطل واختلاطهما، وهذا بلا شك نوع من الفتنة، وهي فتنة حين تشتد يتوارى معها سطوع الحق، ويغيب عن البعض نوره فلا يتبينوه ومن ثم قد تجوز في حقهم العزلة، حتى يتبينوا الخيط الأبيض من الأسود ويبصروا مواضع أقدامهم.
لكن هل هذه فقط هي الفتنة؟؟
هل هذا هو النوع الوحيد والمعنى الفريد ؟
الجواب: لا؛ ليس هذا معنى الفتنة وحسب، إنما الفتنة اختبار وامتحان وابتلاء، الفتنة سراء وضراء، نعيم وضيم، أمر ونهي، شهوة وشبهة، مال وولد. الفتنة تهديد وزلزلة، وبارقة سيوف طواغيت على رؤوس الثابتين « » (الجامع الصغير، حكم المحدث: صحيح)، قاعدة نبوية مشهورة بين بها الحبيب صلى الله عليه وسلم السبب الذي جعل من خصال الشهيد أنه لا يفتن في قبره كسائر المؤمنين.
«الفتنة هنا اختبار وبلاء وامتحان وتمحيص، والشهيد قد نجح في هذا الامتحان واجتاز ذلك الاختبار، فكان من حسن جزائه أن عافاه الله من امتحان القبر وفتنته، فـ« ».
»..الفتنة صقل وتمييز، فرز وتمحيص، تربية وتوجيه، وبهذا المعنى فالكل سيفتن لا محالة {أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوٓا۟ أَن يَقُولُوٓا۟ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، تأمل الكلمة: {ٱلنَّاسُ}، فقط إذا أعلنوا الإيمان أتى الامتحان، والامتحان طويل ينتهي بنهاية فتنة المحيا ليختم بفتنة الممات.
هل يعقل أن تكون إجابة كل أسئلة امتحان الفتنة تتلخص في أمر واحد، فكلما واجه المرء سؤالًا ألقاه في ورقة الإجابة قائلًا: "هذه فتنة ينبغي اعتزالها"؟ ولو كان ذلك هو الحل دائمًا وأبدًا فأين الصادعون في كل زمان؟ أين من حفظ الله بهم الحق، ومكن بهم للملة، وسالت في سبيل ذلك دماؤهم وهشمت عظامهم؟ هل كانت إجابتهم دوما نعتزل لأنها فتنة؟!
نعم إنها فتنة! لكن أي فتنة!
وهل كل مزاعم وجود الفتن معتبرة، أم أن هناك دعاوى ترد على أصحابها كما في سورة التوبة لما قال بعضهم {ٱئْذَن لِّى وَلَا تَفْتِنِّىٓ}، فقال الله: {أَلَا فِى ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُوا۟} [التوبة من الآية:49]، إنه اختبار وقد رسبوا فيه وسقطوا.
هو امتحان فهل إجابته الدائمة هي الاعتزال؟ أم أنها إجابة سؤال واحد فقط في ورقة الامتحان الطويل بطول الحياة الدنيا، سؤال الالتباس وعدم وضوح الفارق الحق والباطل، في الحقيقة هي إجابة ذلك السؤال الأخير وحسب، بينما تأتي إجابات باقي أسئلة امتحان الفتنة مختلفة، فالامتثال للأمر والانتهاء عن النهي إجابة، والشكر على النعماء والصبر على البأساء والضراء إجابة، والثبات على الحق إجابة، والصدع به إجابة، والظهور عليه ونصرته إجابة، والتضحية والبذل في سبيل إحقاقه إجابة.. وأي إجابة!!
وإجابات أخرى كثيرة تظهر من خلالها نتيجة الامتحان، لتعلن في ملأ كريم حين يعلمها رب العالمين علما تقوم به الحجة على الأولين والآخرين.. {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت من الآية:3].