المسلم في بلاد الغربة - (2) بلاد الكفر والعيش الاضطراري

منذ 2014-08-15

من المهم أن نعرف بأن جميع الشرائع جاءت لتحافظ على مصالح الدنيا والدين، المبنية على كليات وضروريات خمس هي "الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال"، ولابد من معرفة ترتيبها وأولوياتها عند التزاحم والتعارض والموازنة فأعظمها "حفظ الدين" ثم "النفس" ثم "النسل" ثم "العقل" ثم "المال"، وهنالك خلاف في تفاضل العقل والنسل أيهما يقدم على الآخر، والأكثر على تأخير المال على الجميع.

الحمد لله على نعمة الإسلام، والصلاة والسلام على النبي العدنان، وعلى آله وصحبه عليهم الرضوان، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

مما لاشك فيه أن أحوال المسلمين تتغير وتتبدل، وتمر بسلسلة تحولات وتقلبات، لاسيما في آخر الزمان، إذ يفشو الجهل ويُرفع العلم، ويكثر الهرج وتظهر الفتن، ولمّا كانت الدنيا دار ابتلاء واختبار وامتحان، و«يبتلى الرجل على حسب دينه» (جزء من حديث صحيح، انظر صحيح الجامع رقم 992)، حتى أخبر عليه الصلاة والسلام بأن عذاب أمة الإسلام في الدنيا «الفتن والزلازل والقتل والبلايا» (انظر صحيح الجامع رقم 1396).

أعداد من المسلمين يتعرضون في بلدانهم للظلم والاضطهاد والتضييق، بل يصل الحال للتنكيل والتعذيب والقتل، والدوافع إما دينية أو سياسية أو عرقية أو عنصرية أو طائفية ومذهبية وغيرها من الأسباب، فيضطر العديد منهم الانتقال لمكان آمن يحفظون فيه دينهم وأنفسهم وأعراضهم، وما حصل لشريحة مستضعفة مهمشة من المسلمين في العراق، وكذلك اللاجئين الفلسطينيين في العراق وغيرهم من بلاد المسلمين؛ لأمثلة شاخصة وشواهد واضحة في وقتنا الحاضر.

الأدهى من ذلك والأمرّ صعوبة إيجاد بديل إسلامي أو عربي، مما يضطر العديد من المهجرين قسرًا والمبعدين من بلدانهم أو مواطن نشأتهم؛ لطلب اللجوء والمعيشة في دول الكفر، لِما يغلب على ظنهم من تحصيل ضالتهم، واستقرار في أوضاعهم، بل منحهم امتيازات وحقوق مفقودة في بلدانهم، حتى أخبرني أحد المهتمين بأن مسؤول في مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في إحدى الدول العربية أخبره بأنهم قدّموا طلبات للدول العربية لاستقبال لاجئين ومهجرين فلسطينيين من العراق فلم تقبل أي من الدول مما اضطرهم لطلب ذلك من دول أجنبية وهذا ما حصل حيث تم تهجير أكثر من (15000 فلسطيني) خلال السنوات الماضية لتلك الدول والله المستعان!!

من المهم أن نعرف بأن جميع الشرائع جاءت لتحافظ على مصالح الدنيا والدين، المبنية على كليات وضروريات خمس هي "الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال"، ولابد من معرفة ترتيبها وأولوياتها عند التزاحم والتعارض والموازنة فأعظمها "حفظ الدين" ثم "النفس" ثم "النسل" ثم "العقل" ثم "المال"، وهنالك خلاف في تفاضل العقل والنسل أيهما يقدم على الآخر، والأكثر على تأخير المال على الجميع.

فينبغي على كل مسلم أن يقدم ضرورية الدين على ما سواها إذا ما تعارضت أو تزاحمت مع غيرها، فإن "أهم هذه المقاصد المحافظة على الدين بل هو لب المقاصد كلها وروحها، وأسها وجذرها، وما عداه فهو متفرع عنه محتاج إليه، احتياج الفرع إلى أصله، لا يستقيم إلا به، ولا يؤدي ثمرته ويؤتي أكله إلا بتغذيته" (مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية، ص 192).

ولتأصيل القضية بشكل واضح ودقيق، وإدراكها بجميع حيثياتها، وبيان الملابسات وما يتعلق بها من أحكام ومفاهيم؛ لابد من معرفة مفهوم "الضرورة" وحقيقتها وحدودها ومدتها وأشكالها وشروطها، وما يصح منها وما لا يصح، واختلافها عن بعض المصطلحات القريبة منها وذات الارتباط، كالحاجة (الحاجة كما عرفها الشاطبي: ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المصلحة، فإذا لم تراع دخل المكلفين -على الجملة- الحرج والمشقة. الموسوعة الفقهية [16/247]) والحرج (الحرج في اللغة: بمعنى الضيق، ويطلق عند الفقهاء على كل ما تسبب في الضيق، سواء أكان واقعا على البدن أم على النفس أم عليهما معا، والصلة بين الضرورة والحرج أن الضرورة هي أعلى أنواع الحرج الموجبة للتخفيف. الموسوعة الفقهية [28/192]) والجائحة (الجائحة في اللغة الشدة، تجتاح المال من سنة أو قتنة، وهي مأخوذة من الجوح بمعنى الاستئصال والهلاك. الموسوعة الفقهية [15/67]. والجائحة قد تكون سببا للضرورة. الموسوعة الفقهية [28/193]) والعذر (العذر العام: هو الذي يتعرض له الشخص غالبا في بعض الأحوال... والصلة بين الضرورة وبين العذر أن العذر نوع من المشقة المخففة للأحكام الشرعية، وهو أعم من الضرورة. الموسوعة الفقهية [28/ 192]) والنازلة (قال في المصباح: النازلة المصيبة الشديدة تنزل بالناس. وفي القاموس: النازلة الشديدة. وفي الصحاح: النازلة الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس. غمز عيون البصائر شرح كتاب الأشباه والنظائر [4/133]) والمشقة (المشقة في اللغة: بمعنى الجهد والعناء والشدة والثقل. الموسوعة الفقهية [37/320]) والإكراه (الإكراه لغة: حمل الغير على شيء لا يرضاه... وقد يؤدي الإكراه إلى الضرورة كالإكراه الملجئ. الموسوعة الفقهية [28/ 193]) وغيرها.

والضرورة هي القاسم المشترك في قضيتنا وغيرها من المسائل، وعليها مدار الأحكام الاستثنائية والطارئة، وبموجبها يتحدد مناط الحكم ، لاسيما وقد تساهل بها كثير من المسلمين، ووسعوها بغير محلها، وفُتحَت على مصراعيها، فلابد من تصور تام شامل متكامل مبني على أسس شرعية رصينة بقواعد صحيحة، حتى لا تختلط الأمور وتنقلب الموازين.

فالضرورة اسم من الاضطرار، والاضطرار: الاحتياج الشديد. وعرفها الجرجاني: بأنها النازل مما لا مدفع له. وهي عند الفقهاء: بلوغ الإنسان حدًا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، كالمضطر للأكل واللبس بحيث لو بقي جائعا أو عريانا لمات، أو تلف منه عضو، وهذا يبيح المحرم (الموسوعة الفقهية [28/191]).

وعليه فإن أي مسلم بأي مكان خشي على دينه من الضياع والفتنة، ونفسه من الهلاك، وماله من الزوال، وعرضه من الانتهاك؛ ينبغي عليه بل يجب -بحسب الحاجة والحالة- ترك هذا المكان والانتقال لمكان آخر يحفظ فيه دينه ونفسه وعرضه وماله بحسب الأولويات.

قد لا يجد المسلم بديل أفضل من بلده أو وطنه أو مدينته، فعليه أن يتحرى الأقل ضررًا على دينه ثم بقية الضروريات، ولا يستعجل في اختيار حلول مريحة ماديًا ونفسيًا لكن ضررها الديني ظاهر، وعند تزاحم المفاسد فالواجب دفع المفسدة العظمى بتحصيل الصغرى، فهذه قاعدة جليلة عظيمة فلننتبه.

ولو أخذنا إنموذجًا: ما حصل للاجئين الفلسطينيين في العراق بالمجموع من ظلم واضطهاد مضاعف؛ فمن جهة تم تهجير معظمهم من العراق، ومن جهة أخرى لم يجدوا أي من الدول الإسلامية والعربية من يستقبلهم ويقدم لهم التسهيلات!! لتبدأ محنة جديدة ومأساة مخيفة ونهاية في الغالب غير حميدة، فلم يكن لهم بدٌ ولا سبيل إلا العيش في بلاد الغربة، ومجتمعات الكفر والإلحاد، ولسان مقالهم {لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ولسان حالهم (مكره أخاك لا بطل).

كل مسلم اضطر للإقامة في بلاد الغربة، أعرَف بنفسه من غيره لحجم الضرورة، ونسبة حاجته لذلك، {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:74-75] لكن لابد من تقوى الله عز وجل، ومراقبته في السر والعلن، واختيار الحكم المناسب في الوقت المناسب، ووضع الأشياء في نصابها، لأن الله عز وجل {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:40]، و {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران:3]، و{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119]، ويوم القيامة سيكشف المستور، وتظهر خفايا ما في الصدور، نعوذ بالله العزيز الغفور، من الحور بعد الكور.

أخيرًا على كل مسلم يعيش في مجتمعات الغربة التنبه لما يلي:
1- ضرورة الخوف من الله عز وجل، لأن هنالك يوم آخر وفيه حساب وعقاب، وجنة أو نار، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15]، ولابد أيضًا من طلب العلم الشرعي، والتفقه في دين الله عز وجل، "فالعابد الجاهل ما يفسد أكثر مما يصلح" (من أقوال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه) مع ضرورة الحيطة والحذر من التأثر بالعقائد والأخلاق والسلوكيات والعادات والتقاليد والمظاهر الاجتماعية المخالفة للإسلام في تلك المجتمعات.

2- كثرة اللجوء إلى الله عز وجل والدعاء والتضرع والتذلل للخلاص من هذه المحنة وتلك الضرورة، يقول عليه الصلاة والسلام «لا يغني حذر من قدر و الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل و إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان (أي يتصارعان ويتدافعان) إلى يوم القيامة» (حديث حسن، أنظر صحيح الجامع رقم 7739). ‌

3- التيسير أمر شرعي معتبر، فإذا تعارض مع أحد مقاصد الشريعة فلا يعتبر تيسيرًا شرعيًا، بل هوى وحظوظ النفس، يقول سبحانه وتعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]، فأنكر الله عليهم تبريرهم بالاستضعاف وما اعتبروه تيسيرا، لإصرارهم على البقاء في المجتمع الكافر، مع تمكنهم من مفارقته فتأمل.

4- الإقامة الضرورية والعيش في بلاد الكفر مؤقتة وليست دائمية، واستثنائية وليست أصلية، وطارئة وليست مستمرة، وينبغي على كل مسلم بذل قصارى جهده للتخلص من حالة الضرورة، والانتقال ولو تدريجيًا إلى بيئات أقل ضررًا وأنفع لدينه وذريته ولو على حساب بعض الامتيازات المادية، و «من ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه» (حديث صحيح، انظر حجاب المرأة ولباسها في الصلاة للشيخ الألباني ص47).

5- إباحة الإقامة في بلاد الكفر للضرورة، ليست من الطيبات ولا المستحبات، ولا مطلوب شرعًا لذاته، فلابد من استشعار هذا الأصل فإنه نافع جدًا، فمن لجأ للضرورة حتى يرفع الإثم عنه لعدم مخالفة مقاصد الشريعة الكلية، لا أنّ هذا الأمر سائغ ومحمود، فلا تُزكي تلك المجتمعات ولا تثني عليها، مع الإنصاف في الأحكام فتنبه.

6- لابد من التخلص بأسرع وقت من تلك الضرورة، والسعي الحثيث والجاد، لإيجاد بدائل وبيئات ملائمة ومناسبة، يحفظ فيها المرء عقيدته ودينه ويصون أخلاقه وذريته، لا أن يستسلم للقدر أو يتأقلم مع الواقع أو يرضى بوضعه الجديد، وكأنّ المشكلة زالت والقضية انتهت كلا وحاشا، ولنعلم جميعًا بأن المضطر إذا لم يَسعَ للخروج من الضرورة فإنه يأثم لأن الضرورة تقدر بقدرها كما هو مقرر، أعاذنا الله وإياكم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.

7- الضرورة يجب أن تقدر بقدرها، ومن جهة أخرى لابد أن تكون ضرورة حقيقية وفيها حرج كبير على الشخص، لا أن ينظر لها من باب المزاج والكسب المادي والراحة المعيشية والرفاهية في هذه الدنيا، وقد تكون هنالك بعض المشاق التي ممكن تحملها والصبر عليها، ولا داعي أن يتسرع الإنسان أو يخادع نفسه في حالات عدم الضرورة القصوى، فالحفاظ على الدين من أعظم المقاصد.

8- في تلك المجتمعات يجب البحث عن أماكن المسلمين وتجمعاتهم، والسكن قرب المساجد والحرص على الصحبة الصالحة الطيبة، مع ضرورة تعليم الأولاد تعاليم دينهم ولغتهم العربية، وبيان الحكم الشرعي الحقيقي لتواجدهم، لحين الخلاص الكلي من تلك الضرورة.

نفعنا الله وإياكم بما قلنا وكتبنا، وهدانا جميعا إلى صراطه المستقيم، إنه نعم المولى ونعم النصير.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أيمن الشعبان

داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.

  • 3
  • 0
  • 3,488
المقال السابق
(1) تأصيل لابد منه
المقال التالي
(3) مفهوم وحقيقة الهجرة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً