العدل مع الأهل والأولاد
من عظيم عدله أن فرض النواة والحبة نصفين لتسهل قسمتها لو دعا الأمر إلى قسمتها بين الشريكين، وقسم التركات بين الورثة بعدله لئلا يحرم أحد من الورثة حقه فقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11]، وبين ميراث الأزواج بعضهم من بعض بقوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}.
الحمد لله الملك الحق الجليل، الحكم العدل الذي يقول الحق ويهدي السبيل، أحمده سبحانه على سوابق فضله الجزيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير ولا مثيل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودينه الحق بقواطع الدليل، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان...
أما بعد:
أيها الناس... أوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى والتمسك بصراطه المستقيم، وصراط الله القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي فمن أخذ به نجا من العذاب المهين، ومن أعرض عنه سلك سبل الشياطين.
أيها الناس:
إن ربكم جل وعلا حرم الظلم على نفسه وجعله بينكم محرمًا، فلا تنتهكوا ما حرم الله عليكم، ففي القرآن المبين أمر بالعدل والإحسان وتحريم للظلم والإثم والطغيان، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، وفي الحكم يأمر بالعدل فيقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]
ومن عظيم عدله أن فرض النواة والحبة نصفين لتسهل قسمتها لو دعا الأمر إلى قسمتها بين الشريكين، وقسم التركات بين الورثة بعدله لئلا يحرم أحد من الورثة حقه فقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11]، وبين ميراث الأزواج بعضهم من بعض بقوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]، وبين حق البنات إذا انفردن وحق الإخوة الأشقاء والإخوة لأم، وبين ميراث الكلالة وهو الذي لا ولد له ولا والد، فما علينا معشر المسلمين إلا أن نتدبر كتاب الله ونعمل بما ورد فيه من الأحكام، ولا نزيغ عنه طرفة عين فنكون من الهالكين.
وأمر الله تعالى بالعدل في معاشرة النساء، وأرشد إلى الطريق القويم في معالجة ما عسى أن تحتاج إلى معالجته في حالٍ ما يدعو إلى ذلك فقال: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:128].
والمراد في هذه الآية حسبما جاء في تفسيرها عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن المرأة تكون عند الزوج فيتقدم بها السن، ويتزوج عليها شابة وتخاف أن يطلقها عند ذلك، ففتح لها باب المصالحة مع زوجها مثل أن تسامحه في بعض حقوقها من المبيت أو العشرة أو النفقة وتبقى في عصمته كما فعلت أم المؤمنين سودة بنت زمعة لما كبر سنها وخشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهبت نصيبها اليومي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة، فقبل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي حال تمسك الزوجة بحقها، والزوج لا يريد أو لا يستطيع ذلك فعليه -أي الزوج- أن يخيرها بين أن تبقى عنده على تقصيره في بعض حقوقها الزوجية، أو أن يطلقها، فإن اختارت الطلاق لزمه طلاقها أو العدل بينها وبين زوجته أو زوجاته الأخرى، وإن رضيت بالبقاء على التقصير منه في بعض حقوقها أمسكها وبرئت ذمته من بقية حقوقها التي تنازلت عنها، وذلك لأن بقاء الزوجية أحب إلى الله من الفرقة يقول صلى الله عليه وسلم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» (1).
ولما يُخلِّفه الطلاق من تشتت في الأولاد، وربما حصلت البغضاء بين الزوجين بعد المودة والمعاشرة الحسنة؛ فالإسلام يحث على المحافظة على الجميل ومكارم الأخلاق حيث يقول تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237].
ومن عدله جل وعلا أن حفظ ليتامى النساء حقوقهن حيث يقول: وَإِنْ {خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء} [النساء:3].
روى البخاري في الصحيح أن عروة بن الزبير سأل عائشة رضي الله عنها عن معنى الآية وأنها قالت: "يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط قي صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنُهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يُقسطوا لهن، ويَبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق" (2)، ولما في النفوس من ضعف، وقد تغلب عليها العاطفة مع كيد العدو اللدود الذي توعد بني آدم بالإغواء والإضلال، فتميل النفس مع من تحبه من الأولاد أو النساء، أو يحملها بغض من تبغضه على هضم حق له واجب؛ أمر الله المؤمنين بأن يقوموا بالقسط أي الحق والعدل في كل حال من الأقوال والأفعال، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135]، أمر الله المؤمنين أن يقوموا بالعدل على كل حال في العطاء أو المنع أو الشهادة -أي في أداء الشهادة- على وجهها الصحيح من غير محاباة لمحب أو مضرة لمبغض، وقال في الآية الأخرى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
ولما قسم الله جل وعلا التركة بين الورثة ومن ضمنهم الأولاد، فإن تفضيل بعض الورثة من الأولاد أو النساء اعتراض على قسمة الله تعالى، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم جورًا، وأمر المؤمنين بتقوى الله والعدل بين الأولاد، ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما جاءه بشير بابنه النعمان وقد نحله أي أعطاه عطية وطلب من رسول الله رد الشهادة عليها فقال له صلى الله عليه وسلم: «إني لا أشهد على جور» (3)، والحديث روي عن النعمان نفسه ولفظه: «نحلني أبي نخلًا، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه ليشهده على صدقتي فقال صلى الله عليه وسلم: إني لا أشهد على جور، قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة».
وجاء في بعض روايات الحديث «أتحب أن يكونوا لك في البر سواء»، فالعدل فيه براءة للذمة، وفيه إرساء لقواعد المحبة والتآلف بين الأولاد، ومع التفضيل تحدث الكراهية والبغضاء بين الأخوة، وهو سبب للعقوق، لما فيه من مخالفة لتعاليم الإسلام، وبما أن الله قسم التركة بين الورثة قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» (4)، فلا يجوز الوصية عند الممات لأحد الورثة بشيء من المال.
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله رب العالمين.
-----------------------------
(1) سنن أبي داود (2178) وضعفه الألباني.
(2) صحيح البخاري (2362) ومسلم (3108).
(3) صحيح البخاري (2507) وصحيح مسلم (1623).
(4) سنن أبي داود (2870) وقال الألباني صحيح (212).
الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن بن عبد العزيز الدهيشي
- التصنيف:
- المصدر: