الحياء حلية المحتسبين

منذ 2014-08-09

الحياء الحقيقي لا يمنع المحتسب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق، والتفقه في الدين، بل الحياء الحقيقي يحثه على ذلك؛ لأن الحياء -كما هو معلوم- خلق نبيل يحمل صاحبه على فعل المحاسن والفضائل، وترك القبائح والرذائل، ومن المحاسن والفضائل التي يحمل صاحبه على فعلها: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؛ لأن الحياء من الإيمان.

لقد حث الإسلام على التخلق بكل خلق نبيل، ونهى عن كل خلق رذيل، ومن الأخلاق النبيلة التي حث الإسلام عليها: "خلق الحياء" فهو حلية المؤمنين عامة رجالًا وتساءًا، وحلية المحتسبين على وجه الخصوص، ولذلك فقد جاءت نصوص كثيرة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث عليه، والترغيب فيه؛ لما في التحلي به من الفضائل العديدة، والفوائد الحسنة، ومن ذلك:

أولا: الحياء صفة من صفات الله؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: من الآية 26]، وقال: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: من الآية 53].

وقد جاء في حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً» (رواه أبو داود [1488]، والترمذي [3256]، وابن ماجة [3865]، وصححه الألباني في صحيح أبي داود [1337]).

فمن صفات الله الحيي، وهي صفة كمال يجب إثباتها لله، وليست كصفة المخلوقين؛ قال ابن الأمير الصنعاني رحمه الله: "وصفه تعالى بالحياء يحمل على ما يليق به كسائر صفاته، نؤمن بها، ولا نكيفها، ولا يقال إنه مجاز، وتطلب له العلاقات؛ هذا مذهب أئمة الحديث والصحابة، وغيرهم" (سُبل السلام [2/708]).

وبما أن الحياء صفة من صفات الله، فالمسلم مأمور بإثباتها لله، والإيمان بها، والتخلق بها، قال ابن القيم رحمه الله: "ومن وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلته على ربه، وأدنته منه، وقربته من رحمته، وصيرته محبوباً، فإنه سبحانه رحيم يحب الرحماء، كريم يحب الكرماء، عليم يحب العلماء، قوي يحب المؤمن القوي، وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف، حتى يحب أهل الحياء، جميل يحب أهل الجمال، وتر يحب أهل الوتر" (الجواب الكافي، ص [67]).

وهو تبارك وتعالى حيي يحب أهل الحياء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» (رواه أبو داود [5225]).

ومن أحب صفة من صفات الله أحبه الله، وأدخله جنته؛ قال ابن القيم رحمه الله: "من أحب صِفَات الله أحبه الله، وَأدْخلهُ الْجنَّة" (مفتاح دار السعادة [1/77]).

ثانيا: الحياء صفة من صفات الملائكة الأبرار؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيتي، كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم -وسوَّى ثيابه، قال محمد أحد رواة الحديث- ولا أقول ذلك في يوم واحد، فدخل فتحدث، فلما خرج، قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلستَ وسويتَ ثيابك، فقال: «ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة» (رواه مسلم [2401]). فالملائكة الأبرار يتصفون بصفة الحياء؛ فقد استحيوا من عثمان بن عفان رضي الله عنه كما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، وفي الحديث فضيلة لعثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

ثالثاً: الحياء سنة من سنن الأنبياء والمرسلين؛ وصفة من صفاتهم؛ فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح» (رواه الترمذي [1080]، وأحمد [23069]، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح [382]).

وهذا كليم الله موسى عليه السلام كان من أشد الأنبياء حياءً؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً ستيراً، ما يرى من جلده شيء استحياء منه (رواه البخاري [3404]) الحديث..

وهذا خاتم النبيين، وحبيب ربّ العالمين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كان أشد حياءً من العذراء في خدرها؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه" (رواه مسلم [2320]).

رابعاً: الحياء يحمل صاحبه على فعل الخيرات، وترك المنكرات؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يُعاتب أخاه في الحياء، يقول: "إنك لتستحيي حتى كأنه يقول قد أضرّ بك"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه فإن الحياء من الإيمان» (رواه البخاري [1618]، ومسلم [36]).

ففي هذا الحديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الأنصاري الذي كان يعظ أخاه في ترك الحياء بالكف عن هذه الموعظة؛ لأن الحياء من الإيمان، والإيمان يحمل صاحبه على فعل الخيرات، وترك المنكرات، قال ابن رجب رحمه الله: "والحياء نوعان:
أحدهما: غريزي، وهو خلق يمنحه الله العبد ويجبله عليه فيكفه عن ارتكاب القبائح والرذائل، ويحثه على فعل الجميل وهو من أعلى مواهب الله للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثر ما يؤثره الإيمان من فعل الجميل والكف عن القبيح، وربما ارتقى صاحبه بعده إلى درجة الإيمان، فهو وسيلة إليه، كما قال عمر رضي الله عنه: "من استحيى اختفى، ومن اختفى اتقى ومن اتقى وقى". وقال بعض التابعين: "تركتُ الذنوب حياءً أربعين سنة، ثم أدركني الورع".

والنوع الثاني: أن يكون مكتسباً، إما من مقام الإيمان كحياء العبد من مقامه بين يدي الله يوم القيامة فيوجب له ذلك الاستعداد للقائه، أو من مقام الإحسان، كحياء العبد من اطلاع الله عليه وقربه منه، فهذا من أعلى خصال الإيمان" (فتح الباري شرح صحيح البخاري [1/102- 103]).

خامساً: الحياء شعبة من شعب الإيمان؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة -أو بضع وستون شعبة- فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (رواه البخاري [9] ومسلم [35]).

ففي هذا الحديث خص النبي صلى الله عليه وسلم الحياء بالذكر؛ تنويها بفضله وأهميته؛ ولأن الحياء بمعناه العام يشمل جميع شعب الإيمان.

سادساً: الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار» (رواه الترمذي [2009]، وابن ماجة [4184]، وأحمد [10134]، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [2628]).

سابعاً: الحياء قرين الإيمان؛ فإذا فقد أحدهما فقد الآخر؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء والإيمان قُرِنا جميعاً، فإذا رُفِعَ أحدهما رُفِعَ الآخر» (رواه الحاكم في المستدرك [58] وقال: "هذا حديث صحيح على شرطهما، فقد احتجا برواته ولم يخرجاه بهذا اللفظ"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [2636]).

وإذا فقد الحياء حل محله النفاق والعياذ بالله؛ فعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق» (رواه الترمذي [2027]، وأحمد [21809]، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [2629]).

وقلة الحياء علامة من علامات الشقاء، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "خمس من علامات الشّقوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلّة الحياء، والرّغبة في الدّنيا، وطول الأمل" (شعب الإيمان [10/182]).

ثامناً: الحياء خلق اختُص به الإسلام عن بقية الأديان؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء» (رواه ابن ماجة [4181]، والطبراني في الأوسط [13]، وحسنه الألباني في صحيح الجامع [2149]).

تاسعاً: الحياء زينة لكل شيء؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه» (رواه الترمذي [1974]، وابن ماجة [4185]، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [2635]).

فالحياء خير ما يتزين به أهل الإيمان؛ قال وهب بن منبه رحمه الله: "الإيمان عريان، ولباسه التّقوى، وزينته الحياء، وماله العفّة" (مصنف ابن أبي شيبة [7/191]، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة [4/926] اللالكائي).

عاشراً: أن الحياء يشمل الدين كله؛ قال إياس بن قرّة رحمه الله: "كنتُ عند عمر بن عبد العزيز فذكر عنده الحياء، فقالوا: الحياء من الدّين، فقال عمر: "بل هو الدّين كلّه" (السنن الكبرى للبيهقي [10/328]).

حادي عشر: الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها، وأعظمها قدراً، وأكثرها نفعا؛ فعن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحياء لا يأتي إلا بخير» (رواه البخاري [6117]، ومسلم [37]).

فهو جامع لفضائل الأخلاق، وجميل الخصال، وكريم الفعال؛ قال ابن القيم رحمه الله: "وخلق الحياء من أفضل الأخلاق وأجلّها، وأعظمها قدراً، وأكثرها نفعاً، بل هو خاصّة الإنسانيّة، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانيّة إلّا اللّحم والدّم، وصورتهما الظّاهرة، كما أنّه ليس معه من الخير شيء، ولولا هذا الخلق لم يقر الضّيف، ولم يوف بالوعد، ولم تؤدّ أمانة، ولم تقض لأحد حاجة، ولا تحرّى الرّجل الجميل فآثره، والقبيح فتجنّبه، ولا ستر له عورة، ولا امتنع من فاحشة.

وكثير من النّاس لولا الحياء الّذي فيه لم يؤدّ شيئاً من الأمور المفترضة عليه، ولم يرع لمخلوق حقّاً، ولم يصل له رحماً، ولا برّ له والدا؛ فإنّ الباعث على هذه الأفعال إمّا دينيّ، وهو رجاء عاقبتها الحميدة، وإمّا دنيويّ علويّ، وهو حياء فاعلها من الخلق، فقد تبيّن أنّه لولا الحياء إمّا من الخالق أو من الخلائق لم يفعلها صاحبها" إلى أن قال: "إنّ للإنسان آمرين وزاجرين، آمر وزاجر من جهة الحياء، فإذا أطاعه امتنع من فعل كلّ ما يشتهي، وله آمر وزاجر من جهة الهوى والطّبيعة، فمن لم يطع آمر الحياء وزاجره، أطاع آمر الهوى والشّهوة ولابدّ" (مفتاح دار السعادة [1/277-278]).

والحياء الحقيقي لا يمنع المحتسب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق، والتفقه في الدين، بل الحياء الحقيقي يحثه على ذلك؛ لأن الحياء -كما هو معلوم- خلق نبيل يحمل صاحبه على فعل المحاسن والفضائل، وترك القبائح والرذائل، ومن المحاسن والفضائل التي يحمل صاحبه على فعلها: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؛ لأن الحياء من الإيمان، والإيمان يحمل صاحبه على بغض المنكرات، والإنكار على أهلها، ولذلك فقد رتّب النبي صلى الله عليه وسلم درجات تغير المنكر على حسب قوة الإيمان وضعفه؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (رواه مسلم [49]).

فمن ضعف إيمانه ضعف إنكاره للمنكرات، ومن قوي إيمانه قوي إنكاره للمنكرات، ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم أقوى الناس إيماناً كان أقواهم إنكارًا للمنكرات، وأشدهم غضباً إذا انتهكت حرمات الله، وكذلك صحابته الكرام، ومن سار على طريقتهم من التابعين وأتباعهم كانوا ينكرون المنكرات بكل ما أتوا من قوة، ويسعون في تغيرها بكل وسيلة، فإن عجزوا عن تغيرها كادت قلوبهم أن تقطع؛ قال سفيان الثوري رحمه الله: "إني لأرى الشيء يجب علي أن أتكلم فيه، فلا أفعل، فأبول دماً" (سير أعلام النبلاء [7/243] ط: الرسالة).

وأما حالنا نحن في هذا العصر فإنه لضعف إيماننا؛ ضعفنا عن إنكار المنكرات؛ حتى أن بعضنا صار يُبرِّر لنفسه ضعفه وعجزه عن إنكار المنكرات بأن حيائه منعه من ذلك!! -وهذا لعمري- من تزيين الشيطان وليس من الحياء في شيء، بل هو ضعف وعجز وخور ومهانة، فالحياء الحقيقي لا يمنع من الأمر بالمعروف أو النّهي عن المنكر، قال صاحب "فضل الله الصّمد": "فإن قيل إنّ صاحب الحياء قد يستحيي أن يواجه بالحقّ، فيترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق، وغير ذلك ممّا هو معروف في العادة، فأقول إنّ ذلك ليس بحياء حقيقة، بل هو عجز وخور ومهانة" (فضل الله الصمد [2/ 54]).

فلو كان العبد متحلياً حقيقة بخلق الحياء لحمله ذلك على إنكار المنكرات، والسعي في تغييرها، فهؤلاء أنبياء الله ورسله كانوا أشد الناس حياءً، ولم يمنعهم ذلك من قول كلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كانوا أقوى الناس في إنكار المنكرات؛ فهذا إمام المحتسبين لم يمنعه حياءه من قول كلمة الحق؛ قال المناوي رحمه الله: "قال القرطبي: وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالحياء، ويأمر به، ويحث عليه، ومع ذلك فلا يمنعه الحياء من حق يقوله، أو أمر ديني يفعله، تمسكاً بقوله في الحديث... «إن الله لا يستحيي من الحق» وهذا هو نهاية الحياء وكماله، وحسنه واعتداله، فإن من فرط عليه الحياء حتى منعه من الحق، فقد ترك الحياء من الخالق، واستحيى من الخلق، ومن كان هكذا حُرِمَ منافع الحياء، واتصف بالنفاق والرياء" (فيض القدير [1/486]).

بل كان عليه الصلاة والسلام مع شدة حياءه يُنكر المنكرات إنكاراً بليغاً؛ كما تدل على ذلك شواهد كثيرة من حياته الاحتسابية، ومن ذلك:

1- إنكاره على عائشة رضي الله عنها تغطيتها بغطاء رقيق فيه صورة؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام -الستر الرقيق- فيه صورة، فتلوَّن وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: «إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله» (رواه مسلم [2107]).

2- إنكاره على حبِّه وابن حبِّه شفاعتَهُ في حدٍّ من حدود الله؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يُكلِّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة ابن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حدٍ من حدود الله؟!»، ثم قام فاختطب، ثم قال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (رواه البخاري [3475]، ومسلم [1688]).

3- إنكاره على رجل اتخذ خاتماً من ذهب؛ فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده» فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ خاتمك انتفع به، قال: "لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم" (رواه مسلم [2090]).

4- إنكاره على أحد عماله تصرف في مال الله بغير حق؛ فعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً على صدقات بني سليمٍ يُدعَى ابن الْلَّتْبِيَّة؛ فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالُكم، وهذا هدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلاَّ جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً؟!» ثم خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاَّني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أُهديت لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟! واللهِ لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاة تَيْعَر، ثم رفع يده حتى رُئي بياض إبطه يقول: اللهم هل بلَّغت، بَصَر عيني وسَمْعَ أذني» (رواه مسلم [1832]).

5- إنكاره على إمام شق على المأمومين في الصلاة، وذلك بإطالتها إطالة تخالف هديه وسنته عليه الصلاة والسلام ؛ فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يُطيل بنا، فما رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: «يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أمّ الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة» (رواه البخاري [7159] ومسلم [466]).

وشواهد إنكاره صلى الله عليه وسلم على المخالفات أكثر من أن تحصى، بل حياته صلى الله عليه وسلم كلها كانت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولم يمنع الحياء نساء الأنصار من التفقه في الدين؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض، فقال: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها». فقالت أسماء رضي الله عنها: "وكيف تطهر بها؟" فقال: «سبحان الله تطهرين بها!» فقالت عائشة رضي الله عنها: "كأنها تُخفي ذلك تتبعين أثر الدم"، وسألته عن غسل الجنابة، فقال: «تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء» فقالت عائشة رضي الله عنها: "نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين" (رواه مسلم [333]).

ولم يمنع أم سليم الأنصارية امرأة أبي طلحة أن تسأل عما أشكل عليها في دينها؛ فعن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم إذا رأت الماء» (رواه البخاري [282] ومسلم [313]).

فيجب عليك -أيها المحتسب- أن تتحلى بخلق الحياء، فتحليك بذلك مما يحملك على إنكار المنكرات، ولا يمنعك قول كلمة الحق، بل قولك لكلمة الحق دليل عظمة تحليك بخلق الحياء، وعظمة تحليك بخلق الحياء دليل قوة إيمانك؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] والجهاد بالحجة والبيان لا يقل أهمية عن الجهاد بالسيف والسنان، بل في أحيان كثيرة يكون الجهاد بالكلمة أجدى وأنفع من الجهاد بالسنان.

وفقك الله إلى كل خير، وصرف عنك كل سوء ومكروه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
عبده قايد الذريبي
 

  • 9
  • 0
  • 17,436

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً