أثر الإيمان بالقدر في سلوك المؤمنين
إذا أيقن العبد أن النفع والضر بيد الله عز وجل، وأن الخلق ليس لهم من الأمر شيء تعلق قلبه بالله، وحرص على مرضاته، لا على مرضاة الناس فيتخلى عن الأساليب السيئة في تعامله مع الناس، فلا يكذب ولا ينافق، ولا يداهن ليصل إلى غرض دنيوي وهذا يورثه الصدق والاستقامة على أمر الله عز وجل.
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فقد تكلمنا في لقاء سابق عن الإيمان بالقدر باعتباره من أركان الإيمان، فلا يتم إيمان العبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن عمله لا يُقبل حتى يؤمن بالقدر، وإذا علمنا أن الإيمان قول وعمل، فإن للإيمان تأثيراً واضحاً على سلوك المؤمن وأخلاقه ومعاملاته، وللإيمان بالقدر خاصة أبلغ الأثر في هذا السلوك وهذه الأخلاق والمعاملات، فالمؤمن قريب من ربه عز وجل، يستشعر مراقبته سبحانه ويسعى في مرضاته في القول والعمل، والسر والعلن.
والإيمان بالقدر يملأ القلب رضاً بالله عز وجل وبدينه وبرسوله، ورضًا عن الله عز وجل في قضائه وابتلائه، فيتذوق حلاوة الإيمان ولا يرضى به بدلاً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً»[مسلم في كتاب الإيمان].
وقال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار»[متفق عليه].
ويتجلى تأثير الإيمان بالقدر في سلوك المؤمن في نواح شتى؛ أولها إتقان العمل وحسن التوكل على الله عز وجل، فالمؤمن كما قلنا حريص على ما ينفع به نفسه، وينفع به غيره في الدنيا والآخرة، حريص على دعوة الناس وهدايتهم إلى خيري الدنيا والآخرة، صابر على ما يناله من الأذى في سبيل مرضاة الله عز وجل، محتسب أجره على الله، مستعين بالله، غير عاجز ولا متوان ولا متواكل، وهذا هو المؤمن القوي حقاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان»[رواه مسلم].
وهو مع شدة حرصه على الأشياء النافعة في الدنيا والآخرة كالعلم النافع والعمل الصالح والسعي إلى تحقيق الريادة والتقدم في كل مناحي الحياة، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يأكل من الحلال الطيب ويأنف من كل حرام وخبيث، الغاية عنده لا تبرر الوسيلة فغايته كريمة، ووسائله لتحقيق غاياته شريفة، عفيف القلب، عفيف اللسان، لا يجهر بالسوء، ولا يعمل الفواحش، وهو مع هذا كله راض بما قسمه الله عز وجل له، وبما قدره الله عز وجل عليه، يصبر على البلاء ويشكر النعماء، كما قال نبينا: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابه سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابه ضراء صبر فكان خيراً له»[رواه مسلم].
لا يندم ولا يتحسر على ما فاته من رزق في الدنيا ولا يفرح ولا يتفاخر بما أعطاه الله عز وجل، ولا يقول مقالة الكافر بأنعم الله عز وجل: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}[القصص: من الآية 78]، وإنما يقول: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة: من الآية 54]، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ ت?فْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد: 22]، وهو في هذا كله معتمد على الله تعالى، يأخذ بالأسباب ويتعلق قلبه بمسبب الأسباب سبحانه وتعالى، ينازع أقدار الله بأقدار الله عز وجل، ويفر من قدرٍ إلى قدر كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين دخل الشام فبلغه أن الطاعون قد استشرى بأرضها، فأراد أن يرجع، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أتفر من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها، أفر من قدر الله إلى قدر الله ويعلم أن الدعاء يرد القضاء، فيلجأ إلى الله عز وجل يسأله التوفيق والثبات والهداية والرشاد ودفع الضر والبلاء.
ثانياً: السلوك المستقيم مع الآخرين
إذا أيقن العبد أن النفع والضر بيد الله عز وجل، وأن الخلق ليس لهم من الأمر شيء تعلق قلبه بالله، وحرص على مرضاته، لا على مرضاة الناس فيتخلى عن الأساليب السيئة في تعامله مع الناس، فلا يكذب ولا ينافق، ولا يداهن ليصل إلى غرض دنيوي وهذا يورثه الصدق والاستقامة على أمر الله عز وجل وإذا علم العبد أن أجله بيد الله عز وجل، وأن أقصى ما يناله منه عدوه وهو القتل إنما هو بتقدير الله عز وجل لا بيد أحد من الخلق أورثه ذلك شجاعة في مواجهة عدوه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}[النساء: من الآية 78]، وقال تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُـمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}[آل عمران: من الآية 154].
وإذا علم العبد كذلك أن ما يقع من الناس في حقه من تقصير أو إساءة إنما هو بتقدير من الله عز وجل أورثه ذلك رغبة في العفو عمن ظلمه أو أساء إليه أو قصر في حقه، ويتجلى هذا في سلوك النبي حيث كان يصبر على الأذى ويدفع بالتي هي أحسن فكان لا ينتقم لنفسه قط، فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله عز وجل وكثيراً ما قال النبي عند تعرضه للأذى: «يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ وكان بعض أهله إذا لامني يقول: «دعوه فلو قضي شيء لكان».
ثالثاً: الجمع بين الخوف والرجاء
المؤمن بالقدر يعبد ربه خ?فاً وطمعاً؛ لأنه يعلم يقيناً أن العبرة بالخواتيم، وأن السعيد من عباد الله عز وجل من هيأ الله له أسباب السعادة، وكتبه من السعداء، وأن الشقي من شقي في بطن أمه، وأن العبد قد يعمل بعمل أهل الجنة فيما يرى الناس ثم يختم له بعمل يؤدي إلى النار فيخاف من سوء الخاتمة، وقد يعمل بعمل أهل النار ثم يتوب الله عليه فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، فيطمع في عفو ربه وفي جنته.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم وكذلك كان أنبياء الله ورسله يجمعون بين الخوف والرجاء، قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء: 89]، وكان رسول الله يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ»[رواه النسائي].
«فَوَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا»[مسلم في كتاب القدر].
هذا وقد ترجم البخاري في كتاب الرقاق من صحيحه باب الرجاء مع الخوف وذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار».
رابعاً: الحرص على الرزق الحلال
لا شك أن أمر الرزق يشغل عامة الناس، وكذلك أمر الأجل، والمؤمن المتوكل على الله لا ينشغل كثيرًا بهما؛ لأنه مطمئن تمامًا إلى أن الرزق مقسوم، والأجل معلوم، فلا يملك أحد أن ينقص من رزقه، كما لا يملك أحد من الخلق أن يغير أو يقدم أجله، وهذا لا يعني أن يهمل المتوكل أمر السعي لطلب الرزق، وأن ما أصابه من خير لا يمكن أن يخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولهذا فهو لا يقتل ولده من إملاق أو خشية إملاق؛ كما فعل أهل الجاهلية الأولى، ولا يمنع نسله ويجهض امرأته؛ كما يفعل بعض الناس في العصر الحديث، وإنما يتعامل مع النسل على أنه رزق من عند الله، قد كفله الله، ولكنه يأخذ بالأسباب لتحسين مستوى النسل، ورفع مستوى الفرد، وتعليمه وتثقيفه بما يحقق نفعه في الدنيا والآخرة وهذه مسئولية الرجل في بيته وأسرته، ومسئولية المرأة في بيتها مع أولادها، ومسئولية المعلم مع تلامذته، ومسئولية الحاكم في المجتمع المسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته» الحديث..
والمؤمن في أمر الرزق لا يركن إلى الحرام، فيسعى إلى كل كسب طيب، ويبتعد عن سبل الكسب الخبيث، وقد علم أن رزقه لن يخطئه أبدًا، فلماذا يحرص على الحرام ويستكثر منه مادام أن الرزاق قد كفل له رزقه، وهو كذلك لا ينشغل عن آخرته بسعيه لأجل دنياه، بل يحرص على الخيرات، ويسابق إلى الطاعات؛ لأنه يتطلع إلى الحظ الأوفر، والنصيب الأعظم من الرزق المقسوم؛ ألا وهو الجنة، فيطمع في الفردوس الأعلى، ويسأل ربه التوفيق والمعونة؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، فوقه عرش الرحمن منه تفجر أنهار الجنة»[رواه البخاري].
لقد وثق المسلمون الأوائل بوعد الله، واطمأنوا إلى كفايته، فبذلوا الأموال والأرواح في سبيل الله، شوقًا إلى الجنة، وخوفًا من النار، حتى جاء الصديق في غزوة العسرة بماله كله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» فقال: "أبقيت لهم الله ورسوله "[متفق عليه].
ومع أهمية الرزق فهو ليس ما يطلبه الناس من أمر الدنيا فحسب، فالرزق أشمل وأعم من المال أو المتاع، ولهذا يحرص المؤمن المتوكل على طلب الزوجة الصالحة ذات الدين التي تعينه على أمري الدنيا والآخرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فاظفر بذات الدين تربت يداك»[متفق عليه].
وكذلك يحرص المؤمن على طلب الذُرية الصالحة التي تقر بها عينه وترثه من بعده في عمارة الأرض، وعبادة الله سبحانه، فيلحقه من عملها ودعائها بعد موته الخير الكثير، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وقال زكريا عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}[آل عمران: من الآية 38]، ومن فضل الله ورحمته أن جعل عمل الذرية الصالح ودعاءها في ميزان الآباء، وألحق الأبناء بالآباء، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}[الطور: 21]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»[رواه مسلم].
وأفضل ما يحرص عليه المؤمن بعد الإيمان واليقين أن يرزقه الله العافية في الدنيا والآخرة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، سلوا الله العافية، فإن أحدًا لم يُعط بعد اليقين خيرًا من العافية»[رواه أحمد والترمذي].
والمؤمن يعلم يقيناً أن الآجال مضروبة وأن الأرزاق مقسومة، وأن الله عز وجل هو الرزاق ذو القوة المتين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}[فاطر: 3].
ولهذا فهو يسعى في طلب الرزق آخذاً بالأسباب المباحة وقد تعلق قلبه بالرزاق فاطمأن أن الرزق مكفول مضمون، فطلب الرزق بغير استشراف نفس ولا ركون إلى دنيا متمثلاً قول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأ?لها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، ولتنكح فإنه يأتيها ما قُدر لها» وسمع النبي أم حبيبة رضي الله عنها تقول: اللهم متعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها رسول الله: «إنك سألت الله لآجال مضروبة، وآثار موطوءة، وأرزاق مقسومة، لا يعجل شيئا منها قبل حله، ولا يؤخر منها شيئا بعد حله، ولو سألت الله أن يعافيك من عذاب في النار وعذاب في القبر لكان خيرًا لك»[أخرجه مسلم في كتاب القدر].
خامساً: مشاهدة القدر
والمؤمن بقدر الله عز وجل يعلم يقيناً أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، فيصبر ويثبت عند المصائب التي لا يملك لها دفعاً قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[التغابن: 11]. وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 155] فيشهد المؤمن قدر الله عند المصائب فيرضى ويُسلم ويقول مقالة الحبيب محمد: «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا».
وكذلك يرى الهداية والتوفيق للطاعة، فلا يرى لنفسه حسنة، ولا يدخل العُجب إلى قلبه، بل يرى منة الله عز وجل عليه أن وفقه وهداه، وفي المقابل يرى قصور نفسه وعجزها عن الوفاء بحقوق العبودية، ولقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون:
والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا
قال ابن القيم: حق الله في العبادة ست: الإخلاص، المتابعة، النصح، الإحسان، شهود منة الله تعالى، ومطالعة عيب النفس، أما في الذنوب والمعاصي فلا يحتج بقدر الله تعالى عليها ليبرئ نفسه، بل يعود على نفسه باللوم والتأنيب، ويحملها على التوبة والإنابة، فإذا تاب وأناب فليس لأحد كائنًا من كان أن يلومه على ذنب تاب منه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عليهما السلام عِنْدَ رَبِّهِمَا فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الذي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ في جَنَّتِهِ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الأَرْضِ، فَقَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ، وَأَعْطَاكَ الأَلْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيءٍ، وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا، فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِى عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلاً كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَىَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى».
والحمد لله ربِّ العالمين.
جمال المراكبي