كُن مغبوطًا ولا تكن مغبونًا
إن الغبن قد يحصل في الصحة والفراغ إذا وُجِدا، وإذا فُقِدا أيضاً، فإنه في كلا الحالين يُتَصوّر الغبن فيهما. فإن كان عندك فراغ ولم تملأه بمفيد يرضي الله، وينفع في الدنيا والآخرة، وتشغل فيه نفسك بالطاعة فإنها تشغلك بالمعصية أو بِلَغْوِ القول والفعل
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الغبن دركات، ومِن أغبن الغبن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (البخاري؛ صحيح البخاري، برقم:[6412]).
إن أول ما نستفيده من الحديث أن الصِّحة وعافية الجسد نعمة وأن الفراغ نعمة كذلك، وما من نعمة إلا وأنت مَدِينٌ للمنعم بشكرها. ولذلك فأنت مسؤول عنها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الألباني؛ صحيح الجامع الصغير، برقم:[2022]).
»(وثاني الفوائد أن المغبونين كثيرون، ولذلك كان مقتضها أن الشاكرين قليلون، كما قال الله تعالى: {وقليلٌ من عباديَ الشّكور}[سبأ: 13]، وقليل من عبادي مخلصو توحيدي ومفردو طاعتي وشكري على نعميَ الكثيرة عليهم.
فقلّ الشكر والشاكرون مع نعمة لا يمكن وصفها إلا بـما وصفها مُسديها سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:18]، مجرد عَد النعم؛ وليس شكرها، فقال تعالى: {لا تعدّوها}، ولم يقل: "لا تشكروها"!!، فإذا كُنَّا لا نحصيها عَدًّا فكيف يمكن أن نحصيها شُكرًا؟!
والصحة: هي قوة البدن وعافية الجسد وسلامة العقل، وما يتبع ذلك من القوة الطبيعية الخَلقية..
والفراغ: هو الوقت المتاح للعبد، ليعمل فيه ويُفرغ فيه طاقةَ جسمه وبدنه وعقله في إحدى النجدين فيكون: {إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:3]... ويكون الغُبنُ فيه هو الوقت الضائع الذي يمر بصاحبه وهو بطّال فارغ من عمل مفيد.
والغبن هو الخسارة وفوات الربح ووكس النقص، وهو بسكون الباء النقص في البيع الحسي، وبفتحها النقص في الرأي.. "فهذان الأمران إذا لم يُستعملا فيما ينبغي فقد غُبن صاحبهما فيهما، أي: باعهما ببخس لا تحمد عاقبته، فإن الإنسان إذا لم يعمل الطاعةَ في زمن صحته ففي زمن المرض أولى ألَّا يعملها، وقد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرغًا للعبادة لاشتغاله بأسباب المعاش، وقد يكون متفرغًا من الأشغال ولا يكون صحيحًا؛ فإذا اجتمعا للعبد ثم غَلب عليه الكسل عن نيل الفضائل فذاك الغبن، كيف والدنيا سوق الأرباح، والعمر أقصر، والعوائق أكثر":[انظر: بدر الدين العيني؛ عمدة القاري شرح صحيح البخاري،(3/ 31)، وابن الجوزي، كشف المشكل من حديث الصحيحين: (3/ 437)].
فإن كان عندك فراغ ولم تملأه بمفيد يُرضي الله، وينفعك في الدنيا والآخرة، وتشغل فيه نفسك بالطاعة فإنها تشغلك بالمعصية أو بِلَغْوِ القول والفعل.. ثم تُغبَن عند السؤال حيث إنه لا تزول قدمَا عبدٍ حتى يُسأل عن أربع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « »(الألباني، السلسلة الصحيحة، برقم:[ 946]).
إن العبد إذا آتاه الله الصحة والقوة ولم يستعملها في طاعة الله أو فيما أذِن في شرع الله، فإنه يكون مغبونًا، خاسرًا في بيعة وبيعته التي عقدها مع الله تعالى مع المؤمنين: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:111]، فيكون مسؤولًا يوم القيامة عن صحة الأبدان وسعة الأزمان..
قال الشيخ العثيمين رحمه الله: "يعني أن هذين الجنسين من النعم مغبون فيهما كثير من الناس، أي مغلوب فيهما، وهما الصحة والفراغ، وذلك أن الإنسان إذا كان صحيحًا كان قادرًا على ما أمره الله به أن يفعله، وكان قادرًا على ما نهاه الله عنه أن يتركه لأنه صحيح البدن، منشرح الصدر، مطمئن القلب، كذلك الفراغ إذا كان عنده ما يؤويه وما يكفيه من مؤنة فهو متفرغ. فإذا كان الإنسان فارغًا صحيحًا فإنه يغبن كثيرًا في هذا، لأن كثيرًا من أوقاتنا تضيع بلا فائدة ونحن في صحة وعافية وفراغ، ومع ذلك تضيع علينا كثيرًا، ولكننا لا نعرف هذا الغبن في الدنيا، إنما يعرف الإنسان الغبن إذا حضره أجله، وإذا كان يوم القيامة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون:100]، وقال عز وجل في سورة المنافقون: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِين َ}[المنافقون:10]، وقال الله عز وجل: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [لمنافقون: 11] .
الواقع أن هذه الأوقات الكثيرة تذهب علينا سدىً، لا ننتفع منها، ولا ننفع أحدًا من عباد الله، ولا نندم على هذا إلا إذا حضر الأجل؛ يتمنى الإنسان أن يعطى فرصة ولو دقيقة واحدة لأجل أن يستعتب (يعتذر)، ولكن لا يحصل ذلك.
ثم إن الإنسان قد لا تفوته هاتان النعمتان: الصحة والفراغ بالموت، بل قد تفوته قبل أن يموت، قد يمرض ويعجز عن القيام بما أوجب الله عليه، وقد يمرض ويكون ضيق الصدر لا يشرح صدره ويتعب، وقد ينشغل بطلب النفقة له ولعياله حتى تفوته كثير من الطاعات.
ولهذا ينبغي للإنسان العاقل أن ينتهز فرصة الصحة والفراغ بطاعة الله عز وجل بقدر ما يستطيع، إن كان قارئًا للقرآن فليكثر من قراءة القرآن، وإن كان لا يعرف القراءة يكثر من ذكر الله عز وجل، وإذا كان لا يمكنه؛ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يبذل لإخوانه كل ما يستطيع من معونة وإحسان، فكل هذه خيرات كثيرة تذهب علينا سدىً، فالإنسان العاقل هو الذي ينتهز الفرص؛ فرصة الصحة، وفرصة الفراغ" [ابن عثيمين؛ شرح رياض، 2 / 65- 67].
وخلاصة الأمر أنه:
إذا حصل عند العبد نعمةُ الصحة والفراغ الذي هو بمعنى سعة الوقت؛ الذي إذا فرغ من مشاغله انتصب لعبادة ربه، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح:7-8]، فإن لم يفعل فهو مغبون خاسر محاسَبٌ على ما ضيّع من فرصة صحة الجسد ووقت العمر والشباب خاصة ، كما جاء في الحديث.
وإذا فقد الصحة أو الوقت ولم يجد صحة يعبد بها أو وقتا يعبد فيه فإنه مغبون، فاته الخير، حتى ولو كان معذورا فإنه لا يكون في مقدمة الركب، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة : "أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: « » قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ؟» قالوا: بلى، يا رسول الله قال: « » قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: "سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله!"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »(مسلم؛ صحيح مسلم، برقم:[595])
كما إنه يكون مغبونًا إذْ يتزود المتزوّدون لمسافة تطول، وشُقّة تبعد، وساق تشتد: {يوم يُكشف عن ساق(1)}[القلم: 42]. بينما هو لاهٍ ساهٍ ، يقتل الوقت قتلا، أو أنه سادر قد ألهــــه التكــاثر.
وقد يكون العبد مغبونًا بقلة الصحة، تفيض عينه من الدمع ألا يجد جسدًا يتعبه في مراد الله، يرى الوقت يمر من بين يديه ولم يستطع فعل شيء، خاصة إذا كان قد أمضى قوةَ بدنه هدرا قبل ضعفها، وأسال شبابَه ضياعًا قبل هرمه، ولذلك جاء في موعظة الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم: « »(الألباني، صحيح الجامع، برقم:[1077])، يعني بادروا الغبن وأدركوا النقص قبل حلوله.... ولات حين مندم!
وإن لم تكن واحدة من هذه فالفتن المهلكات لا توقر أحدًا، فبادروا المنجيات من الأعمال، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »[مسلم؛ صحيح، برقم:[ 118]).
ولا شكَّ أن الذي أعطاه الله نعمتي الصحة والفراغ ثم لم يقم بواجبهما واستغلالهما، أنه مغبون أكثر ممن غُبِن بفقدانهما؛ لأن الثاني معذور بالعجز، أما الأول فيحق فيه قول تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8].
--------------------------
(1)- ساق تشد من الكرب والشدة والهول والفضاعة، كأنها حربٌ قامت ساقها، ويكشف عن ساق ، فٌسّرت بساق الله تعالى، تليق بجلاله: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}[الشورى:11]، ويوم الكشف عن ساق الله تعالى يُكشف على الناس بشدةٍ وهول وكرب فاللهم سلم سلم.
فاللهم اجعلنًا والمسلمين أجمعين من المغبوطين في الدنيا والآخرة، ولا تجعلنا من المغبونين، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: