ابن تيمية و(المرازقة)
عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
المرازقة طلبوا شيئاً من ابن تيمية، ويحتمل أنهم طلبوا أن يوافقهم على رأيهم، فكان ردّه عليهم في غاية القوة والظرافة، فقد عاملهم بنقيض قصدهم الخاطئ، حيث امتنع عن مطلوبهم حتى يقولوا قطعاً، ويحتمل أن لهم حاجة عند ابن تيمية، فأبى أن يحققها لهم حتى يقولوا قطعاً، وقد جرت عدة وقائع لابن تيمية مع مخالفيه، فكان يقضي حوائجهم وفي نفس الوقت يكشف عوار مذهبهم بطريقة ذكية عجيبة كما بسط في موضعه..
- التصنيفات: مذاهب باطلة - النهي عن البدع والمنكرات -
اجتمع ابن تيمية بطائفة من المرازقة التي تنكر أن يقال: "قطعاً" في شيء من الأشياء، مع غلو في الاستثناء في الإيمان [1]؛ فأنكر عليهم ذلك، وامتنع عن فعل مطلوبهم حتى يقولوا: قطعاً، وأحضروا له كتاباً فيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقول الرجل: قطعاً، وهي أحاديث موضوعة مختلَقة [2]، فشيخ الإسلام أنكر عليهم هذا الغلو والتنطع لما زعموا أنه لا يقال: "قطعاً في شيء من الأشياء، فالماء الذي يشربونه يقولون عنه: لا نقطع أنه ماء"!
وبيَّن ابن تيمية غلطهم في الاستثناء في الإيمان، فإن السلف الصالح يستثنون في الإيمان باعتبار الإيمان المطلق الذي يتضمن فعل جميع المأمورات وترك جميع المحظورات، فجاء المرازقة فبالغوا في ذلك الاستثناء، فصاروا يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم عن الثوب الذي يرتديه: "هذا ثوب إن شاء الله"!
وتشير هذه الواقعة إلى أن المرازقة طلبوا شيئاً من ابن تيمية، ويحتمل أنهم طلبوا أن يوافقهم على رأيهم، فكان ردّه عليهم في غاية القوة والظرافة، فقد عاملهم بنقيض قصدهم الخاطئ، حيث امتنع عن مطلوبهم حتى يقولوا قطعاً، ويحتمل أن لهم حاجة عند ابن تيمية، فأبى أن يحققها لهم حتى يقولوا قطعاً، وقد جرت عدة وقائع لابن تيمية مع مخالفيه، فكان يقضي حوائجهم وفي نفس الوقت يكشف عوار مذهبهم بطريقة ذكية عجيبة كما بسط في موضعه [3].
وقد وَصَف الحافظُ الذهبي ابنَ تيمية فقال: "له محبّون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبّه، لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً، بلسانه وقلمه" [4].
والمرازقة ينتسبون إلى أبي عمر عثمان بن مرزوق القرشي الحنبلي (ت 564 هـ)، عُرف بالصلاح والتقى والديانة، وله كرامات ومقامات [5]، ولما مات أحدث أتباعه جملة من الغلو والإفراط، ومن ذلك الغلو في الاستثناء في الإيمان [6]، وقد أشار ابن تيمية إلى أثر يحتجون به لمذهبهم، فإنهم يروون عن علي رضي الله عنه وبعضهم يرفعه للنبي صلى الله عليه سلم أنه قال: «لا تقل قطعاً»! فقال ابن تيمية: "وهذا من الكذب المفترى باتفاق أهل العلم" [7].
وقال الذهبي عنهم: "يحتجون بحديث «إن من تمام إيمان العبد أن يستثني في حديثه»، وهذا حديث باطل قد يحتج به المرازقة الذين لو قيل لأحدهم: أنت مسيلمة الكذاب لقال: إن شاء الله" [8]! والحاصل أن ابن تيمية قد أنكر على هؤلاء المرازقة، بل قرر أن هؤلاء الذين يستثنون في الأشياء المقطوع بها، مبتدعةٌ ضلال جهال [9].
يستوقفنا في موقف ابن تيمية من كتاب المرازقة أنه كشف ما فيه من الكذب والاختلاق، إذ القوم أصحاب جهل وغلو، وليس عن زندقة وتعمد كذب، وأما كتاب اليهود الذي زوّقوه وعتّقوه وزوّروه في إسقاط الرسول صلى الله عليه وسلم الجزية عن يهود وخيبر، وطلب من ابن تيمية أن يعين على العمل به، فعندئذ بصق على الكتاب، واستدل على كذبه بعشرة أوجه [10]، فالحاصل أن ابن تيمية يراعي مراتب الشرور، فالكتاب الأول اقتصر فيه على بيان كذب الأحاديث، وأما كتاب اليهود فهو طعن في دين الله، وعن تحريف متعمد، وكذب متقصّد؛ فاستحق البصاق قبل الجواب.
وكان ابن تيمية في غاية الإشفاق والإنصاف لهؤلاء القوم -المرازقة-، فقد قال عنهم: "هؤلاء قوم مسلمون لهم ما لأمثالهم من المسلمين، يثيبهم الله على إيمانهم بالله ورسوله، وطاعتهم لله ورسوله، ولا يذهب بذلك إيمانهم وتقواهم بما غلطوا فيه من هذه المسائل، كسائر طوائف المسلمين الذين أصابوا في جمهور ما يعتقدونه ويعملونه، وقد غلطوا في قليل من ذلك" [11].
ومع أن ابن تيمية قد سبر مزالقهم، وتعقّب مآخذهم، وفنّد غلوهم، بل ألّف رسالة مفردة في (كشف حال المرازقة) [12]، لكن رسوخه في العلم وتجرّده في العدل أورثه هذه الرحمة والإشفاق، وهكذا كلما ازداد الشخص علماً ازداد عدلاً وإنصافاً وموضوعية.. نعود إلى الحديث عن مزالق المرازقة، فمن أشنعها: (تكفيرهم طوائف المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم).
وأجاب ابن تيمية عن ذلك بقوله: "فإن هذا عظيم لوجهين: أحدهما: أن تلك الطائفة الأخرى قد لا تكون فيها من البدعة أعظم مما في الطائفة المكفِّرة لها، بل تكون بدعة المكفِّرة أغلظ، أو نحوها، أو دونها.. وهذا حال عامة أهل البدع الذي يكفِّر بعضهم بعضاً.
والثاني: أن لو فرض أن إحدى الطائفتين مختصة بالبدعة لم يكن لأهل السنة أن يكفّروا كل من قال قولاً أخطأ فيه، فإن الله سبحانه قال: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا...} [البقرة:286]، وثبت في الصحيح أن الله قال: «قد فعلت»، وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنه ليس كل من قال قولاً أخطأ فيه أنه يكفر بذلك، وإن كان قوله مخالفاً للسنة، فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع" [13].
والمقصود أن تكفير المرازقة مخالفيهم من أهل الإسلام شنيعٌ جداً؛ إذ المخالف لهم قد يكون مصيباً، وقد تكون بدعته أقلّ وأخف من بدعة المرازقة المكفِّرة، ثم لو ثبت أن مخالفهم مبتدع، فهذا لا يسوّغ تكفيره، فتكفير كل مخطئ مخالفٌ للدليل، وهكذا أئمة أهل السنة -ومنهم ابن تيمية- يخطّئون ولا يكفّرون، وابن تيمية كان من أعظم الناس نهياً عن التكفير والتفسيق، لكن انتقاده للمرازقة بعلم ودليل، لا بشتم وتهويل، فإن التحذير من مزلق التكفير الغالي لا يتحقق بالمبالغة والسباب والتجريح لمن تلبّس به، فإن ذلك لا يرفع شبهة، ولا يدفع شهوة، والبدعة لا تردّ بالبدعة.
ثم إن جهالة المرازقة هي التي أوقعتهم في تكفير سائر المسلمين، فالرد عليهم بالبرهان والدليل من نصوص الوحيين هو الذي يرفع الجهل والشبهة، ويحقق المودة والرحمة لأهل الإسلام، ومما يؤخذ على المرازقة دعواهم أن توبة سابّ الصحابة لا تقبل، وقد أبطل ابن تيمية ذلك بقوله: "بل الذي عليه السلف والأئمة أن توبة الرافضي تُقبل كما تقبل توبة أمثاله، والحديث الذي يروى «سبّ صحابتي ذنب لا يغفر» حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولو قدّر صحته فالمراد به من لم يتب، فإن الله يأخذ حق الصحابة منه، وأما من تاب فقد قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا...} [الزمر:53]، وهذا في حق التائب أخبر أن يغفر جميع الذنوب" [14].
وهكذا فالغلو والتشدد لا ينفك عن جهل كثيف، فالقوم حجّروا واسعاً، وزعموا أن توبة المبتدع لا تُقبل، وهذا التشديد باعثه حديث مكذوب.. فجاء الرد بهذا الدليل القاطع الصريح: {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}.
ولم يكتفِ المرازقة بهذا الشطح، بل نبزوا من قال بتوبة سابّ الصحابة بـ"الرجوية" [15]، وهذا التنابز بالألقاب هو من تفريق الأمة بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، بل هو من مسالك أهل الأهواء والغلو والجفاء -كما هو مبسوط في موضعه-، ومِن تعنّت المرازقة أنهم لا يصلون إلا مع مَن يتحققون عقيدته، وربما امتحنوا إمام الصلاة في عقيدته، وقد يقول أحدهم: لا أسلم مالي إلا لمن أعرف، ومقصوده: لا أصلي خلف من لا أعرف، كما لا أسلم مالي إلا لمن أعرفه [16]، ولما سئل ابن تيمية عن ذلك قال: "تجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، فمن قال: لا أصلي جمعة ولا جماعة إلا خلف من أعرف عقيدته في الباطن، فهذا مبتدع مخالف للصحابة والتابعين وأئمة المسلمين" [17].
وقال في موطن آخر: "ليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أنه يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف مستور الحال، وقول القائل: لا أسلم مالي إلا لمن أعرف.. إلخ، كلام جاهل لم يقله أحد من أئمة الإسلام، فإن المال إذا أودعه الرجل المجهول فقد يخونه فيه، وأما الإمام فلو أخطأ أو نسي لم يؤاخذ بذلك المأموم" [18].
ثم صرّح ابن تيمية بأن مقالتهم تحاكي مذهب الرافضة، فقال: "ومن أنكر مذهب الروافض وهو لا يصلي الجمعة والجماعة، بل يكفّر المسلمين؛ فقد وقع في مثل مذهب الروافض، فإن من أعظم ما أنكره أهل السنة عليهم تركهم الجمعة والجماعة، وتكفير الجمهور" [19]، وبالجملة: فالشيطان إما أن يوقع الشخص والطائفة في الإفراط أو التفريط، والنَفَس الغالي الذي لحق المرازقة يقترن به الجهل والاحتجاج بأحاديث مكذوبة، وقسوة على أهل الإسلام، وتكفيرهم وتبديعهم، والتنطع والتشدد في عدة مسائل، وتفريق الأمة وامتحانها بما لم يشرعه الله.
ثم إن الغلو يلازمه التفريط والإضاعة كما شوهد وجُرّب، فالمرازقة شددوا فكانوا لا يصلون إلا خلف من عرفوا عقيدته وامتحنوه! فأورثهم ذلك ترك الجمعة والجماعات، وتضييع الصلوات، ونفرتهم المفْرِطة من الروافض، إذ قالوا إن توبة الرافض لا تقبل؛ أعقبه تشبه بالرافضة في التكفير لأهل الإسلام، وكذا غلوهم في الاستثناء في الإيمان خوفاً من تزكية نفوسهم -على حد فهمهم- آل بهم إلى الاعتداد بأنفسهم، والازدراء لغيرهم، حتى إنهم يمتنعون عن مناكحة بعض أهل الإسلام، لاعتقادهم أنهم ليسوا أكفاءً لهم [20].
ومع ذلك، فإن مخاطبتهم بالعلم والبرهان، ومناظرتهم بالقرآن والسنة، مع الرحمة والإشفاق، والعدل والإنصاف هو الذي أذهب ذلك الغلو والإفراط، فصارت تلك الآراء مغمورة مطمورة وأثراً بعد عين، فالحمد لله على ظهور الإسلام والسنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:: مجلة البيان العدد 314 شوال 1434هـ، أغسطس - سبتمبر 2013م.
[1] الاستثناء في الإيمان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
[2] انظر: الإيمان ص 415.
[3] كما في هذه الحكاية الطريفة التي سطرها ابن تيمية قائلاً: «كان عندي من هؤلاء النافين (للعلو) من هو من مشائخهم وهو يطلب مني حاجة، وأخّرت قضاء حاجته حتى ضاق صدره، فرفع رأسه وطرفه إلى السماء وقال: يا الله. فقلت له: لمن ترفع رأسك وطرفك! وهل فوق عندك أحد؟ فقال: أستغفر الله. ورجع عن ذلك لما تبيّن له أن اعتقاده يخالف فطرته، ثم بيّنت له فساد هذا القول، فتاب من ذلك»، الدرء 6/ 343 = باختصار.
[4] الانتصار لابن عبد الهادي، ت: الجليند، ص 178.
[5] ينظر ترجمته في الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب، 1/306-311.
[6] انظر: مجموع الفتاوى 8/421.
[7] مجموع الفتاوى 7/680.
[8] الميزان: 4/ 134.
[9] انظر: مجموع الفتاوى 8/425.
[10] انظر تفصيل ذلك في زاد المعاد 3/235.
[11] الفتاوى 4/540 لم يحدد السؤال في الإحالة السابقة- أنهم المرازقة، وكذلك ابن تيمية لم ينصّ على ذلك، مع أن المآخذ المذكورة في السؤال والجواب هي مآخذ المرازقة كما أثبتها ابن تيمية في المواطن الأخرى، ويبدو أن ابن تيمية ليس حريصاً على تعيينهم والتشهير بهم، إذ القوم أهل إسلام وسنّة -بالجملة- وصوابهم يربو على غلطهم.
[12] ذكرها غير واحد ممن ترجم لابن تيمية؛ انظر: الجامع لسيرة ابن تيمية ص 297، 320. ولعل هذه الرسالة هي جوابه عن بدعة المرازقة، كما في مجموع الفتاوى 7/680 -680، 23/351 - 356.
[13] مجموع الفتاوى 7/ 684، 685 = باختصار.
[14] الفتاوى 4/ 541، باختصار، وانظر الفتاوى 7/683، 11/684، 16/ 23.
[15] لعل هذا النبز بـ«الرجوية» قريب من اسم «المرجئة»، ويجمعهما أن الرجوية يرجون أن يغفر لكل من تاب، كما أن المرجئة يقتصرون على نصوص الرجاء.. والله أعلم.
[16] ينظر: الفتاوى 4/ 540، 23 / 351.
[17] الفتاوى 4/542.
[18] الفتاوى 23/351، 352.
[19] الفتاوى 23/355.
[20] انظر: الفتاوى 7/685.