لو كانوا عندنا ما ماتوا!

منذ 2014-08-14

وإن كلًّا من القتل في سبيل الله، والموت على مضجع الجبن، كلاهما بوابة الآخرة وطريق الحشر إلى الله تعالى، وعندها يتقاسم الأشقياء والسعداء حظوظهم من رحمة الله أو من عذابه، لكلٍّ بحسب ما قدم.

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته أجميعن، وبعد:

فإن القرآن الكريم، كريم أتمَّ الكرم، لا يزال يتكرَّم علينا؛ لا بما يُشبع بطوننا، أو يداوي جراح جلودنا، وإنما بما يُشبع أرواحنا بغذاء لم يجد له العالَم الحائر حلًّا، ولم يهتدِ في إلى حيلة.. لأنه ترك مائدة القرآن العامرة..

إنه أيضًا يتكرم علينا بدواء الأرواح وبلاسم الجراح، وجبر أكسارها، وإقامة أخلاقها، وتصحيح تصوراتها، وتقويم مسيرتها، وكأنما يتنزَّل الآن لأشخاصنا وأحداثنا اليومية..

إن استشرناه أشار علينا، وإن استفتيناه أفتانا، وإن استأمرناه أمَرنا، يقود خطانا، ويشارك في معركنا، ويضبط مسيرتنا...

وها هو في إحداها يحدِّثنا، ويأتينا لا بأخبار مجالسنا فحسب، بل بأخبار طوايانا ومكنونات ضمائرنا، ويشير إليها، فإذا هي أفعالُ تُفعَل وأقوال تقال، ومواقف تُتّخذ، لا يخطئها حيُّ الضمير شهيد القلب مفتوح البصر...

يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}[آل عمران:157-158].

يموت بعض الناس في حوادث الطريق... ويموتون في مدرجات الملاعب... ويموتون في ميادين اللهو الكثيرة العابثة.. وقد يموتون في طلب الدنيا.. ثم لا أحد -يكاد- يلوم أو يتحسر.. الكل يؤمن بالقضاء والقدر... وشياطين الإنس والجن تصم وتَبْكُمُ!!

أما حين يُجري الله قدَره على بعض المسلمين، فيموتون في حال دفاع عن حقوقهم الدينية، أو يُستَشهَدون وهم يخضون معركة أو يقولون كلمة أو يسيرون مسيرة حق أو يتظاهرون مظاهرة حقٍ! في وجه سلطان ظالم غاصب.. فإنّ مَن ثقلت بهم الدنيا، واثَّـاقلوا إلى أرضها ينطق الشيطان على ألسنتهم، أو يأتي في صورهم-كما جاء في صورة الشيخ النجدي وسراقة بن مالك- أو يأتون هم في صورته بمساليخهم.. فيقولون: لو كانوا عندنا في بيوتنا أو مثلنا في قعودنا ما ماتوا وما قُتِلوا:{لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}!!

هاهم يحمِّلون قتل الشعب الفلسطنين المسلم للمجاهدين، لا للصهاينة المعتدين! ها هم يريدون محاكمة المؤمنين على الإيمان، ولا يحاكمون الصهاينة على الظلم والعدوان!

 هاهم يقولون لهم لو استسلمتم وانبطحتم كما انطحبنا لَما متّم وما قُتلتم!

ويَصُبُّون اللوم على إخوانهم، ويُعينون الشيطان على ضعافهم، ولئن فهمنا أو صدَّقنا أنهم {ما قُتِلوا} بفعل فاعل، فما بالهم (ما ماتوا؟!)، يعني حتى الآجال تتوقف والقدر يتعطل حين ينزل الشجعانُ الشرفاء على رغبة الجبناء الوضعاء؛ لكنه الإيغال في المكر والتخذيل والخلود إلى الدنيا والتثاقل إليها، ينفون حتى وقوع الموت، وليس فقط القتل!

وهذا يكفي في الدلالة على أنهم كاذبون غير صادقين، إن لم يكن هذا دليلًا على أنهم غير مؤمنين.. بل منافقون! أو على الأقل في حالة سكر من الذعر والخوف إلى درجة أنهم يهرفون (يهذون) بما لا يعرفون، بل لا يعرفون بم يهرفون... سكارى الخوف وصرعى الجبن!

ومحصلة قصدهم وقصد الشياطين التي تؤزهم لهذا القول وتوحي إليهم بزخرفه: أن يُحزنوا الذين آمنوا، فصدَّقوا إيمانهم بجهادهم..

أما الذين آمنوا فبلسمهم الشافي: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}.

وأما المتخاذلون المثَّاقلون فتجبيههم بـ:{ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: ١٥٤]

فبمقتضى هذا الإيمان يحذرنا الله تعالى من أن نتشبَّه بالكافرين والمنافقين في مثل هذه الصفات، وإنه لتشبُّهٌ يقع فيه كثيرٌ ممن يحذِّرون الناس، بل ويضللونهم بالتشبه بهم في تسريحة شعر أو لُبس بنطال، وأين تشبُّهٌ مِن تَشبُّه؟!

لُبس بنطال هو سلوك أتى به العرف والاعتياد، بينما هم يتشبهون بهم في مواقف مصيرية تنمُّ عن الاعتراض على قضاء الله الشرعي التكليفي، والكوني القدري!

يقول سيد رحمه الله: "اتخذوا من مَقاتل الشهداء في أُحُد مادةً لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة- نتيجة لخروجهم- ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة. ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه.

إن قول الكافرين: {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا}.. ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها: سرّاؤها وضراؤها..

إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله متعرف إلى مشيئة الله مطمئن إلى قدر الله. إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع ولا يتلقى السراء بالزهو ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك؛ ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقِّ كذا أو ليستجلب كذا بعد وقوع الأمر وانتهائه! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة كله قبل الإقدام والحركة؛ فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير - في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم؛ موقنًا أنه وقع وفقًا لقدر الله وتدبيره وحكمته؛ وأنه لم يكن بُدٌّ أن يقع كما وقع؛ ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله!.. توازن بين العمل والتسليم وبين الإيجابية والتوكل يستقيم عليه الخطو ويستريح عليه الضمير.. فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة فهو أبدًا مستطار أبدًا في قلق! أبدًا في « لو » و « لولا » و « يا ليت » و «وا أسفاه »!"  (في الظلال القرآن:1/ 498).

وإن كلًّا من القتل في سبيل الله في ميدان الشرف، أو الموت على مضجع الجبن، كلاهما بوابة الآخرة وطريق الحشر إلى الله تعالى، وعندها يتقاسم الأشقياء والسعداء حظوظهم من رحمة الله أو من عذابه، لكلٍّ بحسب ما قدم.

إن روحك لن تفارق جسدك بغزوة غزوتها، ولن تستقر في جسدك برقدة رقدتها... وإنما بآجال مضروبة، ليس عند غير الله أمرها، فهو الذي يُحيي ويميت.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ»(الألباني؛ صحيح الجامع الصغير، برقم:[ 5244])

ويقول: «إن روح القدُس نفث في رُوعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلَها وتستوعب رزقَها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدَكم استبطاءُ الرزقِ أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته » (الألباني؛ صحيح الجامع الصغير، برقم:[ 2085]).

ألا فلا تجمع بين الرَّديئن: حَشَفٌ وسوء كيلة!

 والله أعلم، وهو الهادي إلى صراطه المستقيم.

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 0
  • 0
  • 6,136

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً