خواطر قرآنية (سورة السجدة) - الحلقة الخامسة عشرة
ولما كان قوله تعالى: {بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة من الآية: 10] قد أشار إلى أن الحامل لهم على الكفر الكبر، وذكر سبحانه أنه قسم الناس قسمين لأجل الدارين، تشوفت النفس إلى ذكر علامة أهل الإيمان كما ذكرت علامة أهل الكفران.
الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
ولما كان قوله تعالى: {بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة من الآية: 10] قد أشار إلى أن الحامل لهم على الكفر الكبر، وذكر سبحانه أنه قسم الناس قسمين لأجل الدارين، تشوفت النفس إلى ذكر علامة أهل الإيمان كما ذكرت علامة أهل الكفران.
في هذه الآية انتقال من مشهد المكذبين الذين لا يخضعون، إلى مشهد المؤمنين الموقنين، وجاءت هذه الآية في وسط السورة كاللؤلؤة في وسط العقد، فهي مادتها ونتيجتها وخلاصتها، فمن يوقن بهذه الحقائق لا يملك إلا أن يخضع لله ويسجد له.
لما ذكر الله تعالى الكافرين بآياته وما أعد لهم من العذاب؛ قال تعالى عن أهل الإيمان {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} [السجدة من الآية:15] يذعن ويصدق ويخضع ويخبت، {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} [السجدة من الآية:15] أي تذكيرًا فيه بشارة أو نذارة، {خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة من الآية:15] سقطوا متذللين مبادرين ممتثلين ما فيها من أوامر ونواهي وعبر لسرعة قبولهم لها بصفاء فطرتهم، ومع ذلك {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة من الآية:15] تنزيهاً عما لا يليق به من النقائص والعيوب، معترفين بنعم الله عليهم مستمرين على شكرها خاشعين أذلاء، واضعين جباههم على التراب مبتعدين عن الكبر والخيلاء والترفع، وهم بذلك حققوا أعلى مراتب الذل والتواضع والعبودية {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة من الآية:15] لا بقلوبهم ولا بأبدانهم، عن طاعة ربهم وخالقهم أو عن الانقياد بأوامره وأحكامه.
إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْآيَاتِ كَالْحَاصِلِ، وَإِنَّمَا يَنْسَاهُ الْبَعْضُ فَإِذَا ذُكِّرَ بِهَا خَرَّ سَاجِدًا لَهُ، يَعْنِي انْقَادَتْ أَعْضَاؤُهُ لَهُ، وَسَبَّحَ بِحَمْدِهِ، يَعْنِي وَيُحَرِّكُ لِسَانَهُ بِتَنْزِيهِهِ عَنِ الشِّرْكِ، وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، يَعْنِي وَكَانَ قَلْبُهُ خَاشِعًا لَا يَتَكَبَّرُ وَمَنْ لَا يَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ فهو المؤمن حقاً.
هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ أَنَّهُمْ لِإِلْفِهِمُ الْكُفْرَ لَا يُؤْمِنُونَ بِكَ، إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِكَ وَبِالْقُرْآنِ الْمُتَدَبِّرُونَ لَهُ وَالْمُتَّعِظُونَ بِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ {خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة من الآية:15].
المراد بالآيات هنا آيات القرآن بقرينة قوله الذين إذا ذكروا بها بتشديد الكاف، أي أعيد ذكرها عليهم وتكررت تلاوتها على مسامعهم.
{خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة من الآية:15] أي بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد، خضعاً لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم له خضوعاً ثابتاً دائماً.
أَيْ خَرُّوا سُجَّدًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وُجُوهِهِمْ تَعْظِيمًا لِآيَاتِهِ وَخَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ وَعَذَابِهِ. {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة من الآية:15] أَيْ خَلَطُوا التَّسْبِيحَ بِالْحَمْدِ، أَيْ نَزَّهُوهُ وَحَمِدُوهُ، فَقَالُوا فِي سُجُودِهِمْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ، أَيْ تَنْزِيهًا لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ.
هنالك فرق بين: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا}، {خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}.
في الأولى: بعد أن نفخ الله بآدم الروح وكان الملائكة مشغولين بالتسبيح والتحميد ولأهمية هذا الحدث من كان مشغولاً بشيء ثم انتبه كأنه وقع.
والثانية: هو السجود الطبيعي الذي نقوم به في الصلاة، وكذلك سجود الملائكة لآدم عليه السلام.
والثالثة: عندما يقرأ الإمام في الركعة الأولى من فجر الجمعة بسورة السجدة ويصل إلى قوله: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة من الآية:15] فإنهم ينزلون من قيامهم خاضعين ساجدين متذللين لله عز وجل، كخرير الماء وهو هبوط مصحوبًا بصوت، كأنه صوت الخشوع والبكاء، وفرق بين شخص قرأ آية فسجد، وآخر قرأ آية مؤثرة فسجد وهبط إلى الأرض وهو يبكي.
وأوثرت صيغة المضارع في {إِنَّمَا يُؤْمِنُ} لما تشعر به من أنهم يتجددون في الإيمان ويزدادون يقينًا وقتًا فوقتًا.
والخرور: الهوي من علو إلى سفل، والسقوط بغير نظام ولا ترتيب.
والسجود: وضع الجبهة على الأرض إرادة التعظيم والخضوع.
وكل سجود في القرآن يتلو هذه المادة {خرَّ} دليل على أنها أصبحتْ مَلَكة وآلية في المؤمن، بل ويؤكدها الحق سبحانه بقوله: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء:107] لأنه سجود يأخذ الذقن، فهو متمكن في الذلّة، وهو فوق السجود الذي نعرفه في الصلاة على الأعضاء السبعة المعروفة.
هذه الآية من عزائم السجود، فيسن السجود عند تلاوتها للقارئ والمستمع، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقرأُ السورةَ التي فيها السجدةَ، فيَسْجُدُ ونَسْجُدُ، حتى ما يَجِدُ أحدُنا مكانًا لموضعِ جبهتِه.
ويقول عليه الصلاة والسلام: إذا قرَأ ابنُ آدَمَ السَّجدةَ فسجَد اعتزَل الشَّيطانُ يبكي ويقولُ: يا ويلَه أُمِر ابنُ آدَمَ بالسُّجودِ فسجَد فله الجنَّةُ وأُمِرْتُ بالسُّجودِ فأبَيْتُ فلِيَ النَّارُ.
والسجود عبادة جليلة لها فضائل عظيمة ومنافع كبيرة وآثار محمودة نذكر منها:
أثنى الله سبحانه على صحابة نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح من الآية:29].
قال الله لنبيه مثنيًا عليه مبيناً عظم هذه العبادة: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:217-219]، وتقلبك راكعًا وساجدًا خصها بالذكر، لفضلها وشرفها، وللأسف شتان من يتقلب في أماكن المعاصي واللهو وضياع الأوقات، ومن يتقلب ساجدًا طائعًا خاشعًا لله!
قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19].
وقد أثنى الله على عباد الرحمن المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64].
قال عليه الصلاة والسلام: «
».قال عليه الصلاة والسلام لثوبان رضي الله عنه: «
».وقال عليه الصلاة والسلام: «
».فائدة السجود من الناحية العلمية:
بسبب التطور التقني وكثرة الأجهزة الكهربائية والآلات المتعددة، التي يستخدمها الإنسان وتكون حوله يوميًا، يستقبل كميات كبيرة من الأشعة الكهرومغناطيسية، فيصاب بالصداع والضيق والكسل والخمول.
باحث غربي غير مسلم اكتشف أن أفضل طريقة لتخلص الجسم من تلك الشحنات الموجبة المؤذية؛ أن يضع جبهته أكثر من مرة على الأرض السالبة، والأفضل أن تضعها على التراب مباشرة! والطريقة الأمثل أن تضع جبهتك وأنت في اتجاه مركز الأرض التي هي الكعبة في مكة المكرمة!
ومن هداية الآية:
« » من أي مذكر كان، وهنا فائدة وهي ضرورة الاستجابة والتواضع والانقياد للنصيحة والتذكرة، أياً كان صاحبها، فاتباع الحق لا يتوقف على عين حامله وقائله! فالحق أحق أن يتبع.
في السجود تضع وجهك وجبهتك، وهي رمز العلو والرِّفْعة تضعها على الأرض خضوعاً لله عَزَّ وَجَلَّ.
إذا رضي المؤمن أن يضع أعز شيء فيه وهي جبهته، على التراب وهو أذل شيء يطئه الناس، فقد عرف الله حقه.
الله جل جلاله غني عن سجود جميع الخلق، ولكن ما رزق المؤمن السجود له وأعانهم عليه إلا لأنه يحبهم، وهذا من أعظم التوفيق.
النفس تمر بحالات من الغفلة والنسيان، فهي بحاجة لتذكير مستمر وتنشيط للأذهان وتجديد للإيمان، فتعاهد قلبك واستثمر الفرص والمواسم كرمضان.
إياك والتسويف فالمؤمن الحق بمجرد التذكير يتذكر، ويخر ساجدًا خاضعًا لله.
سرعة الاستجابة لأوامر الله من أعظم علامات الشكر على النعم.
جزاء من يستجيب الجنة كما في هذه الآية، وجزاء من يستكبر النار قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر من الآية:60].
في الآية أهمية تأمل وتدبر آيات القرآن لحصول التذكر والتفكر ثم الخضوع والاستجابة.
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
15- رمضان-1435هـ
أيمن الشعبان
داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.
- التصنيف: