{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ}
شكوى النبي صلى الله عليه وسلم مَن هجر القرآن، فيها دلالةٌ على أن ذلك من أصعب الأمور عليه، وأبغضها لديه؟ وأن في حكاية القرآن لهذه الشكوى وَعِيدٌ كبير للهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابةً لشكوى نبيه صلى الله عليه وسلم؟ أيُلامُ نبينا صلى الله عليه وسلم على شكواه وتفجعه! والمهجور هو كلام ربه عز وجل، الذي فتح الله به آذاناً صماً، وعيوناً عمياً، وقلوباً غلفاً؟
حين يطلق الإنسانُ آهاتِه وزفراتِه؛ فإنك تدرك من عباراته عظيمَ مصيبتِه، وشدةَ فجيعته، وكلما كان القائل أصدق، والمعبِّر عن هذه المصيبة أقدر على البيان؛ كانت القدرة على الإفصاح عن حجم المشكلة وعميق المأساة أكثر، ووقعُ خبرها على النفس أعظم، فما ظنك -أيها المسلم- إذا كان الذي بث الشكوى هو أفصح من نطق بالضاد: محمدٌ بن عبدالله صلى الله عليه وسلم؟! وما ظنك إذا كان الذي نقل هذه الشكوى وبثها: كتابٌ حوى أفصح الكلام، وأبينه وأصدقه: إنه القرآن؟! حينها ستكون الألفاظ غايةً في التعبير عن الشكوى، وعميقةً في الدلالة على عظم المصيبة!
تلك -أخي القارئ- هي شكاية محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن هجر قومه للقرآن، والتي سجلها القرآن، وأين؟ في سورة الفرقان بالذات؛ لأن الفرقان هو القرآن، سجلها في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان: 30]، متروكاً مُقاطَعاً مرغوباً عنه، وإن ربه ليعلم بشكواه وحال قومه مع هذا القرآن؛ ولكنه دعاء البث والإنابة، يُشهِد به ربه على أنه لم يأل جهداً، ولكن قومه لم يستمعوا لهذا القرآن ولم يتدبروه.
وتأملوا يا أمة القرآن: في قوله: {اتَّخَذُوا} فهي تدل على أنهم جعلوا الهجر ملازماً له ووصفاً من أوصافه عندهم، وهذا أعظم وأبلغ من أن يقال: إنهم هجروه؛ لأن هذا اللفظ يفيد وقوع الهجران منهم، دون دلالة على الثبوت والملازمة [من مقال مقتبس لابن باديس، نشر في البيان عدد (13)].
لقد هجروا القرآن الذي نزّله الله على عبده لينذرهم، ويبصرهم...، هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم، وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدى على نوره، وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم، وقد جاء ليكون منهاج حياة يقودها إلى أقوم طريق [الظلال: (5/2561)].
فهل ندرك -معشر قراء كتاب الله- ونحن نقرأ هذه الآية أن شكوى النبي صلى الله عليه وسلم مَن هجر القرآن، فيها دلالةٌ على أن ذلك من أصعب الأمور عليه، وأبغضها لديه؟ وأن في حكاية القرآن لهذه الشكوى وَعِيدٌ كبير للهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابةً لشكوى نبيه صلى الله عليه وسلم؟ أيُلامُ نبينا صلى الله عليه وسلم على شكواه وتفجعه! والمهجور هو كلام ربه عز وجل، الذي فتح الله به آذاناً صماً، وعيوناً عمياً، وقلوباً غلفاً؟ أليس هو عمدةَ الملة، وينبوعَ الحكمة، وآيةَ الرسالة، ونورَ الأبصار والبصائر؟ إنه الصراط المستقيم، والدستور القويم.
وإذا كانت هذه شكواه صلى الله عليه وسلم من هجر قومه الكفار، فماذا لو أحياه الله اليوم! لينظر في أنواع الهجر التي تلبّس بها أكثر المسلمين اليوم؟! لوَجد فيهم الهاجرَ للعمل به -وإن قرأه وآمن به-، ولوَجد الهاجرَ لتحكيمه والتحاكمَ إليه في أصول الدين وفروعه، ولرأى من هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فطَلبَ شفاء دائه من غيره! ولأبصر مَن هجر تدبرَه، وأعرض عن تفهمه ومعرفةِ مراد المتكلم به منه؛ فكان حظه منه كحظ اليهود من التوراة الذين قال الله عنهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: من الآية 78] أي: أنهم لا يعلمون من كتابهم إلا تلاوة ألفاظه فحسب، أما العمل والتدبر فهم عنه بمعزل.
قال ابن القيم بعد أن ذكر هذه الأنواع الخمسة من الهجر: "وكل هذا داخل في قوله: {وَقَالَ الرَّ?ُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}" (انظر الفوائد (بترتيب الحلبي: 113)).
ماذا لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً؟ أما والله لتزيدن شكواه إلى ربه، وهو يرى قوماً من المنتسبين للإسلام لا يعرفون القرآن إلا في الموالد والمآتم والاحتفالات! وحظهم من تدبره -في تلك الأحوال- هزُّ الرؤوس، وتمايلُ الأعناق!
أما حضوره في الحكم والتحاكم؛ فهذا ممنوع في أكثر بلاد الإسلام اليوم -ولا حول ولا قوة إلا بالله!- اللهم إلا في زاوية ضيقة فيما يُسمّى بالأحوال الشخصية! ولو طلب المسلمُ أن يُحْكم له بهذا القرآن لسُخِر به، بل ولأجبر على التحاكم إلى القانون الفرنسي أو الانجليزي! ولا تَستغرب إذا دخلت إحدى هذه المحاكم الوضعية أن ترى فوق رأس القاضي الذي يحكم بالقانون الآية الكريمة التالية: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]!
بل كم رأينا من يضع يده على المصحف مقسماً به ليُعلن اليمين الدستورية! أتدرون ما معنى هذا؟ إنه يقسم بالمصحف على تحكيم القوانين الوضعية! فرحماك يا رب بأمة الإسلام، وعياذاً بالله من هذا التناقض الشنيع! والمسلم يرى هذا الإقبال الكبير على قراءة كتاب الله عز وجل وخصوصاً في هذا الشهر الكريم ينتابه شعوران: شعور بالفرح والسرور لمثل هذا المنظر، وشعورٌ بالحزن للبون الشاسع بين ما يقرؤه القارئ وبين حاله التي هو عليها منذ سنوات طويلة! والمصيبة تعظم حينما يرى القارئُ لألفاظه، والهاجرُ لبعض أحكامه أو أكثرها أنه قد أتى بالمطلوب، وبما يحبه الله ورسوله بمجرد قراءته!
ولم يعلم أن له نصيباً مِن هجر القرآن بقدر تقصيره في تطبيق ما يقرأ، ونصيباً من شكوى محمدٍ صلى الله عليه وسلم لربه! أتريدون البرهان:
كم هم رواد المحاكم الذين يقرءون أو يسمعون قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: من الآية 188] أي: إلى القضاة: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية 188]؟
وهنا نسأل: ما الذي جعل الدعاوى الكاذبة من أحد الخصمين في المحاكم بالمئات؟ وما الذي أشغل القضاة بمثل تلك الدعاوى التي أحد الطرفين فيها غالباً يعلم أنه كاذب؟ أين تحكيم هذه الآية في واقعهم؟
وخذوا هذا النموذج الآخر: كم تمر هذه الآية الجامعة العظيمة على مسامعنا لا أقول في الشهر أو في السنة، بل كل أسبوع حينما يصدع بها خطباء الجمعة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْس?انِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]؟ وهنا نقف فقط مع جملة واحدة من هذه الآية: ألا وهي قوله: {بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} قلِّب بصرك؛ فإنك لن تتعب في رؤية صور الظلم والجور التي تُمارَس داخل البيوت وخارجها، فكم هم الأولاد الذين يشكون من عدم العدل بينهم؟ وكم هن الزوجات اللاتي ينشدن عدل أزواجهن بينهن؟ وكم هم العمال المساكين الذين يجأرون إلى الله من ظلم مكفوليهم؟!
وأيضاً: كم هم الذين يقرءون قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]؟ ومع ذلك لا يزال مُصِراً على أكل الربا، إما صراحةً أو تحايلاً! إلى غير ذلك من صور التناقض البغيض، والظلم الشنيع، والتي هي كفيلة بنزع البركة، وحبس القطر من السماء.
يا قراء كتاب الله: أليس فينا من إذا ذكر هجر تحكيم القرآن لم ينصرف ذهنه إلا إلى الحكام والحكومات، والأنظمة التي تحكم الدول؟! وهذا -لعمر الله- من تضييق دلالة معنى التحكيم؛ ألم يقل الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]؟!
إن القرآن إنما نزل ليُتدبر وليُعمل به {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. فمتى غاب التدبر والعمل، وصار الكلام عن القرآن كلامَ تعالمٍ، أو بحوث تُملأ بها الأدراج، وتؤخذ عليها الشهادات؛ فسيصبح الناس في وادٍ والقرآن في وادٍ آخر، ولله در الحسن البصري يوم قال: "والله ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده! حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل!" [انظر: الزهد لابن المبارك(ص274)]).
أمة القرآن: إن القرآن في ذاته بلاغ، وهو وحده كافٍ في إصلاح أوضاع الأمة المأساوية اليوم؛ لو سمحنا له أن يطرق القلوب، وأن يؤدي رسالته فينا، ولا يكون نصيبه منا هو نصيبَ أهل الكتاب (التلاوةَ فقط)، وإذا صُرِفَ القرآن عن غايته فهل تجدي تلاوته؟ فالمشكلة والأزمة في الهجر؛ هجرِ الاتباع، وهجر العمل به.
متى يأتِ اليومُ الذي نصل فيه -معشر المسلمين- إلى مرحلةٍ تُدرك فيها أمةُ الإسلام كلُها سواء على مستوى الحكومات أو الأفراد أن القرآن فعلاً يهدي للتي هي أقوم كما قال ربنا ذلك في كتابه؟!
نعم يهدي للتي هي أقوم بإطلاق!
"فيشمل الهدى أقواماً وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان. فهو يهدي للتي هي أقوم بالعقيدة الواضحة التي لا تعقيد فيها ولا غموض. ويهدي للتي هي أقوم في الربط بين ظاهر الإنسان وباطنه ربطاً حقيقياً، وفي الربط بين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله؛ فإذا هي كلها مشدودةٌ إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى، وهي مستقرة على الأرض.
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفراداً وأزواجاً، وحكومات وشعوباً، ودولاً وأجناساً، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى، ولا تميل مع المودة والشنآن، ولا تصرفها المصالح والأغراض، الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم، ونظام المال، ونظام الاجتماع" [الظلال: (4/2215) بتصرُّف].
أما والله لو أخذناه بهذا الشمول، وبهذا الفهم كما أخذه الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان لصرنا كما صاروا؛ قادة للأمم، ولفتحنا به القلوب والآذان قبل فتح البلدان، ولَملكنا به الأرواح قبل الأبدان والأشباح:
الله أكبر إن دين محمد *** وكتابَه أقوى وأقومُ قيلا
طلعت به شمس الهداية للورى *** وأبى لها وصف الكمال أفولا
والحق أبلج في شريعته التي *** جمعتْ فروعاً للهدى وأصولا
لا تذكر الكُتْبَ السوالف عنده *** طلع الصباحُ فأطفئ القنديلا
ولئن تحدثنا عن الفِصام النَّكِد بين المطلوب والواقع مع هذا الكتاب الكريم؛ فإننا ومن باب التحدث بنعمة الله نرى في الساحة من وفقهم الله للبعد عن مشابهة أهل الكتاب، الذين لا يعرفون من كتابهم إلا التلاوة، ووُفِّقوا للسلامة من شكوى نبيهم صلى الله عليه وسلم لربه في هجر هذا الكتاب العظيم، نرى ذلك في فئات من الناس، أكثرهم من الشباب والفتيات الذين تربوا بالقرآن وعاشوا معه وبه؛ فصاروا ولا زالوا أمل الأمة المشرق، في المساهمة في إعادة مجدها السليب وعزها المفقود، وهم بتخرجهم من بيوت الله تعالى أنوارٌ تسطع للأمة وتشع بالخير والإحسان؛ يحيون الثقة بتلك الطريقة الصحيحة في تربية أبناء المسلمين، التي تنطلق من المساجد، إذ:
لا يُصنع الأبطال إلا *** في مساجدنا الفِساح
في روضة القرآن في *** ظل الأحاديث الصحاح
شعبٌ بغير عقيدة *** ورق تذرِّيه الرياح
ومن المعلوم أن مثل الجمعيات الخيرية التي تقوم بدعم مثل تلك المشاريع لا يمكن أن تقوم بدَورها المنوط بها إلا إذا دعمها المسلمون مادياً ومعنوياً، ومن عجز منا أن يمارس تعليم القرآن بنفسه؛ فلا يعجزنّ أن يعلمه بماله، فالكل موعود بالخيرية من محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» [رواه البخاري ح(4739) عن عثمان]، وحذارِ حذار أن نهجر هذا الباب من أبواب البر؛ فنضيف بذلك تقصيراً إلى تقصيرنا!
- التصنيف:
- المصدر: