الحلقة السادسة عشرة
أيمن الشعبان
في الآية التي معنا يذكر ربنا سبحانه وتعالى بعض أحوال المؤمنين وأعمالهم، من أعظم صور اليقين والخضوع فيقول عز وجل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].
- التصنيفات: التفسير -
الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
في الآية التي معنا يذكر ربنا سبحانه وتعالى بعض أحوال المؤمنين وأعمالهم، من أعظم صور اليقين والخضوع فيقول عز وجل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].
{تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ} [السجدة من الآية:16] أي ترتفع والمعنى يتركون مضاجعهم بالليل من كثرة صلاتهم النوافل، ومن صلى العشاء والصبح في جماعة فقد أخذ بحظه من هذا.
الجفوة ترك مع كراهية المتروك، لأن مجرد الترك قد يصاحبه شوق وألم للمتروك!
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} أي: ترتفع جنوبهم، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم، وهو الصلاة في الليل، ومناجاة الله تعالى.
ولما كان المتواضع ربما نسب إلى الكسل، نفى ذلك عنهم بقوله مبيناً بما تضمنته الآية السالفة من خوفهم: {تَتَجَافَى} أي ترتفع ارتفاع مبالغ في الجفاء - بما أشار إليه الإظهار، وبشر بكثرتهم بالتعبير بجمع الكثرة فقال: {جُنُوبُهُمْ} بعد النوم {عَنِ الْمَضَاجِعِ} أي الفرش الموطأة الممهدة التي هي محل الراحة والسكون والنوم، فيكونون عليها كالملسوعين، لا يقدرون على الاستقرار عليها، في الليل الذي هو موضع الخلوة ومحط اللذة والسرور بما تهواه النفوس.
قد بعدوا في خلال الليالي عن مواضع رقودهم واستراحتهم يَدْعُونَ رَبَّهُمْ حينئذ خَوْفاً من بطشه وأخذه حسب قهره وجلاله وَطَمَعاً لمرضاته وسعة رحمته وجوده ومغفرته حسب لطفه وجماله وَهم لا يقتصرون بمجرد قيام الليل وصلاة التهجد فيه بل مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقناهم نحوهم من الرزق الصوري والمعنوي يُنْفِقُونَ في سبيلنا على الطالبين المتوجهين إلينا منقطعين عن لذائذ الدنيا ومزخرفاتها سوى سد جوعة وستر عورة وهم بارتكاب هذه المتاعب والمشاق ما يريدون إلا وجه الله وما يطلبون إلا رضاه سبحانه موثرين رضاء الله على أنفسهم مخلصين فيه.
المضاجع آخر مرحلة في اليقظة، ولم تأْتِ إلا بعد عدة مراحل من التعب، ومع ذلك شوق المؤمنين إلى ربهم ورغبتهم في الوقوف بين يديه سبحانه يُنسبهم هذه الراحة، ويُزهِّدهم فيها، فيجفونها ليقفوا بين يدي الله.
ولما كانت العبادة تقطع عن التوسع في الدنيا، فربما دعت نفس العابد إلى التمسك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عن الحاجة لتشوش الفكر والحركة لطلب الرزق، حث على الإنفاق منه اعتماداً على الخلاق الرزاق الذي ضمن الخلف ليكونوا بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم، وإيذاناً بأن الصلاة سبب للبركة في الرزق {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗوَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ} [طه: 132]، فقال لفتاً إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أي بعظمتنا، لا حول منهم ولا قوة {يُنْفِقُونَ} من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من الرزق، قليلاً كان أو كثيرًا {يُنْفِقُونَ} ولم يذكر قيد النفقة، ولا المنفق عليه، ليدل على العموم، فإنه يدخل فيه، النفقة الواجبة، كالزكوات، والكفارات، ونفقة الزوجات والأقارب، والنفقة المستحبة في وجوه الخير، والنفقة والإحسان المالي، خير مطلقًا، سواء وافق غنيًا أو فقيرًا، قريباً أو بعيدًا، ولكن الأجر يتفاوت، بتفاوت النفع، فهذا عملهم.
