الفرق بين الخالق والمخلوق (3)
ابن تيمية
وكذلك صار في شيوخ الصوفية من يعرض له من الفناء والسكر ما يضعف معه تمييزه، حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه كما يحكى نحو ذلك عن مثل أبى يزيد وأبى الحسن النوري وأبى بكر الشبلي وأمثالهم.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
يذكر أن رجلا ألقى نفسه في اليم، فألقى محبه نفسه خلفه، فقال أنا وقعت فما أوقعك خلفي، قال غبت بك عني، فظننت أنك أني، وهذا الموضع زل فيه أقوام وظنوا أنه اتحاد، وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرق في نفس وجودهما، وهذا غلط فإن الخالق لا يتحد به شيء أصلا، بل لا يتحد شيء بشيء إلا استحالا وفسدا، وحصل من اتحادهما أمر ثالث لا هو وهذا ولا هذا، كما إذا اتحد الماء واللبن والماء والخمر ونحو ذلك، ولكن يتحد المراد والمحبوب والمكروه ويتفقان في نوع الإرادة والكراهة، فيجب هذا ما يجب هذا ويبغض هذا ما يبغض هذا ويرضى ما يرضى، ويسخط ما يسخط، ويكره ما يكره، ويوالي من يوالي، ويعادي من يعادي، وهذا الفناء كله فيه نقض، وأكابر الأولياء كأبي بكر وعمر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يقعوا في هذا الفناء، فضلا عمن هو فوقهم من الأنبياء، وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة، وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة العقل والتمييز لما يرد على القلب من أحوال الإيمان فإن الصحابة رضى الله عنهم كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الإيمانية من أن تغيب عقولهم أو يحصل لهم غشى أو صعق أو سكر أو فناء أو وله أو جنون، وإنما كان مبادئ هذه الأمور في التابعين من عباد البصرة فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن ومنهم من يموت كأبي جهير الضرير وزرارة بن أوفى قاضي البصرة.
وكذلك صار في شيوخ الصوفية من يعرض له من الفناء والسكر ما يضعف معه تمييزه، حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه كما يحكى نحو ذلك عن مثل أبى يزيد وأبى الحسن النوري وأبى بكر الشبلي وأمثالهم.