تزكية العقل والفكر
عرف العلماء العقل بتعريفات كثيرة، بعضها يجعل العقل هو الروح، لأن العقل لا إدراك له بلا روح، وبعضها يجعله هو القلب، لأن محل العقل القلب، وبعضها يجعله هو الإنسان لأن ما يميز الإنسان عن غيره العقل، وبعضها يجعله غريزة تعرف بها العلوم، وبعضهم يجعله ذات العلوم.
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
تعريف العقل
تقرأ في هذا الموضوع :
العقل لغة
العقل اصطلاحاً
هل للعقل مكان في الجسم
العقل لغة:
العَقْلُ: الحِجْر (أي المنع) والنُّهى ضِدُّ الحُمْق، والمَعْقُول: ما تَعْقِله وتدركه بقلبك، والعَقْلُ: التَّثَبُّت في الأُمور، وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه، فالعاقِلُ هو الذي يَحْبِس نفسه ويَرُدُّها عن هواها، وعَقَلَ الشيءَ يَعْقِلُه عَقْلاً: فَهِمه (انظر: لسان العرب لابن منظور ج 11 ص 458 -462، ومما قاله أيضاً في العقل: والجمع عُقولٌ، عَقَلَ يَعْقِل عَقْلاً، وعَقَل فهو عاقِلٌ وعَقُولٌ من قوم عُقَلاء، رَجُل عاقِلٌ وهو الجامع لأَمره ورَأْيه، مأْخوذ من عَقَلْتُ البَعِيرَ إِذا جَمَعْتَ قوائمه، وقيل: العَقْلُ هو التمييز الذي به يتميز الإِنسان من سائر الحيوان، ويقال: لِفُلان قَلْبٌ عَقُول، ولِسانٌ سَؤُول، وقَلْبٌ عَقُولٌ فَهِمٌ، ويقال: َعَقَّل: تَكَلَّف العَقْلَ، والعَقْلُ: الدِّيَة، وإِنما قيل للدية عَقْلٌ لأَنهم كانوا يأْتون بالإِبل فيَعْقِلونها بفِناء وَلِيِّ المقتول، وأَصل العَقْل مصدر عَقَلْت البعير بالعِقال أَعْقِله عَقْلاً، وهو حَبْل تُثْنى به يد البعير إِلى ركبته فتُشَدُّ به)، والعقل: المنع، لمنعه صاحبه من العدول عن سواء السبيل (الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، ص 67، لزكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري أبو يحيى، تحقيق : د. مازن المبارك، دار الفكر المعاصر، بيروت، الطبعة الأولى ، 1411هـ).
يفهم من هذه المعاني للعقل أنه به تدرك الأمور وتفهم، وبه تميز الأمور، فيُعرَف به ما فيه مصلحة الإنسان وما فيه مفسدته، فيكون سبباً في البعد عن المهالك وسبباً في البحث عن المنافع.
العقل اصطلاحاً:
عرف العلماء العقل بتعريفات كثيرة، بعضها يجعل العقل هو الروح، لأن العقل لا إدراك له بلا روح، وبعضها يجعله هو القلب، لأن محل العقل القلب، وبعضها يجعله هو الإنسان لأن ما يميز الإنسان عن غيره العقل، وبعضها يجعله غريزة تعرف بها العلوم، وبعضهم يجعله ذات العلوم.
وبعض العلماء يستعمل العقل اصطلاحاً في معانيه اللغوية، وهو الأقرب لتعريف حقيقته وماهيته (انظر في تعريفات العقل: التعريفات للجرجاني ص 196-197، رقم 985، والحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة ص 67).
وعرف كثير من العلماء العقل بأنه التعقُّلُ وإدراكُ العلوم، فلم يلتفتوا إلى إثبات ماهية للعقل أو آلة هي التي بها يعقل الإنسان، بل عدوا العقل هو ذات العلوم، ومنهم من لم يعمموا في ذلك كل علم، بل جعلوه في حدود العلوم البدهية التي يدركها كل أحد، فقالوا: "العقل: مناط التكليف" (كتاب المواقف، 2 / 86، لعضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، تحقيق: د.عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، ط1، 1997م. وذكر الإجماع على ذلك من أهل الملة)، و"هو العلم ببعض الضروريات" (وهو قول الإمام أبي الحسن الأشعري، المواقف: [2 / 86])، فلا يكون تكليفٌ بالإيمان إلا بوجود العقل، أو بوجود تلك العلوم التي تُوصِلُ إلى إدراك الحقائق الإيمانية.
وهذا المعنى ليس ببعيد عن طريق القرآن الكريم، فقد أطلق العقل على المعقولات والمعلومات التي يدركها العقل، كما سيأتي بيانه.
والذي أرجحه في تعريف العقل جمعاً بين التعريفات السابقة وغيرها أن العقل: هو اللطيفة التي يدرك بها الإنسان العلوم والمعاني والأشياء، وبها يميز بين الحق والباطل، والنافع والضار.
ومعنى قولنا: "لطيفة" أي إن العقل أمر معنوي موجود، لكنه غير حسي، وإن ارتبط بموضع حسي من الجسد.
العقل كما ورد في النصوص ومعانيه:
ذكرت مشتقات لفظة العقل في القرآن الكريم والسنة كثيراً، وغالباً ما تطلق على أحد ثلاثة أمور:
العقل: من حيث هو آلة لإدراك العلم، والعقل: من حيث عملية الإدراك والتعقل التي توصل لإدراك العلوم، والعقل: بمعنى العلم الذي يستفاد بالعقل (وقد ذكر الراغب في مفردات القرآن، ص 341، اثنين منهما، فعبر عن ذلك بقوله: "العقل: يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل").
العقل بمعنى الشيء الذي به يعقل الإنسان ويدرك العلم والمعاني والحقائق.
وكل موضع رفع فيه التكليف عن العبد لعدم العقل، فالعقل فيه بهذا المعنى (الراغب، مفردات القرآن، ص 342).
قال صلى الله عليه وسلم : « » (حديث صحيح، وفي رواية للحديث: « »، روى هذا الحديث على اختلاف في ألفاظه وتقارب في معناه: الترمذي في جامعه رقم [1423]، وأبو داود في السنن رقم [4398] و [4401] و [4403] وابن خزيمة في صحيحه رقم [1003] وابن حبان في صحيحه [142] و [143]، والحاكم في مستدركه رقم [949] وصححه على شرط الشيخين، والدارقطني في سننه رقم [173]، وغيرهم، والحديث بمجموع رواياته وشواهده يصل إلى حد الصحة. وقوله عن الصبي حتى يعقل أي يبلغ الاحتلام كما بينته روايات أخرى).
العقل بمعنى استعمال العقل في عملية التعقل والفهم والإدراك والتمييز:
قال تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة:76]، أي لماذا لا تستعملون عقولكم، لتعلموا بها ما يجب أن تعلموه، والآية تدل على أن الذي يستعمل العقل ويستفيد من معلوماته التي أدركها، ويبني قناعاته وتوجهات قلبه عليها، ثم يعمل بجوارحه بما يوافق ذلك فهو العاقل حقاً، وأما مَن أدرك شيئاً وعرفه ثم تصرف بخلافه فكأنه بغير عقل، لأنه يستوي مع غير العاقل في عدم الاستفادة من المعلومات، لكنهما لا يستويان في أثر ذلك، فمن لا عقل له لا حساب عليه، ومن لا يستفيد من عقله ومعلوماته فهو محاسب على ذلك، ووصفه بعدم العقل من باب التقريع له والتنبيه.
قال تعالى ذاكراً قول الكافرين يوم القيامة: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، فهؤلاء لم يستعلموا عقولهم، ففاتهم معرفة الحق، ونتج عن ذلك أن تكون حياتهم وأهواءهم وأعمالهم كلها خاطئة خاسرة.
قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164].
فالآيات نافعة لمن يستعمل عقله في النظر إليها والتفكر بها فيهتدي بذلك إلى معرفة خالقها وقدرته.
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]، فهؤلاء وصفوا بأنهم لا يعقلون لأنهم لا يستعملون عقولهم فيما يجب أن تدركه وتعرفه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعيدُ الكلمة ثلاثاً، لتُعقَل عنه (أخرجه الترمذي رقم [3640]، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، ونحوه الحاكم رقم [7716] وصححه على شرط الشيخين)، أي لتفهم عنه ويُدركَ معناها.
العقل بمعنى المعقول والمعلوم الذي يدرَك بالعقل:
ومنه قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151]، أي لتعرفوا ما هو معقول يفهمه العقل ويدرك صوابه وأنه حق وخير.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4]، لا يعرفون قدر هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر يدركه العقل بالتفكر والأخذ عن الشريعة.
وقوله سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] أي وما يعلمها.
وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] وقال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الزخرف:3]، أي لعلكم تعرفون ما يُدرَكُ بالعقل.
وكل موضع ذم الله فيه الكفار بعدم العقل فالمقصود فيه عدم علمهم لما يجب أن يعلموه بعقولهم (مفردات القرآن، الراغب، ص [342])، وذلك مثل قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]، أي لا يعرفون ما يجب أن يعرفوه بعقولهم، وذلك لأنهم لا يستعملون العقل.
والقرآن يستعمل العقل بهذا المعنى كثيراً، وينفي وجوده عن الكافرين، ولا ينبغي أن يُظَنَّ أنه ينفي عنهم العقل الذي به التكليف، لذلك قال والدي رحمه الله: "ويطلق العقل في الشريعة على شيئين: أولاً: على ما هو مناط فهم الخطاب، وإذا وجد فقد أصبح الإنسان مكلفاً ضمن شروط. ثانياً: على قبول خطاب الشارع والعمل به، وذلك هو العقل الشرعي. وعلى هذا يحمل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} [الحشر من الآية:14] {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]" (الأساس في السنة وفقهها، قسم العقائد، سعيد حوى، ج 1، ص 29).
هل للعقل مكان في الجسم:
اختلف العلماء في محل العقل، فقال بعضهم: محله الدماغ في الرأس، وقال آخرون: محله القلب في الصدر (قال ابن منظور: "والعَقْلُ: القَلْبُ، والقَلْبُ: العَقْلُ"، لسان العرب، مادة (عقل)، وقال الجرجاني في كتابه التعريفات ص 197: "وما يعقل به حقائق الأشياء قيل محله الرأس وقيل محله القلب")، ولذلك يسمى العقل قلباً أحياناً، وقال بعضهم: ليس له محل خاص في الجسد، وإنما هو ذات الروح، وسميت الروح عقلاً لأنها مُدْرِكة (يقولون: العقل والقلب والنفس كلها هي الروح، لكنها من حيث هي مدركة تسمى عقلاً، ومن حيث هي ذات عواطف متقلبة تسمى قلباً ومن حيث هي ذات غرائز وشهوات تسمى نفساً)، والله أعلم.
ولا شك أن العقل مستمِدٌّ من الروح ومرتبط بها كارتباط سائر عوالم الإنسان، لكن لا بد من التفريق بين العقل والروح، فقد يكون الإنسان حياً بروحه، وليس صاحب عقل، فيسقط عنه التكليف، وقد يكون حياً ذا روح وصاحبَ عقلٍ ومكلفاً، ومع ذلك يوصف بأنه ليس بعاقل لعدم استعماله عقله، ولذلك جاز وصف الكافرين والمنافقين بأنهم {لاَ يَعْقِلُونَ} (كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]، وقوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [المائدة:58] وقوله: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس:42]).
والقول بأن العقل هو في القلب تشهد له النصوص في ظاهرها أكثر من الأقوال الأخرى، ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46]، فوصف القلوب بأنها تعقل، وقوله {بِهَا} يدل صريحاً على أن القلب هو آلة التعقل، على رأي من يقول بذلك.
وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، والفقه هو الفهم والإدراك وهو عمل العقل، فلما وصف القلب أنه لا يفقه دل على أن العقل الذي فيه هو الذي لا يفقه ولا يدرك.
ويشهد لذلك قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]، ومعلوم أن المسؤولية تترتب على العقل (وهذا أمر متفق عليه عند العلماء)، فلما جعلها مترتبة على الفؤاد مع السمع والبصر دل على أن الفؤاد هو محل العقل.
وعلى القول بأن العقل والتعقل محله القلب، فيكون القلب محلاً لثلاثة أشياء: الأول: العقل، فيكون القلب بالعقل الذي فيه هو الذي يميز بين الأشياء والحقائق والمتقابلات من خير أو شر، الثاني: العواطف والأهواء (وسيأتي بيان أن القلب هو محل العواطف والأهواء السليمة والفاسدة، وأنه محل الإرادة، فيما بعد)، فيكون القلب بما فيه من عواطف وميول ورغبات هو الذي يميل بصاحبه إلى خير أو شر أو إلى مصلحة أو مفسدة، الثالث: الإرادة، فتنشأ عن تلك المعقولات وعن الرغبات إرادة موافقة للعقل أو مخالفة له، تحقق رغبة صحيحة أو رغبة فاسدة.
ومن قال بأن العقل في الدماغ تشهد لقوله النصوص السابقة نفسها، فإن المخاطبين بما سبق هم من أهل االعقول، ولو كانوا غير عقلاء لما جاز أن يخاطبوا بالتكليف، فدل ذلك على أن العقل موجود رغم عدم وجوده في القلب، أو رغم عدم عقل القلب، ودل ذلك على أن العقل يستعمل بأكثر من معنى، فاستقبال القلب بعواطفه للحقائق التي يدركها العقل يسمى عقلاً، لأنه من مقتضى التصديق بالعقل، ومن مقتضى الانتفاع به.
قال والدي الشيخ سعيد حوى رحمه الله حيث قال: "فالعقل: هو محل إدراك الخطاب، فحيثما وجد كان التكليف، والقلب: هو محل القبول للتكليف، فهو صاحب القرار في القبول والرفض.
والظاهر من التجربة ومن النصوص ومن الإحساسات ومن الأذواق؛ أن العقل الذي هو محل إدراك الخطاب مقره الدماغ، وأن القلب الذي هو محل القرار في القبول والرفض مقره الصدر" (الأساس في السنة وفقهها، قسم العقائد، ج 1، ص 24).
وقد يشهد لذلك أن الإنسان يحس بأن محل التفكير الدماغ، كما يشهد لذلك أن الإنسان إذا أصيب دماغه في بعض المواضع يفقد تفكيره.
وقد استدل بعض العلماء على كون العقل في الدماغ بقوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16]، فنسب الخطأ والكذب إلى الناصية، مما يدل على أنها محل التفكير الذي يدفع إلى الكذب والخطأ هو في الناصية، وهي مقدمة الرأس (قال في لسان العرب 15، 327: "النَّاصِيةُ: واحدة النَّواصي... قُصاصُ الشعر في مُقدَّم الرأْس... قال الأَزهري: الناصِية عند العرب مَنْبِتُ الشعر في مقدَّم الرأْس").
وقد يقال إن إدراك العقل يختلف عن إدراك القلب، في أن العقل والدماغ يدرك حقائق الأشياء علمياً، والقلب يدركها ذوقياً، فالعقل -مثلاً- يدرك معنى الخوف، والقلب يحس بالخوف ويشعر به، والعقل يدرك معنى الحب وأنه ميل قلبي، والقلب يتذوق الحب، ويحس بما فيه من شوق وعاطفة وميل.
ـ وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هناك علاقة بين العقل وبين الدماغ والقلب معاً، فقالوا: إن العقل في القلب وليس في الدماغ، لكن الدماغ عبارة عن الشاشة التي تتلقى إدراكات العقل ومعلوماته من القلب (وعلى هذا الرأي: يمكن تشبيه العقل والقلب وعملية التفكير بالحاسوب (الكمبيوتر)، فيمكن أن يقال إن محل العقل هو القلب كالقرص الصلب (الهاردسك) هو في جهاز الكمبيوتر (الكِيس) وتظهر عملية التفكير والتعقل في الدماغ، كما تظهر معلومات القرص الصلب على الشاشة، فالدماغ كالشاشة المستقبِلة لما في القلب من تعقُّل وتفكير، وبرنامج الوندوز في الكمبيوتر تماثل قدرة العقل في الإنسان، وأما البرامج المضافة إلى الكمبيوتر والمعلومات المُدخلة، والخبرة في التعامل مع هذه البرامج؛ فهي تماثل الاستفادة من العقل واستعمالَه وتذكُّر معلوماته والدمج بينها، وأما الأسلاك وما تنقله من المعلومات والكهرباء فهي تماثل الرسائل العصبية التي تصل العقل من خلال الجملة العصبية في الجسم، والتي تتغذى من الدم وما فيه من أوكسجين وطعام)، لذلك يحس الإنسان أن التفكير في رأسه ودماغه (للاطلاع على المزيد فيما يتعلق بالدراسات العلمية حول العقل ومحله؛ انظر: كتاب غرائب العقل: تأليف: بنفلد، 1975م).
وبغض النظر عن محل العقل، فإن الذي يهمنا في هذا الكتاب حيثما ذكرنا العقل أن نتكلم عما يدركه العقل ويعرفه ويميزه، سواء أدركه في القلب أو في الدماغ أو بالروح، فلا يتوقف على هذا الأمر أثر في علم التزكية.
قد نبه بعض العلماء إلى أن هذا الأمر لا يترتب عليه فائدة، فأينما كان العقل ومهما كانت ماهية العقل؛ فذلك لا يهمنا، إنما يهمنا إثبات عملية التعقل وما ينتج عنها من مُدرَكات ومعقولات، والقرآن الكريم لم يذكر العقل أبداً وإنما ذكر عملية التعقل، كقوله: {تَعْقِلُونَ} و{يَعْقِلُونَ} و{عَقَلُوهُ} و{نَعْقِلُ} (انظر: نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة: الكتاب الثالث: أصل المعرفة طرقها وأنواعها، د. راجح الكردي، دار الفرقان، عمان، ط2، 2003م، ص 124).
وحيث ذكرنا القلب فنعني جانب التقلب والعواطف والقرارات من قبول أو رفض لما يَرِدُ من العقل، حتى لو كان العقل في القلب، فكأن القلب حينئذ يضم أكثر من عالَم.
معاذ سعيد حوى