ظاهرة العضل (الآثار الاجتماعية والحلول الإسلامية)
تطفو على السطح ظاهرة اجتماعية شديدة الخطورة على المجتمع بأسره، انتشرت في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، ألا وهي ظاهرة عضل -منع- ولي المرأة من تزويج ابنته أو من هي تحت ولايته بالكفء المناسب الذي رضيت به، طمعًا في مالها، أو طلبًا لمهر عال كما هي عادة بعض أولياء الفتيات..
جبل الله تعالى الإنسان -رجلاً كان أو امرأة- على حب الاستقرار وتكوين الأسرة، من خلال فطرة الله تعالى في ميل الرجل للمرأة والرغبة بها والعكس، ولا يتحقق ذلك الاستقرار إلا من خلال الزواج الشرعي، فالسفاح لا يمكن أن ينشأ أسرة، بل إن من يمارسه قد يغضب ويرتكب جريمة إن علم أن هناك طفلاً سيأتي من جراء تلك العلاقة غير الشرعية، بعكس الزواج الذي يسعد الجميع -زوجا وزوجة وأرحامًا- بخبر حمل الزوجة بالمولود الجديد، وهذا من عجيب حكمة الله تعالى ودليل عظمته.
ولكن اكتمال مشروع الزواج في الإسلام لا بد له من مقدمات، من أهمها خطبة الرجل للمرأة وإعلان الرغبة بالزواج منها، وهنا تطفو على السطح ظاهرة اجتماعية شديدة الخطورة على المجتمع بأسره، انتشرت في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، ألا وهي ظاهرة عضل -منع- ولي المرأة من تزويج ابنته أو من هي تحت ولايته بالكفء المناسب الذي رضيت به، طمعًا في مالها، أو طلبًا لمهر عال كما هي عادة بعض أولياء الفتيات، الذي يظن أن غلاء مهر ابنته دليل على مكانة ومنزلة الأسرة اجتماعيًا، أو تعززًا واستكبارًا من الولي تجاه الخطاب.
وقد يستغرب المرء أن يفعل أب أو ولي بمن هي تحت ولايته ذلك، وهو الذي جبل على الحنان والشفقة بابنته كما يقول العلماء، إلا أن ضعف التمسك بدين الله، وما يستتبعه من طغيان الشهوات والأهواء على ما فطر عليه الإنسان من أخلاق قد يؤدي إلى ذلك، فكيف ونحن في آخر الزمان الذي أصبح فيه المنكر معروفًا والمعروف منكرًا والعياذ بالله.
ليست الصورة السابقة هي صورة العضل الوحيدة في المجتمع المسلم، بل هناك صور أخرى لعضل الفتاة المسلمة من الزواج، كالعضل المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:232]
قال ابن كثير: "قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها" (تفسير القرآن العظيم لابن كثير:1/631).
جاء في صحيح البخاري عن سبب نزول الآية قَالَ: "حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ قَالَ زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} فَقُلْتُ الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ»" (صحيح البخاري:7/16 برقم:5130).
ومع وجود صور أخرى للعضل إلا أنها تخرج عن مقصود المقال الذي نحن بصدده، والذي يتناول ظاهرة منع الألياء من تزوج بناتهم أو من هن تحت ولايتهم من خاطب كفئ مناسب وقد رضيت به الفتاة، أو زوج طلق دون ثلاث ورغب بالعودة ورغبت فيمتنع الولي عن التزويج.
بعض الآثار الاجتماعية لظاهرة العضل:
لا شك أن في عضل المرأة ومنعها من الزوج الكفء مضار وآثار اجتماعية بالغة السوء، كيف لا وفي هذا العضل مخالفة صريحة لنهي الله تعالى عباده عنه، والعلماء يؤكدون أن الفلاح كل الفلاح في اتباع شرع الله والتزام منهجه، وأن السوء كل السوء في مخالفة أمره أو الاجتراء على ارتكاب نهيه.
ومن أهم هذه الآثار:
1- زيادة ظاهرة العنوسة في المجتمع: حيث يشكل العضل سببًا من أهم أسباب انتشار هذه الظاهرة، حيث يمتنع الولي من تزويج ابنته من الأكفاء الذين يخطبون المرأة واحدًا تلو الآخر، حتى إذا بلغت المرأة سن الثلاثين أو تجاوزته -في الأعم الغالب في هذا العصر- بدأ شبح العنوسة يلوح حول تلك الفتاة، لتلتحق بعد ذلك بجيش العوانس الذي صنعه ابتعاد بعض الأولياء عن تعاليم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
لقد بلغت نسبة العنوسة في الوطن العربي درجة مخيفة ومرعبة، فقد كشفت منظمة هولندية عن إحصائية لارتفاع العنوسة فى الوطن العربى وعلى رأسها مصر، حيث أعلنت أن عدد العوانس في مصر يبلغ 8 ملايين، أي 40% من مجموع الفتيات فى سن الزواج، وهذا الرقم مرشح أيضاً للارتفاع بسبب الأزمة الاقتصادية والسياسية التى تعيشها مصر.
أما في لبنان فقد وصل عدد العوانس إلى 15%، بينما بلغت نسبة العنوسة في سورية 70%، وهى مرشحة للارتفاع بسبب ظروف الحرب الدائرة هناك منذ ثلاث سنوات، وفي دول الخليج وصلت نسبة العنوسة فى الإمارات إلى 75% بـ175 ألف عانس، وفي البحرين 25%، أما في دول المغرب العربي فقد تقاربت نسب العنوسة هناك، حيث سجلت تونس نسبة 62% تلتها الجزائر بنسبة 51%.
وبعيدًا عن دقة ومصداقية هذه الإحصائية، فإنها تشير بشكل أو بآخر لمدى الابتعاد عن الالتزام بمنهج الله، الأمر الذي يشكل علامة من علامات قرب القيامة والساعة كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث عَنْ أَنَسِ قَالَ: "لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ» (صحيح البخاري برقم:81).
2- فتح باب الرذيلة والفاحشة: فحين يغلق ولي الفتاة باب العفة والفضيلة والإحصان من خلال منعه وعضله الفتاة عن الزواج بالكفء، فإنه بلا شك يفتح بابا واسعًا للشيطان وأتباعه لإيقاع الفتاة والشاب في حمأة الرذيلة والفاحشة -والعياذ بالله-، وما ينتج عن ذلك من انتشار الأمراض والأوجاع التي لم تكن في الأسلاف والأجداد، وصولا إلى زيادة وقوع الجريمة وتداعياتها على المجتمع، وليس انتهاء باستحقاق نزول العذاب من الله تعالى على الأمة التي تنتشر فيها الفاحشة -والعياذ بالله-.
وإذا اجتمع مع انتشار هذه الظاهرة -العضل- كثرة وسائل التواصل بين الناس في هذا الزمن الذي نعيش فيه حتى أضحى العالم كقرية صغيرة، وسهولة ارتكاب الفاحشة والرذيلة -والعياذ بالله- ناهيك عن وجود ضعف عام في الوازع الديني عند المسلمين في هذا العصر، فإن آثار هذه الظاهرة تبدو كارثية بكل المقاييس، ولعل هذا ما يفسر تحذير النبي صلى الله عليه وسلم الشديد لأمته من عدم تزويج الولي من الشاب الكفء صاحب الخلق والدين، وما ينتج عنه من فساد خلقي كبير وعريض كما وصف صلى الله عليه وسلم: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» (سنن الترمذي:2/386 برقم:1084، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب).
3- الآثار النفسية: حيث يترك العضل والمنع من الزواج بلا شك آثارًا نفسية سلبية على الشاب والفتاة معًا، ولعل أخطرها -بالنسبة للفتاة- الحقد والضغينة على من حرمها من حقها في الزواج، وما ينتج عن ذلك من تصرفات وردود أفعال تعود بالوبال على الأسرة بشكل عام، ناهيك عن إمكانية إصابتها بالانطوائية والميل إلى العزلة والانفراد، وربما يصل الأمر إلى الكآبة واليأس والقلق.
الحلول الإسلامية:
لما كانت الشريعة الإسلامية كاملة غير ناقصة، فإن لكل مشكلة حل في الإسلام، وقد شرع الله تعالى لظاهرة عضل الولي ومنعه المرأة من الزواج بالكفء المناسب حلولاً، فصلها العلماء والفقهاء في كتبهم بعد أن استنبطوها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويمكن إجمال هذه الحلول بما يلي:
1- الترغيب بالالتزام بأمر الله ونهيه والترهيب من المخالفة: فقد دعا الله تعالى من عباده الالتزام بنهيه عن العضل في أكثر من موضع من القرآن الكريم كما مر، من خلال النداء الترغيبي القرآني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ...} [النساء:19]، وجعله فعلا محرمًا في الإسلام.
وعلى الرغم من أن آية تحريم العضل قد نزلت في واقعة اشتملت على منع الولي من العضل في حالة رغبة المرأة في الرجوع إلى زوجها السابق بنكاح جديد {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ...} [البقرة:232]، إلا أن عموم اللفظ دليل على منع العضل في الجملة، ومنه عضل ولي الفتاة البكر من الزواج بالكفء الذي ترضاه، والقاعدة الأصولية تقول: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".
كما أن رسول صلى الله عليه وسلم قد حذر من العواقب الوخيمة التي قد تجرها ظاهرة منع الولي تزويج ابنته أو من هي تحت ولايته من الكفء ذي الخلق والدين على المجتمع الإسلامي كما مر في الحديث السابق.
ويعتبر هذا الحل تربويا بالدرجة الأولى، وهي طريقة قرآنية نبوية مشهورة، فالمطلوب هو الوصول إلى الهدف المنشود بمنع العضل وتيسير الزواج، فإذا ما تحقق هذا الأمر من خلال الترغيب والترهيب المجرد فبها ونعمت، وإن ظهر في المجتمع من لا يستجيب لهذا الأسلوب التربوي، فهناك أساليب عملية أخرى تساعد في حل هذه المعضلة والظاهرة.
2- انتقال الولاية من الولي الأقرب إلى الأبعد أو السلطان في حال العضل.
وهو حل واقعي لمشكلة العضل، حيث لا يفوت على المرأة فرصة الزواج بالكفء المناسب الذي ترضاه، بسبب استمرار عضل الولي حتى تصل إلى مرحلة العنوسة، فقد نص العلماء على أن السلطان يأمر الولي العاضل بتزويج ابنته من الكفء لها، فإن امتنع انتقلت الولاية عند ذلك إلى الولي الأقرب أو إلى السلطان.
وعلى الرغم من اختلاف الفقهاء في مسألة انتقال ولاية التزويج في حالة عضل الولي الأقرب: بين من يقول بانتقالها إلى الولي الأبعد غير العاضل، وهكذا حتى لا يبقى ولي فيزوجها السلطان، وبين من يقول بأن الولاية تنتقل من الولي العاضل إلى السلطان مباشرة، مستندلين على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل، فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» (سنن أبي داود برقم:2083، وصححه الألباني).
فإن النتيجة واحدة، وهي أن الإسلام قد وضع حلاً عمليًا بانتقال ولاية التزويج من الولي العاضل إلى غير العاضل أو السلطان (انظر تفصيل اختلاف الفقهاء في هذه المسألة الموسوعة الفقهية الكويتية:30/145).
لا يعني الكلام السابق عن العضل وحرمته أن يزوج الولي ابنته لأول طارق لبابه أو طالب لابنته، فالمقصود من المقال هو تحريم منع تزويج الفتاة من الكفء ذي الخلق والدين، وقد نبه الفقهاء إلى أنه لا يعتبر الولي عاضلاً إذا امتنع عن تزويج ابنته من غير كفء ولو تكرر ذلك (الموسوعة الفقهية الكويتية:30/144).
وأخيرًا لا بأس من التنويه إلى مسألة سعي الولي بتزويج ابنته وطلب الرجل الكفء المناسب لها، وعدم انتظاره حتى يأتي هو ويطلبها للزواج، فهي سنة السلف الصالح رضي الله عنهم، فقد سعى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتزويج ابنته حفصة أم المؤمنين من أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما اللذين اعتذرا، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
د. عامر الهوشان
- التصنيف:
- المصدر: