الاستقامة بعد رمضان
إن الاستمرار على العمل الصالح بعد انتهاء المواسم الفاضلة والأيام المباركة دليل على صدق صاحبه وحسن إسلامه، كما أن التراجع والتذبذب أمارة النفاق وسمة المنافقين الذين {..لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا . مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}
تتحسن حال كثير من المسلمين في رمضان من حيث إقبالهم على الاستقامة والتدين، وتتضاعف مجهوداتهم في العبادة وفعل الخيرات وترك المنكرات.
لكن الملاحظ أن هذا السلوك الشرعي الذي يقترب بالإنسان من واقع العبودية الذي خلق الله الحياة والموت من أجل تحقيقه.. هذا السلوك سرعان ما يتغير أو يتراجع بعد رمضان؛ فينقص عدد الصفوف في المساجد، وتتضاءل مشاهد التقوى، ويهجر القرآن، وينسى الصيام، ويروج سوق المعاصي المليء بسلع الآثام..
إن حياة المسلم -رجلاً كان أو امرأة- يجب أن تكون موصولة بالله تعالى وطاعته وتطلب مرضاته بالتدين والاستقامة في كل أحواله وأوقاته؛ كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163].
ولا يجوز للمسلم أن يتقصد التراجع عن سلوك الاستقامة بعد رمضان، إلا ما كان منه من زلة أو هفوة يسارع إلى الإقلاع عنها؛ عملا بقول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ . وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:200،201].
قال المفسرون: "أي: في أي وقت، وفي أي حال {يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ} أي: تحس منه بوسوسة، وتثبيط عن الخير، أو حث على الشر، وإيعاز إليه؛ {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي: التجئ واعتصم بالله، واحتم بحماه فإنه {سَمِيعٌ} لما تقول {عَلِيمٌ} بنيتك وضعفك، وقوة التجائك له، فسيحميك من فتنته، ويقيك من وسوسته، كما قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، إلى آخر السورة.
ولما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطًا ينتظر غرته وغفلته؛ ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب؛ تذكر من أي باب أُتِيَ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب الله عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر الله تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئًا حسيرًا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه.
وأما إخوان الشياطين وأولياؤهم، فإنهم إذا وقعوا في الذنوب لا يزالون يمدونهم في الغي ذنبًا بعد ذنب، ولا يقصرون عن ذلك، فالشياطين لا تقصر عنهم بالإغواء، لأنها طمعت فيهم، حين رأتهم سلِسي القياد لها، وهم لا يقصرون عن فعل الشر" (تيسير الكريم الرحمن، ص:313).
وقال الله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:133-135].
فالمؤمن يزل ولا يصر، ويهفو ولا يجفو؛ عنوان سلوكه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112]. يرجو بهذا السلوك؛ الكرامة الربانية والرحمة الإلهية المنصوص عليها في قول الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30-32]، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ}: أي عند الاحتضار، أخرج ابن الْمُنْذر عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قَال: "استقاموا بِطَاعَة الله وَلم يروغوا روغان الثَّعْلَب".
فالموفق حقاً والمقبول إن شاء الله تعالى من استمر على استقامته وتدينه بعد رمضان؛ بأداء ما افترض عليه من عبادات ومعاملات والتزامات، ومنها: ترك المحرمات والمنكرات، وبهذا يحافظ على مرتبة التقوى التي بلغها بالصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، وهو -وإن قل تطوعه ونقصت نوافله-؛ فإنه لا يزال مرتبطًا بقدر من النوافل صلاة وصيامًا وتلاوة للقرآن؛ تعينه على استدامة التقوى والثبات على الاستقامة.
إن الاستمرار على العمل الصالح بعد انتهاء المواسم الفاضلة والأيام المباركة دليل على صدق صاحبه وحسن إسلامه، كما أن التراجع والتذبذب أمارة النفاق وسمة المنافقين الذين {..لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا . مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:142،143]، وقد ضرب الله مثل السوء لمن نقض عهد التدين، وبدل سوءًا بعد حسن، وانحرافًا بعد استقامة؛ ونهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك السلوك، قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل:92]. أخرج ابن جرير عن قَتَادَة فِي الْآيَة: "لَو سَمِعْتُمْ بِامْرَأَة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم: مَا أَحمَق هَذِه؛ وهَذَا مثل ضربه الله لمن نكث عَهده".
إن حسن الخاتمة مطلب كل مسلم جاد في ابتغاء مرضاة الله والشوق إلى نعيمه المقيم؛ و«إنما الأعمال بالخواتيم» كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجل كل إنسان محجوب عنه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34].
ومن لا يعرف موعد الرحيل؛ وجب عليه دوام الاستعداد..
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ . قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:30-32].
حماد القباج
- التصنيف: