تشديدات القرآن - (6) لَيُبَطِّئَنَّ، لَيُبْطِئَنَّ (1 /2)

منذ 2014-08-20

إن الضعيف قوي في شيء واحد، والكسول نشيط في شيء واحد فقط، هو إخماد جذوة النشاط في النشطاء، ليكونوا سواء، ولا يتحرك السُّكوني إلا لتسكين الحركي؛ لأن نشاطهم بجانب كسله حجة عليه وإحراج له، فلا يجد إلا أن يشرعن قعوده، ويُفلسف كسَلَه، ويَتَمَنْهَج بتثاقله في نفسه وتثبيطه لغيره وتبطئتهم، واختراع الطرق وافتعال الأسباب، وإثارة الأحداث، واصطناع الأدلة وتوليدها من عقيم، ولَيّ أعناق النصوص ليتحَكَّم فيها لا ليتحاكم إليها!

قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا}[ النساء:72-73].
وكعادتنا في هذا البحث نقصد الكلمات التي تعددت فيها القراءة بالتضعيف (التشديد) والتخفيف، فيتعدد المعنى أو يزداد.
فأكيد ظهر للقارئ أن المقصود هنا هو كلمة: {لَّيُبَطِّئَنَّ}، ومع ذلك لا نستطيع تجاوز بعض اللطائف واللفتات الملتصقة بها.
فهذه الكلمة {ليبطئنَّ} فيها قراءتان:
ففي قراءة الجمهور بفتح الباء وتشديد الطَّاء: {لَّيُبَطِّئَنَّ}.
وقرأها مجاهد والنخعي والكلبي: {لَيُبْطِئَنَّ}؛ بإسكان الباء وتخفيف الطاء(1).
وفي قراءة شاذّة بضم الهمزة: {لَّيُبَطِّئُنَّ}(2)، والقراءة الشاذة إذا صح سندُها ولم يتواتر فإنها تؤخذ من باب أنها تفسير، لا من باب أنها قرآن يُتلى.
فنناقشها على القراءتين الأوليين، بالتخفيف والتضعيف، وقد تناول المفسرون الآية من عدة حيثيات:
1- دلالة الفعل ومعناه من حيث التعدِّي واللزوم.
2- دلالة الشدة والتخفيف في الطاء على المعنى التربوي.
3- دلالة اللامات وتعدُّد التأكيدات في: {إنَّ} و{لَمن} و{ليبطئن}.
4- في دلالة {منكم}؛ أهي في المؤمنين أو في المنافقين؟

أولا: دلالة الفعل معنًى ومبنى:
أ‌- دلالة معنى الفعل على التعدِّي واللزوم:

أعني هل فعل {ليبطئن} لازم، ولا يحتاج إلى مفعولٍ به، فيكون الفاعل فَعل بنفسه وفي نفسه، بمعنى أنه بطَّأ نفسه، ووتباطأ وتثاقل وقعد عن العمل والجهاد والعبادة والدعوة، وركن إلى الدعة والراحة والسكون، واستبدل المكرمات بعيش الدون والسُّفول والصّغار.

أم إن الفعل في {ليبطئن} متعدٍّ إلى مفعول به، والمفعول بهم هم الذين يقع عليهم تثبيط المثبِّطين؛ فيكون هذا الشخص لم يكتفِ بأن قعد واثَّاقل في نفسه، وإنما راح يقيم دعوةً لتثبيط الناس عما ينبغي ويجب، فتحمَّل وزره وأوزارهم؛ لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا!

قال أبو حيان: "والقراءتان يحتمل أن يكون الفعل فيهما لازما، لأنهم يقولون: أبطأ وبطأ في معنى بطؤ، ويحتمل أن يكون متعديًا بالهمزة أو التضعيف من بَطُؤ، فعل اللزوم المعنى أنه يتثاقل ويثبط عن الخروج للجهاد، وعلى التعدي يكون قد ثَبَّط غيره وأشار له بالقعود، وعلى التعدي أكثر المفسرين"(3).

ب‌- دلالة التشديد والتخفيف على تعدِّي الفعل أو لزومه:

الحقيقة أن تشديد الطاء في قراءة الجمهور يلازمه فتح الباء قبلها: {لَّيُبَطِّئَنَّ}، أما تخفيف الطاء في قراءةِ مجاهدٍ وغيره فيلازمها إسكان الباء قبلها: {لَيُبْطِئَنَّ}.

ولعل إشكال التعدِّي واللزوم ينحل بصياغة الفعل نفسه، فعلى قراءة التضعيف {لَّيُبَطِّئَنَّ}، تعني التعدِّي، فيكون الفاعل أو اسم الفاعل منها، مُبَطِّئ، كمُسَرِّع، ومُفَسِّر، ومُبَدِّل، ومُعَرِّف، ومُعَطِّل ومُثَبِّط، ونحوها... وأفعالها: ليُبَطَّئَنَّ؛ كليُفَسِّرَنَّ، ولَيُبَدِّلَنَّ، ولّيّعَرِّفَنَّ، ولَيَيُعَطِّلَنَّ، ولَيُثَبِّطَّنَّ، ولَيُسَرِّعَنَّ غيره، وظاهرٌ أنها بهذا أفعال متعدية.

وفي الحديث: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»(مسلم؛ في صحيحه، برقم:[ 2699]). وفي رواية: «ومن أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه»(أحمد؛ المسند، برقم:[ 7427]).

وبطَّأ وأبطأ بمعنى واحد، هو ضد الإسراع، وهو واضح أنه بطَّأ بالرجل عملُه، وأبطأ به، وصياغتها على نحو التالي يوضحها؛ فنقول: بطَّأ العملُ بصاحبه، وأبطأ العملُ بصاحِبِه؛ أي: بطَّأ العملُ صاحبَه، وأبطأ العمل صاحبَه، كأسمعَ الشيخُ التلميذَ، فالفعل (بطَّأ) بتشديد الطاء متعدٍّ. ولم يقل: بطأ الرجلُ، أو أبطأ الرجلُ، فليس لازمًا.

فعلى هذه القراءة يكون هذا المبطِّئ بطَّأ غيره وثبَّطه، ولا يُنتظر منه أن ينفر بعد ذلك، فسبق البطْءُ التبطئةَ.

وعلى قراءة التخفيف {لَيُبْطِئَنَّ}، كَيُسْرِعَنَّ، مِثْلًا في الوزن، وضِدًّا في المعنى. فأسرع الرجل، فعل لازم، ولم يُسَرِّع غيره.
فهنا {منكم لمن يُبْطِئَنَّ}، ويثَّاقلنَّ، أي يتباطأ ويتثاقل، فلا يخرج لجهاد ولا دعوة ولا عبادة، كما يفعل المنافقون الذين لا يقومون للصلاة إلا كسالى، ولا يقيمهم إلا مراءاة الناس، والرغبة فيما أيديهم، أو الرهبة منهم.

فاستفدنا من القرائتين أن هذا الفريق متباطئ في نفسه، ولم يكتفِ، بل ذهب يُشرك الناس في فعاله ويُبِّطهم، وكما قيل: ودت الزانية لو أن كل الناس زَنَوْا!!

ثانيًا: دلالة التشديد والتخفيف على المعنى التربوي التوجيهي:

استفدنا مما سبق ومن خلال القراءتين أن هذا المبطِّئ تباطأ هو واثَّاقل، ثم هو يسعى في الناس يُبَطِّئهم ويقعدون بكل صراط يَعِدُون ويتوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن يبغونها، وقد نهى الله عنه بقول: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف:86].

ومن خلال قراءة التشديد، ترتسم لك صورة أولئكم الناس، وتتجسد فِعالهم، وهم يشْتَدُّون في الناس ويشتطُّون، يُخذِّلونهم عن الخير، في كل مجال بِحَسَبِه، فإن كان الجهاد في سبيل الله، تراهم لا يَدَّخرون جهدًا في صدِّ الناس عنه، بالتخويف من الموت مرة، ومن العدو أخرى، وتخويفٍ على الأهل والمال تارة، والمناصب والوظائف أخرى.. أو يثبطونهم ببث الشبهات والأراجيف، أو بالقدوة السّيئة فيدخلون في الصف ثم يخرجون منه، ليأخذوا معهم قطاعًا من الضِّعاف، ويفتنوا قلوبهم، ويَفُتُّوا عضدهم، ويشُقُّوا صفَّهم، كما كانوا يتآمرون في الصدر الأول: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[آل عمران:72].

وإن كانت هذه قد نزلت في الجهاد، ولكنها تعمُّ وتشمل كل بابٍ من أبواب الخير؛ من طلب العلم أو إقامة درس أو إنشاء منبر تُبَلَّغ فيه الدعوة، أو الإنفاق المالي في سبيل الله على اليتيم والفقير، وفي مشاريع المسلمين الخيرية، أو إغاثة ملهوف، وكل باب خيرٍ، من تجهيز غازٍ إلى سقي قطٍّ عطشان.

قال المفسرون: "وفائدة هذا التشديد تكرر الفعل منه"(4)، فسبحان الله؛ بعض الناس من أهل التثبيط والتبطئة يتوفرون على بعض ما ذكر الحديث من صفات: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟! فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَل؟! فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال؟! فعصاه فجاهد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك كان حقًّا على الله عز وجل أن يدخله الجنة. ومن قتل كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة. وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وَقَصَتْهُ دابتُهُ كان حقا على الله أن يدخله الجنة»(الألباني؛ السلسلة الصحيحة، برقم:[2979]). فانظر إلى كثرة الطرق التي يقعدون فيها، وكثرة سُبُل الخير التي يصدون عنها، وشدة الجهد المضني الذي يبذلونه، وتعدد الشبهات والشهوات والمخاوف التي يطلقونها ويبثونها، من أجل التثبيط، ولو أنهم اتقَوْا وبذلوا معشار هذا في طريق واحد من طرق الخير لها لكان خيرًا لهم حالا ومآلا.

ففائدة هذا التشديد لبيان شدة التثاقل كما مرة معنا في حلقة: {اثَّاقلتم}، وشدة الحرص والسعي في تثبيط الناس عن الخير، لأن الضعيف قوي في شيء واحد، والكسول نشيط في شيء واحد فقط، هو إخماد جذوة النشاط في النشطاء، ليكونوا سواء، ولا يتحرك السُّكوني إلا لتسكين الحركي؛ لأن نشاطهم بجانب كسله حجة عليه وإحراج له، فلا يجد إلا أن يشرعن قعوده، ويُفلسف كسَلَه، ويَتَمَنْهَج بتثاقله في نفسه وتثبيطه لغيره وتبطئتهم، واختراع الطرق وافتعال الأسباب، وإثارة الأحداث، واصطناع الأدلة وتوليدها من عقيم، ولَيّ أعناق النصوص ليتحَكَّم فيها لا ليتحاكم إليها!

والآية نزلت في الجهاد، لكنها عامة بعموم لفظها، حتى أن الله تعالى لم يذكر لفظ الجهاد فيها، لتعم كل أنواع العمل الصالح وأبواب الخير.

فكم نرى أناسًا يُحَذِّرون إخوانَهم حتى مِن إقامة درس في مسجد، أو تعليق ورقة في حائط مسجد فيها نصيحة للمسلمين، بينما إذا تمرَّد الأخ عن تثبيطهم ورأوْا لفعله قَبولًا حسنًا وأثرًا طيبًا إذا هم يقعون في نحو قوله تعالى: {ياليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا}، بل قد يذهب بعضهم يسترق جهد الناس، ويتعرض لمحامد الناس بأنه من هذه الطائفة، وأنه أبٌ فيها مُرَبٍّ، أو ابنٌ لها بار، وكما قال تعالى في بعض الناس: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران:188].

أمَّا إن أصابك شيء من العنت أو مسَّك البلاء فإذا هم يقولون:ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من هذا أو ذاك؟!
سبحان الله، بعض الناس أخلاقهم القرآن فيما أمر به، وبعضهم أخلاقهم فيما نهى عنه!

يقول سيد قطب: "ولفظة {ليبطئن} مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثّر، وإن اللسان ليتعثر في حروفها وجرسها، حتى يأتي على آخرها، وهو يشدها شدًّا، وإنها لتُصَوِّر الحركةَ النفسية المصاحبة لها تصويرًا كاملًا بهذا التعثر والتثاقل في جرسها. وذلك من بدائع التصوير الفني في القرآن، الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة"(5).

ويقول سيد طنطاوي: "والتعبير بقوله {لَيُبَطِّئَنَّ} تعبير في أسمى درجات البلاغة والروعة، لأنه يصور الحركة النفسية للمنافقين وضعاف الإيمان وهم يشدون أنفسهم شدًّا، ويقَدِّمون رِجلًا ويؤخرون أخرى عند ما يدعوهم داعي الجهاد إلى الخروج من أجل إعلاء كلمة الله"(6).
ويتبع إن شاء الله تعالى
---------هوامش---------
(1). انظر: القرطبي؛ الجامع لأحكام القرآن:5/276، وأبا محمد مكي بن أبي طالب؛ الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره:2/ 1385].
(2)- أبو حيان: البحر المحيط في التفسير:1/704.
(3)- أبو حيان؛ البحر المحيط في التفسير:1/91]
(4)- الرازي؛ مفاتيح الغيب:10/138-139.
(5)- سيد قطب؛ في ظلال القرآن: 2/706.
(6)- محمد سيد طنطاوي؛ التفسير الوسيط:3/205.
 

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 0
  • 0
  • 4,418
المقال السابق
التشديدة (5): لا تَعَدُّوا كيهود!
المقال التالي
(6) لَيُبَطَّئَنَّ.. لَيُبْطِئَنَّ (2/ 2)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً