الحلقة الثالثة
أيمن الشعبان
تبتدئ السورة الكريمةُ بدفع الشك والارتياب عن القرآن العظيم، المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا تحوم حول ساحته الشبهات والأباطيل، ومع وضوح إِعجازه، وسطوع آياته، وإشراقة بيانه، وسموّ أحكامه، اتهم المشركون الرسول بأنه افترى هذا القرآن، واختلقه من تلقاء نفسه، فجاءت السورة الكريمة تردُّ هذا البهتان، بروائع الحجة والبرهان.
- التصنيفات: التفسير - ترجمة معاني القرآن الكريم -
الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
تبتدئ السورة الكريمةُ بدفع الشك والارتياب عن القرآن العظيم، المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا تحوم حول ساحته الشبهات والأباطيل، ومع وضوح إِعجازه، وسطوع آياته، وإشراقة بيانه، وسموّ أحكامه، اتهم المشركون الرسول بأنه افترى هذا القرآن، واختلقه من تلقاء نفسه، فجاءت السورة الكريمة تردُّ هذا البهتان، بروائع الحجة والبرهان.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [السجدة من الآية:3] أم تسمى الإضرابية المنقطعة، كأنه يقول: أضرب عن هذا وينتقل من حديث إلى آخر.
أم هنا: بمعنى بل الإضرابية، التي تنتقل من شيء إلى شيء، من كلام إلى غيره.
فكأن الله سبحانه بعد أن بين صدق القرآن وأنه منزل من رب العالمين، وحصل بذلك اليقين في قلوب المؤمنين، يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: انتظر ننتقل لشيء ومعنى آخر: بل أيقولون افترى هذا القرآن؟!.
ونظم الكلام: أنه أشار أولاً إلى إعجازه، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين، وقرر ذلك بنفي الريب عنه، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكاراً له وتعجيباً منه، فإن أَمْ منقطعة ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه الحق المنزل من الله، وبين المقصود من تنزيله فقال: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} [السجدة من الآية:3] إذ كانوا أهل الفترة. {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة من الآية:3] بإنذارك إياهم.
الإنذار: هو الإعلام بما يخوِّف طلبا للحذر.
مع أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث نذيرًا وبشيرًا، لكن لا تتناسب مع الجاهلية والشرك وتفشي الظلم والعادات السيئة إلا الإنذار، ويأتي دور البشارة بعد إسلامهم ونصرتهم للدين.
لذلك ينبغي على الداعية مراعاة أحوال المخاطبين، والانتفاع من هذا الأسلوب القرآني البديع، فمن فرط وقصر في دينه وضيع أوامر الله، لا تناسبه البشارة، بل لابد من التخويف وما يرقق قلبه.
وكما يقال: لكل مقام مقال، وهذا ينسحب على جميع تعاملاتنا الحياتية اليومية مع الآخرين، فتأمل.
فقال {لِتُنذِرَ} ولم يقل: "لتبشر" لعدم وجود مؤمن على وجه الأرض يبشر، وهذا من الحكمة ومناسبة الخطاب للحال والمقام.
{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة من الآية:3] فيها أن مصلحة إنذارهم وإرسال الرسل إليهم، عائدة إليهم.
لذلك يا أيها العاصي المقصر: لو نصحك ناصح أو أراد صديق تقويم اعوجاج فيك، فلا تتكبر وتصم آذانك عن سماع النصيحة، فإنما ينصحك لمصلحتك وهدايتك.
إذن وظيفة الرسل هداية الناس ودعوتهم إلى الخير وما فيه صلاحهم، {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم من الآية:1] {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
لعل وعسى في لغة العرب معناها الترجي والتوقع، لكن في لغة الله والأسلوب القرآني معناها التحقيق، فمن أنذرته بهذه الرسالة وهذا التنزيل فتذكر واستجاب سيحصل له الهداية يقيناً.
في الآية تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام، فلا تحزن عليهم يا خير البشر وأكمل الرسل، ولا تلتفت لقولهم هذا، بل هو الحق الثابت الذي لا مرية في نزوله من ربك، الذي اصطفاك من بين البرايا بالرسالة.
كذا المؤمن ينبغي أن لا يكترث من أقوال أهل الباطل، في مسيرته العلمية ودعوته الإصلاحية، الذين يريدون إضعاف عزيمته وكسر إرادته، وتثبيطه عما معه من حق وصدق، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم:60]، وهذا مما يدل على أن كل مؤمن موقن رزين العقل يسهل عليه الصبر، وكل ضعيف اليقين ضعيف -العقل- خفيفه.
ومن إرشادات الآية: أن الداعية إلى الله، الذي يحمل هم الدين وقضايا الأمة، سيتعرض لأذى وابتلاء ومحن من الناس، فليستعد لذلك وليستمر بطريقته في بيان الحق والخير للناس، عسى أن يكون سبباً في هدايتهم واستقامتهم.
العرب عند بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، أمة فصاحة وبلاغة وبيان، بل وصلوا ذروة وقمة في ذلك، حتى كان لهم قبل الإسلام سوق عكاظ وذي المجاز، مضمار للتباري والمنافسة في الأدب والشعر، فعجيب أن يقابل كلام الله المعجز بهذا الاتهام والافتراء!
والأعجب أن لا يميزوا بين كلام الله وكلام البشر، وقد تحداهم سبحانه وتحدى فصاحتهم وبلاغتهم، ومعلوم أن التحدي يكون للقوي لا للضعيف، وهذه شهادة لهم بما وصلوا إليه من بلاغة، وتحدي يحسب لهم!
لكن لما عجزوا عن الإتيان بمثله، راحوا يتهمونه ويتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدة تهم؛ فقالوا: شاعر.. ساحر.. مجنون.. كاهن، ومرة يقولون: بل يعلمه أحد الأعاجم! وهذا حال المفلسين برد الحجة بتهم باطلة!
لذلك إذا رأيت من يرد ما معك من حق وصدق وأدلة وبراهين وخير، بمجرد السب والشتم والتكذيب المجرد ومعارضة الحجج بالأهواء، فاعلم أن مفلس وصاحب باطل!
ولما لم يجدوا مطعناً في القرآن، اعترفوا بأنه كلام الله لكن كان اعتراضهم أن ينزل على هذا الرجل بالذات {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
الحق: هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير، والقرآن حق لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة من الآية:3] إشارة إلى أهمية الحرص على هداية الناس وحب الخير والصلاح لهم، وبذل كل الأسباب المباحة والممكنة في سبيل هدايتهم، كما قال تعالى: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم من الآية:1].
فيا أيها المسلم: إذا رأيت نقصاً أو قصورًا أو بعدًا عن الله من شخص، فلا تتركه واحرص على هدايته بحكمة وموعظة حسنة.
الأشياء التي ذكرها الله في هذه الآية والتي قبلها، مناقضة لتكذيبهم له: وإنها تقتضي منهم الإيمان والتصديق التام به، وهو كونه {مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} وأنه {الْحَقُّ} والحق مقبول على كل حال، وأنه {لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ} بوجه من الوجوه، فليس فيه، ما يوجب الريبة، لا بخبر لا يطابق للواقع ولا بخفاء واشتباه معانيه، وأنهم في ضرورة وحاجة إلى الرسالة، وأن فيه الهداية لكل خير وإحسان.
وعلم من قوله: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة من الآية:3] أن المقصود من البعثة تعريف طريق الحق، وكل يهتدي بقدر استعداده، إلا أن لا يكون له استعداد أصلاً، كالمصرين، فإنهم لن يقبلوا التربية والتعريف، وكذا من كان على جبلتهم إلى يوم القيامة.
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
3- رمضان-1435هـ