الحلقة الأولى
أيمن الشعبان
هذه خواطر وتأمُّلات، لآياتٍ مباركات، من كلام ربّ البريات، نتفكَّر ونتدبر، ونستخرج الفوائد والدرر، والمواعظ والعِبر، من كتاب ربنا الذي لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي كنوزه، لتحيا به القلوب، وتزكو به النفوس. سأقف معكم -بعون الله وتيسيره- في كل حلقة مع آيةٍ من سورة السجدة، تلك السورة العظيمة ذات المعاني الجليلة، والدِّلالات الإيمانية النافعة، التي كان لها أهمية خاصةًُ في حياته وعبادته عليه الصلاة والسلام، عسى أن نخلُص بثلاثين آية عِلمًا وتفكُّرًا وانتفاعًا وعملًا.
- التصنيفات: التفسير -
الحمد لله مُنزِلَ الكتاب، ومُجريَ السحاب، ومُعلِّمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلَّى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
هذه خواطر وتأمُّلات، لآياتٍ مباركات، من كلام ربّ البريات، نتفكَّر ونتدبر، ونستخرج الفوائد والدرر، والمواعظ والعِبر، من كتاب ربنا الذي لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي كنوزه، لتحيا به القلوب، وتزكو به النفوس.
سأقف معكم -بعون الله وتيسيره- في كل حلقة مع آيةٍ من سورة السجدة، تلك السورة العظيمة ذات المعاني الجليلة، والدِّلالات الإيمانية النافعة، التي كان لها أهمية خاصةًُ في حياته وعبادته عليه الصلاة والسلام، عسى أن نخلُص بثلاثين آية عِلمًا وتفكُّرًا وانتفاعًا وعملًا.
ما أحوجنا لتلك الوقفات؛ في زمن الفتن والملذَّات، وهجران القرآن والتعلُّق بالماديات، فكلام الله سبحانه لَا يَسْتَقْصِي مَعَانِيَهُ فَهْمُ الْخَلْقِ، وَلَا يُحِيطُ بِوَصْفِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ذُو اللِّسَانِ الطَّلْقِ، فَالسَّعِيدُ مَنْ صَرَفَ هِمَّتَهُ إِلَيْهِ، وَوَقَفَ فِكْرَهُ وَعَزْمَهُ عَلَيْهِ، وَالْمُوَفَّقُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِتَدَبُّرِهِ، وَاصْطَفَاهُ لِلتَّذْكِيرِ بِهِ وَتَذَكُّرِهِ، فَهُوَ يَرْتَعُ مِنْهُ فِي رِيَاضٍ، وَيَكْرَعُ مِنْهُ فِي حِيَاضٍ.
ومن أعظم مقاصد إنزال القرآن التدبر، الذي لا يحصل إلا بمعرفة المعاني وإمعان النظر والتأمُّل والتفكُّر، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص من الآية:29]، وقد أنزله الله تعالى للناس للتدبر والتفكُّر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر وإمعان، وليتعظ أهل العقول الراجحة به وببيانه.
يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار".
كم نحن بحاجةٍ لإعادة النظر، في علاقتنا مع القرآن، من حيث التلاوة ومعرفة المعاني والتفكُّر والتدبر والتأمُّل، ثم الانتفاع والتطبيق والعمل!
قال الحسن البصري: "والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآن في خُلقٍ ولا عمل".
سورة السجدة من القرائن، التي كان يقرن بينها عليه الصلاة والسلام، نتذاكر معكم ما يتعلَّق ببعض المعاني والمقاصد من تلك السورة العظيمة، إذ ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الجُمُعَةِ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ".
وصلاة الفجر يوم الجمعة في جماعة، هي أفضل صلاة من بين خمسة وثلاثين صلاة على مدار الأسبوع، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: « » (صحَّحه الألباني في صحيح الجامع).
وثبت من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام: "كَانَ لا يَنامُ حتى يقرأَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةُ، و تَبارَكَ الذي بيدِهِ الملكُ".
قراءتها قبل النوم لأن النوم موت أصغر كما قال سبحانه: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر من الآية:42]، ونحن بحاجةٍ لتذكُّر هذه الحقيقة، وأنا سائرون إلى الله، وقد تكون هذه آخر لحظاتٍ لنا في الدنيا الفانية، فإذا ما استيقظنا لعمل يوم جديد، كانت لنا دافعًا لمراقبة الله، وحافزًا إيمانيًا لطاعة الله والقرب منه.
وقراءتها قبل النوم لِمَا فيها من العِبر والتذكير بالموت وبالبعث يوم القيامة وبالجزاء وبالحساب. ومن المناسب للإنسان عند نومه أن يتذكَّر ما الذي صنعه في هذا اليوم، ويتذكَّر أنه راجع إلى الله سبحانه، فينوي نية حسنة إذا أحياه الله عز وجل في اليوم التالي أن يؤدي الحقوق لأصحابها، وأن يعمل الخير ويزيد في صلاح نفسه بما يشاء الله عز وجل له.
والحكمة من قراءتها فجر الجمعة، لأنه يوم عظيم يحكي قصة الخلق من البداية إلى النهاية، يقول عليه الصلاة والسلام: « ».
يقول ابن القيم رحمه الله: "كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين -السجدة والإنسان- لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد، وخلق آدم، ودخول الجنة والنار، وذلك مما كان ويكون في يوم الجمعة، فكان يقرأ في فجرها ما كان ويكون في ذلك اليوم تذكيرًا للأمة بحوادث هذا اليوم".
سورة السجدة مكية، وآياتها ثلاثون آية، نزلت بعد سورة النحل، وقبل سورة نوح، سميت بسورة السجدة لاشتمالها على آية السجدة، وهي اسم لحالة معينة يكون عليها الإنسان أثناء صلاته لله عز وجل، لكنها كلمة تنقل هذه الهيئة، هيئة الخضوع الكامل حين يضع جبهته وهو أعلى وأشرف مكان فيه يضعه على الأرض، طائعًا لله راضيًا به ربًا وإلهًا ومعبودًا.
وموضوع هذه السورة ونتيجتها والأثر العملي المُترتِّب عليها وخلاصتها؛ الخضوع لله جل وعلا، لأن السجود أعظم صورة عملية للخضوع والانكسار والافتقار والذل بين يدي الله سبحانه.
سُئِلَ الحسن البصري رحمه الله: أين تجد الراحة؟!
فقال: "سجدة بعد غفلة، وتوبة بعد ذنب".
ومن أعظم أسباب ومُقدِّمات الوصول إلى الخضوع؛ اليقين الذي لا شك فيه، وهو قوة الإيمان والثبات، حتى كأن الإنسان يرى بعينه ما أخبر الله به رسوله عليه الصلاة والسلام من شدة يقينه، لذلك يُعتبر اليقين مادة هذه السورة التي يؤكد الله عليها بطرق وأساليب متنوعة كما سيأتي معنا.
واليقين نجاة، يقول عليه الصلاة والسلام: « » (صحيح الجامع)، وباليقين تتغلَّب على متاعب الدنيا وصعابها، إذ كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: « » (جزءٌ من حديثٍ رواه الترمذي).
وكان من دعاء أبي بكر رضي الله عنه: "اللهم هب لي إيمانًا ويقينًا ومعافاةً ونية".
وقال خالد بن معدان: "تعلَّموا اليقين كما تعلَّموا القرآن حتى تعرفوه فإني أتعلَّمه".
وتتجلى أهمية هذه السورة من اسمها "السجدة"، والصلاة هي أعظم صورة عملية للخضوع لله، والسجود سِرّها ومن أعظم مقاصدها، وأعلى مراتب السجود سجود القلب باليقين بالله سبحانه، ومحبته والذُل والعلم الراسخ المستقر في القلب، والسجود بالمعنى العام هو الخضوع لله جل وعلا في كل لحظة.
المتأمِّل في هذه السورة يجد أنها تُرسِّخ وتُثبت اليقين بحقائق الدين في قلب المسلم، فينتج عنه الخضوع والسجود لله، فترى فيها اليقين والخضوع مترابطان متلازمان متجانسان منسجمان متعانقان.
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.