تدبر - [335] سورة يس (5)
فما بال أقوام يتعذرون ويتلكؤون، وعن قول الحق والصدع بالنصح هم معرضون، ورغم الحاجة إليهم هم مبتعدون، وعن قومهم هم محتجبون، ولقضايا أمتهم هم مهملون، فمتى يظهرون، وإلى ربهم يعذرون، ولأمتهم ينصحون، وللواء قضيتهم يرفعون، متى عساهم يشعرون ويحيون بقيمة: {يَـٰلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ} [يس من الآية:26].
وإن من الناس من يظن أن صدعه بما يراه حقًا، وجهره بما يعتقده صوابًا وصدقًا، إنما هو مرتهن بمظنة استجابة الناس له وطلبهم لسماعه وقبولهم لقوله، فإن غلب على ذلك الظن أنهم سيستجيبون نطق وإن آنس منهم رغبة في سماعه صدع، وإن كانت الأخرى سكت وكتم وأعرض؛ قد طابت نفسه وارتاح ضميره بمسكنات "لا فائدة" ومهدئات "هلك الناس" ونسي هؤلاء أو تناسوا أن المرء إنما يصدع لينجو، وإنما ينصح ليُرضي ربا لم يتعبده بالنتائج ولم يكلفه بالثمار، وأنه أحوج إلى النطق بالحق والجهر به ممن يسمعونه سواء أستجابوا له أم لم يستجيبوا.
ولئن كان من متعذر عن قول الحق والنطق به والصدع بكلماته، بدعوى مظنة التكذيب وتوقع عدم الاستجابة لكان مؤمن سورة يس أولى الناس بذلك السكوت، لقد كان في قوم لم يكذبوا نبيًا واحدًا ولا نبيين بل كذبوا ثلاثة أنبياء، فلم يقبلوا منهم حقًا ولم يصدقوا منهم حرفًا وما استجابوا لهم.
لكنه لم يفعل..
بل جاء من أقصى المدينة يسعى قائلًا: {يَـٰقَوْمِ ٱتَّبِعُوا۟ ٱلْمُرْسَلِينَ} [يس من الآية:20]، أي همة تلك وأي إصرار لدى رجل كان من الممكن أن يتعذر بحجة وجود الأنبياء وقيامهم بواجب الصدع والبلاغ، كان من الممكن أن يقول لا فائدة وهؤلاء قوم لم يستجيبوا لثلاثة أنبياء فهل يستجيبون لي أو يستمعون لقولي، لكنه لم يفعل.. لم يحقر نفسه أو يتعذر بعدم أهمية قوله أو يحتج بقلة قيمة صدعه، بل جهر ونطق ونصح ووعظ وصدع وأعذر.
حتى بعد موته ظلت رغبته في هداية الناس يقظة، وحرصه على نصحهم وإرشادهم متأججة، فقال حين عاين النعيم وأبصر الجنة {يَـٰلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ} [يس من الآية:26]. وقد كان من الممكن في هذا المقام أن ينشغل عن كل ذلك بالطيبات التي أكرم بها وينسى واجب البلاغ، لكنه أيضًا لم يفعل..
{وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ . إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:22-25]، كلمات نورانية رقراقة تخاطب العقل والروح معًا في آنٍ واحد، نطق بها الرجل في هذه الظروف العصيبة ورغم كل ذلك التكذيب وتلك العوائق والعقبات التي واجهت من هم أعلى منه منزلة وأجل قدرًا، ولقد أعذر، فأي همة تلك؟! وأي إصرار هذا الذي استقر في نفس رجل كان من الممكن أن يتعذر بحجة وجود الأنبياء وقيامهم بواجب الصدع والبلاغ.
وأي حرص هذا الذي بدا على كلماته وأفعاله ؟! إنه الحرص على أن يعلم الناس عن ربهم مهما كان الثمن، ولئن كان الثمن حياته نفسه فسيدفعها عن طيب خاطر، ولقد دفعها؛ قتله قومه، ومع كل ذلك لم ينقطع أمله في هدايتهم ولم يتكاسل عن نصحهم وبذل الوسع في الأخذ بأيديهم، طالما كان فيه عرق ينبض بل استمر على شأنه هذا حتى بعد أن لم يعد ذاك العرق ينبض وانتقل إلى دار القرار!
نموذج عجيب ونمط فريد لكنه ليس نموذجًا وحيدًا، فلطالما كان هناك رجال لم يحقروا أنفسهم بل قاموا وقالوا الحق كما قاله، ولطالما وُجد الفتيان الذين لم يخافوا في الله لوم اللائمين ولا قمع الطاغين أو بطش المفسدين، ولكم تكرر هذا المعنى في كتاب رب العالمين، ولكم ترسخ هذا المفهوم في كلام سيد المرسلين، ولتستقر تلك العقيدة ولتضرب تلك القيمة بجذورها في قلوب المؤمنين.
قيمة البلاغ والصدع بالحق، والرغبة في هداية الخلق، بغض النظر عن الظروف والمعاملات والمؤثرات المحيطة، وبدون تعليق الأمر على مظان الاستجابة من عدمها. إنها قيمة غرس الفسيلة حتى لو كان ذلك بين يدي الساعة وتيقن استحالة إدراك الثمرة.
فما بال أقوام يتعذرون ويتلكؤون، وعن قول الحق والصدع بالنصح هم معرضون، ورغم الحاجة إليهم هم مبتعدون، وعن قومهم هم محتجبون، ولقضايا أمتهم هم مهملون، فمتى يظهرون، وإلى ربهم يعذرون، ولأمتهم ينصحون، وللواء قضيتهم يرفعون، متى عساهم يشعرون ويحيون بقيمة: {يَـٰلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ} [يس من الآية:26].
- التصنيف: