خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 21-30 )
أيمن الشعبان
- التصنيفات: التفسير -
الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
ولما كان المؤمنون الآن يتمنون إصابتهم بشيء من الهوان في هذه الدار، لأن نفوس البشر مطبوعة على العجلة، بشرهم بذلك على وجه يشمل عذاب القبر، فقال مؤكداً له لما عندهم من الإنكار لعذاب ما بعد الموت وللإصابة في الدنيا بما هم من الكثرة والقوة: {ولنذيقنهم} أي أجمعين بالمباشرة والتسبيب، بما لنا من العظمة التي تتلاشى عندها كثرتهم وقوتهم {من العذاب الأدنى} أي قبل يوم القيامة، بأيديكم وغيرها.
( دون ) بمعنى قبل.
ثم بين أن عذاب الآخرة له مقدمات في الدنيا، لأن الذنب مستوجب لنتائجه عاجلا أو آجلا، قال تعالى( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِالْعَذَابِ الْأَدْنَى مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَأَسْقَامَهَا وَآفَاتِهَا، وَمَا يَحِلُّ بِأَهْلِهَا مِمَّا يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ لِيَتُوبُوا إِلَيْهِ.
وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ: يَعْنِي بِهِ عَذَابَ الْقَبْرِ.
أي ولنبتلينهم بمصايب الدنيا وأسقامها وآفاتها من المجاعات والقتل، ونحو ذلك، عظة لهم ليقلعوا عن ذنوبهم قبل العذاب الأكبر، وهو عذاب يوم القيامة.
{لعلهم يرجعون*} أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن فسقه عند من ينظره، وقد كان ذلك، رجع كثير منهم خوفاً من السيف، فلما رأوا محاسن الإسلام كانوا من أشد الناس فيه رغبة وله حباً.
إنذار رباني في صيغة التوكيد بأن الله سيصيب الكفار بالبلاء القريب قبل البلاء الأخروي الأكبر لعلّهم يتراجعون عن غيّهم وموقفهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى} فِي مُقَابَلَتِهِ الْعَذَابُ الْأَقْصَى وَالْعَذَابُ الْأَكْبَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ الْعَذَابُ الْأَصْغَرُ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَدْنَى بِالْأَكْبَرِ؟ فَنَقُولُ حَصَلَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا:أَنَّهُ قَرِيبٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَلِيلٌ صَغِيرٌ وَحَصَلَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ أَيْضًا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَعِيدٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ عَظِيمٌ كَثِيرٌ، لَكِنَّ الْقُرْبَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلتَّخْوِيفِ بِهِ، فَإِنَّ الْعَذَابَ الْعَاجِلَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا قَدْ يَحْتَرِزُ مِنْهُ بَعْضُ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَرِزُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ إِذَا كَانَ آجِلًا، وَكَذَا الثَّوَابُ الْعَاجِلُ قَدْ يَرْغَبُ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ وَيَسْتَبْعِدُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ الْآجِلَ، وَأَمَّا فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فَالَّذِي يَصْلُحُ لِلتَّخْوِيفِ بِهِ هُوَ الْعَظِيمُ وَالْكَبِيرُ لَا الْبَعِيدُ لِمَا بَيَّنَّا فَقَالَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا الْعَذابِ الْأَدْنى لِيَحْتَرِزَ الْعَاقِلُ عَنْهُ وَلَوْ قَالَ: { لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأصغر} ماكَانَ يَحْتَرِزُ عَنْهُ لِصِغَرِهِ وَعَدَمِ فَهْمِ كَوْنِهِ عَاجِلًا وَقَالَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ الْأَكْبَرِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ دُونَ الْعَذَابِ الْأَبْعَدِ الْأَقْصَى لَمَا حَصَلَ التَّخْوِيفُ بِهِ مِثْلَ مَا يَحْصُلُ بِوَصْفِهِ بِالْكِبَرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدِ اخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَذَابَيْنِ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لِلتَّخْوِيفِ مِنَ الْوَصْفَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِيهِمَا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ.
فإن قيل: ما الحكمة في هذا الترجي وهو على الله تعالى محال؟
فالجواب: فيه وجهان:
أحدهما: معناه لنذيقنهم إذاقة الراجين كقوله: {إنَّا نَسِنَاكُمْ} يعني تركناكم كما يترك الناس (حيث لا يلتفت إليه) أَصْلاً كَذلِكَ ههنا.
والثاني: نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه.
وَالله لَنُذِيقَنَّهُمْ ولنصبن عليهم في دار الابتلاء مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى الأنزل الأسهل مثل القحط والطاعون والوباء والقتل والسبي والزلزلة وانواع المحن والبليات التي هي أسهل وأيسر بمراحل دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ عند عذاب الآخرة الذي هو في غاية الشدة ونهاية الألم والفظاعة وانما أخذناهم بما أخذناهم في النشأة الاولى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مما هم عليه من الكفر والشقاق ويتفطنون عنها الى كمال قدرتنا واقتدارنا على اضعافها وآلافها ومع ذلك لم يتفطنوا ولم يرجعوا عن غيهم وضلالهم بل قد أصروا واستكبروا عدوانا وظلما.
ومن معاني العذاب الأدنى والأكبر:
في حقائق البقلي العذاب الأدنى: حرمان المعرفة، والعذاب الأكبر: الاحتجاب عن مشاهدة المعروف.
وقال ابو الحسن الوراق الأدنى الحرص على الدنيا والأكبر العذاب عليه.
ومن هداية الآية:
فى التأويلات النجمية: يشير الى ارباب الطلب واصحاب السلوك إذا وقعت لاحدهم فى أثناء السلوك وقفة لعجب تداخله او لملالة وسآمة نفس او لحسبان وغرور قبول او وقعت له فترة بالتفاته الى شىء من الدنيا وزينتها وشهواتها فابتلاه الله اما ببلاء فى نفسه او ماله او بيته من أهاليه وأقربائه وأحبائه لعلهم بإذاقة عذاب البلاء والمحن انتبهوا من نوم الغفلة وتداركوا ايام العطلة قبل ان يذيقهم العذاب الأكبر بالخذلان والهجران وقسوة القلب كما قال تعالى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} .
في الآية إشارة إلى أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، قال تعالى { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} .
ما يصيب الكافر أو المسلم في الدنيا من بلاء فهو مظهر من مظاهر رحمة الله، حتى يعودوا ويتوبوا ويستيقظوا من غفلتهم.
قال ابن عباس: مصائب الدنيا وأسقامها وبلائها مما يبتلي به الله العباد حتى يتوبوا.
وهذا أيضا مما يولد اليقين في القلب ويكسر النفس ويوقظها من غفلتها.
إذا أصيب الإنسان بمرض بوفاة قريب، يتيقن أن هذا أمر الله فيصبر ويرجع إلى الله.
مهما تنعم الكافر في هذه الدنيا وملذاتها النعيم الزائل، فلا شك ولا ريب سيتعرف لفتن وعذاب ومصائب، وهذا ما يبينه الفهم العميق الدقيق لقوله عليه الصلاة والسلام «
حكى القرطبي في كتاب (قمع الحرص بالقناعة )عن سهل الصعلوكي الفقيه الخراساني وكان ممن جمع رياسة الدين والدنيا أنه كان في بعض مواكبه ذات يوم إذ خرج عليه يهودي من إيوان حمام وهو بثياب دنسة وصفة نجسة فقال أنتم تزعمون أن نبيكم قال: « » وأنا عبد كافر وترى حالي. وأنت مؤمن وترى حالك فقال له على الفور: إذا صرت غداً إلى عذاب الله كانت هذه الجنة لك وإذا صرت أنا إلى النعيم ورضوان الله صار هذا سجني، فعجب الخلق من فهمه وسرعة جوابه .
من هداية الآية في قوله تعالى {لعلهم يرجعون} أن تكون النصيحة لأجل الهداية والإصلاح والحرص على الخير للناس، {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} ، لا أن تكون فضيحة وتنقُّص وتعالي ورياء، وتظاهر بالعلم والمعرفة والتقوى والصلاح، وإظهار الآخرين بالجهل والانحراف!
وهذه الآية من الأدلة على إثبات عذاب القبر، ودلالتها ظاهرة، فإنه قال: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى} أي: بعض وجزء منه، فدل على أن ثم عذابا أدنى قبل العذاب الأكبر، وهو عذاب النار.
ولما كانت الإذاقة من العذاب الأدنى في الدنيا، قد لا يتصل بها الموت، فأخبر تعالى أنه يذيقهم ذلك لعلهم يرجعون إليه ويتوبون من ذنوبهم كما قال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}.
في الدنيا لابد وأن يعذب الله الكافر بما يبتليه من مصائب بحرمان .. وعدم الاطمئنان وانعدام الراحة والركون الى الله .. لا يستريح مهما حصل من مال وبنين وفي قلبه عدم الراحة.
21- رمضان-1435هـ