لما ذكر إيثارهم التقرب إلى الله على حظوظ لذاتهم الجسدية ذكر معه إيثارهم إياه على ما به نوال لذات أخرى وهو المال إذ ينفقون منه ما لو أبقوه لكان مجلبة راحة لهم فقال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} ينفقون أي: يتصدقون به ولو أيسر أغنياؤهم فقراءهم.
وفي إسناد التجافي إلى الجنوب دون أن يقال: يجافون جنوبهم إشارة إلى أن حال أهل اليقظة والكشف، ليس كحال أهل الغفلة والحجاب، فإنهم لكمال حرصهم على المناجاة، ترتفع جنوبهم عن المضاجع حين ناموا بغير اختيارهم، كأن الأرض ألفتهم من نفسها، وأما أهل الغفلة فيتلاصقون بالأرض لا يحركهم محرك.
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة من الآية:16] في صلاتهم وجميع أحوالهم هم يكثرون من الدعاء يذكرون الله سبحانه ويدعونه في وقت البلاء والرخاء.
المؤمن إذا عرف ما عند الله من عظيم الفضل، طمع بما عنده رجاء ثوابه، وبالوقت ذاته يخشى عذاب الله وعقابه ولا يأمن مكر الله، دون أن يدفعه ذلك إلى اليأس والقنوط من رحمته، فهو بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، وهذه قمة العبادة.
وصف الله عباده القائمين الليل بوصف آخر إذ يقول: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17].
واعلم أن قيام الليل من علو الهمة، وهو وهب من الله تعالى، فمن وهب له هذا فليقم ولا يترك ورد الليل بوجه من الوجوه.
قال عليه الصلاة والسلام: «
».وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «
».سُئلَ عليه الصلاة والسلام: "أيُّ الصلاةِ أفضلُ بعد المكتوبةِ؟ وأيُّ الصيامِ أفضلُ بعد شهرِ رمضانَ؟"، فقال: « ».
يقول عليه الصلاة والسلام: «
».صلاة الليل عبادة جليلة لذلك اعتنى بها السلف الصالح بشكل كبير، وهذه نماذج من اهتمامهم البالغ وحرصهم وتمسكهم بها:
عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان تحت عينيه خطان أسودان من كثرة البكاء! وكان يقوم الليل ويوقظ أهله.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه اذا هدأت العيون وأرخى الليل سدوله، سمع له دويّ كدوي النحل وهو قائم يصلي!!
يقول أحد التابعين: "كابدت قيام الليل سنة، فاستمتعت به عشرين سنة".
وهذا سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما يقول: "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم، وأن ذنوبك الكثيرة قيدتك!!".
وقال أبو سليمان: "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا".
قال ابن المنكدر: "ما بقى من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة".
ويقول أحد التابعين: "منذ أربعين سنة ما حزنت على شيء كحزني على طلوع الفجر!!".
الآية فيها إشارة لكثرة قيامهم الليل بدليل جمع الكثرة {جُنُوبُهُمْ} بمعنى أن الأصل والغالب الأعم القيام، وليس الاستثناء! وأن تجافي جنوبهم في الليلة الواحدة يتكرر!
قد يهجر المضجع أناس لغير العبادة، سهر{ًا على معصية أو لهو وضياع وقت، لذلك أكد الله في هذه الآية أن تجافي مضاجع هذا الصنف من المؤمنين للعبادة بقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}.
من صفات المؤمنين أنهم مشغولون بذكر الله، لا ينامون إذا نام الناس، ولا يلهون أو يلعبون إذا خاض الناس في سفاسف الأمور!
في الآية تعريض بالمشركين إذ يمضون ليلهم بالنوم لا يصرفه عنهم تفكر بل يسقطون كما تسقط الأنعام.
الإنفاق في سبيل الله أجره عظيم وفضله جسيم، يكفي أن الله لخص كل الأعمال الصالحة في الدنيا لمن طلب الرجوع في الصدقة! قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10].
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
16- رمضان-1435هـ