التكفير بين المُرجئة والخوارج
إن أصل التكفير، الذي هو الحكم بالكفر على من يستحقه وممن هو أهله وبأدلته وتحقيق مناطه؛ هو أصل ثابت في الشرع، أما التكفير الذي هو إيقاع الناس في الكفر فهذا نفسه كفرٌ. فالأول أصله شرعي وأخطأ الناس في تفريعه وتطبيقه فكفَّروا من لا يستحق التكفير، ومن ثم عاملوه معاملة الكافر المستباح، والثاني أصله وفرعه مناقض لأصول الإسلام وفروعه؛ والأوَّل منهج الخوارج، والثاني منهج المرجئة، وكلاهما ضال مُضِل مُضِر؛ فأيهما أخطر وأضر؟!
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ وبعد:
فإن المرجئة كفَّرت الأمةَ بأخطر مما كفَّرتها به الخوارج والمعتزلة، وكلاهما ضالٌّ مُضِلٌّ.
إن الخوارج فرقة ضالة، وهي من أوائل من خرج على السنة وأهلها، وقد حكموا على المسلمين بالكفر بغير ما يُكفِّر، وهذا جرمٌ عظيمٌ؛ وخاصة إذا كان لهم صولة أو دولة؛ لأنه عندئذٍ يُطبَّق هذا المذهب الفاسد فيضر العباد والبلاد، ويُفسد الدين والدنيا.
ومع خطورة كل هذا وشناعته إلا أن تكفير المرجئة للأمة أكبر وأضر وأخطر، وليس هو من باب الحكم على المسلم بالكفر، وإنما هو من باب إيقاع المسلم في الكفر، بالتقليل من الكفريات والتهوين من الشركيات، وضمان دخول الجنة والنجاة من النار مع ارتكاب الموبقات والوقوع في الكفريات.. فجرَّأوا الناس على الكفر وسهَّلوا لهم طريقه، وهوَّنوا لهم من جُرمه.
والتكفير الذي يوقع في الكفر أشنع من التكفير الذي يحكم بالكفر-وكلاهما شر-؛ لأن الذي يُحكم عليه بالكفر ظُلمًا وهو بريء فلا خوفٌ عليه عند الله تعالى ولا خوف على المسلمين منه.
أما الذي تُكفّره المرجئة فتوقعه في الكفر، فهو عند الله تعالى في خوف وحزن، إلا أن يكون من أصحاب الأعذار. والمسلمون منه في مضرة، ويكون انتسابه للإسلام مع كفره فتنةً للمسلمين ولغير المسلمين، كما نرى كثيرًا ممن وقعوا في نواقض الإسلام وتمرَّدوا على شرائعه؛ ثم هم يزعمون الإيمان؛ فيراهم أهل الملل الأخرى، فيظنوا أن الإسلام هو هذه الميوعة في الالتزام والتفلُّت من الأحكام، وهذه الولاءات المناقضة للإسلام، فيكون صَدًّا لهم عن الإلتزام الحقيقي أو عن الدخول في الإسلام أصلًا. كما قال أحد الأمريكان الذي أسلم؛ فقال: الحمد لله أني عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين!!
يدَّعي الإسلام ويخون ويغدر، ويدعي الإسلام ويكذب وينافق، ويدَّعي الإسلام ولا يلتزم بشريعته، ويدعيه ولا يتخلق بأخلاقه مع العدو والصديق، ويدعيه ويترك الصلاة، ويدعي الإسلام ويترك الإسلام، والمرجئة بعد ذلك تقول لهم: لا عليكم، لن تراعوا!
فأي التكفرين أخطر؟! وأيّ الضلالتين شر؟
إن حَمَلة هذه الراية هم رؤوس في الإرجاء وإن تلبّسوا، وإن تلوَّنوا، وهم وجهة ثانية لعُمْلة العلمانية.. والفريقان هم في النهاية خَدمٌ عند اليهود والنصارى يحلبون في قِداحهم، يمثلونهم في بلاد المسلمين ويقومون بدورهم على أكمل وجه وأعلى مستوى، وإن لم يشعر فريقٌ منهم، وإن حسب أنه يحسن صنعًا. وما يعجز عنه "العسكر" يؤديه الذين يشترون بالحق ثمنًا قليلًا شعروا أو لم يشعروا، حتى قال قائد عسكري سامٍ ممن حاربوا المسلمين باسم حرب الإرهاب؛ قال لأحد حَمَلة هذا الفكر منذ شهور فقط (*) في إحدى بلدان المسلمين: "لقد حققتم لنا خلال سنة ونصف ما عجزنا نحن عن تحقيقه بطائراتنا ودبّاباتنا في سبع سنين!!".
قلت :إن هؤلاء يخدمون اليهود والنصارى وإن لم يشعروا؛ لأن اليهود والنصارى لا يطمحون إلى إفناء المسلمين، ولا إلى إدخالهم في اليهودية والنصرانية، فهم قد قطعوا الأمل في ذلك، بل قد يحتقرون المسلم أن يتشرف بدخول ديانتهم حقيقة، وهو عندهم أحقر من ثمن حذائه، كما يقول زويمر المنصر..
يقول المُنَصِّر الهالك صمويل زويمر: "إن مهمة التبشير التى ندبتكم دولُ المسيحية للقيام بها فى البلاد المحمدية، ليست هى إدخال المسلمين فى المسيحية ؛ فإن فى هذا هداية لهم وتكريمًا. إن مهمتكم أن تُخرجوا المسلم من الإسلام، ليُصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالى لا صلة تربطه بالأخلاق التى تعتمد عليها الأمم فى حياتها، وبذلك تكونون بعملكم هذا طليعة الفتح الإستعمارى فى الممالك الإسلامية. لقد هيأتم جميع العقول فى الممالك الإسلامية لقبول السير فى الطريق، الذى سعيتم له، ألا وهو إخراج المسلم من الإسلام. إنكم أعددتهم نشأً فى ديار المسلمين، لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تُدخلوه فى المسيحية، وبالتالى جاء النشأُ الإسلامى طبقًا لما أراد له الاستعمار، لا يهتم بالعظائم، ويُحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه فى دُنياه إلا فى الشهوات، فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوأ أسمى المراكز، ففى سبيل الشهوات، إنه يجود بكل شئ للوصول إلى الشهوات " أ.هـ
إن همهم وخطتهم أن يوهموا الناس أنهم مسلمون حتى يخدِّروهم بهذه المشاعرة الباردة والخاوية، لكن يعملون على تفريغ العقائد من حيويتها وقوتها الدافعة، ويحَوِّلونها إلى محفوظات فلسفية كلامية ولو كانت بألفاظ شرعية شريفة، ويعمدون إلى أركان الإسلام وعباداته وإفراغها من روحانياتها الإيجابية، وتحويلها إلى طقوس رياضية كهنوتية لا تؤثر في واقع المسلمين شيئًا، فلا تزيدهم تقوى، ولا تزكي لهم نفسًا ولا تطهر لهم خُلقًا ولا تأمرهم بمعروف ولا تنهاهم عن فحشاءَ ولا منكر، مما جعله الله تعالى من وظائف وآثار تلك العبادات العظيمة، ففي الصلاة قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]، وفي الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، وفي الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:103]، وفي الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197]، فأين ىثاره هذه في حياة المسلمين؟ لقد تحوَّلت عند جماهير المسلمين عبادات خاوية لا تأثير لها على سلوكهم وأخلاقهم، ولا تضبط تعاملاته مع العدو والصديق.
إذن فقد اتفق هؤلاء أو تعاونوا على إفراغ الإسلام من حقيقته مع إبقاء الشعور بالانتماء الموروث، فيتفَلَّتَ من الالتزام ويدعي الإسلام، ويخدع ويخون ويتشدق بالإسلام، ويسب الدين والقرآن والكعبة ويدَّعي الإسلام، ويلقي شريعة الله تعالى وراءه ظهريًّا ويستبدلها بُزبالات الأذهان ويدَّعي الإسلام، ويترك الصلاة ويدعي الإسلام، ويخرج من الإسلام ويدَّعي الإسلام!! ثم تقول لهم المرجئة: لا عليكم، لن تُراعوا، ويكفيكم من الماء خريره ومن الساقية نعيرها! يكفي أنكم تقولون: لا إله إلا الله.
قال سيد قطب في مثل هذا وأمثال هؤلاء: "واليهود - مهما بلغ من كيدهم ومكرهم - لا يملكون أن يغلبوا الفطرة البشرية، التي تجد في قرارتها الإيمان بوجود إله - وإن كانت تضل فقط في معرفة الإله الحق بصفاته الحقة؛ كما أنها تنحرف بعدم توحيد سلطانه في حياتها، فتوصم بالشرك والكفر على هذا الأساس... إنما يفلح اليهود في حقل آخر. وهو تحويل الدين إلى مجرد مشاعر وشعائر. وطرده من واقع الحياة. وإيهام المعتقدين به أنهم يمكن أن يظلوا مؤمنين بالله؛ مع أن هناك أربابًا أخرى هي التي تشرع لحياتهم من دون الله! ويَصِلُون بذلك إلى تدمير البشرية فعلا، حتى مع وهمها أنها لا تزال تؤمن بالله. وهم يستهدفون الإسلام - قبل كل دين آخر - لأنهم يعرفون من تاريخهم كله، أنهم لم يغلبهم إلا هذا الدين يوم كان يحكم الحياة. وأنهم غالِبوا أهله طالما أهله لا يحكمونه في حياتهم؛ مع توهمهم أنهم ما يزالون مسلمين مؤمنين بالله! فهذا التخدير بوجود الدين- وهو غير موجود في حياة الناس - ضروري لتنجح المؤامرة.. أو يأذن الله فيصحو الناس! وأحسب- والله أعلم - أن اليهود الصهيونيين، والنصارى الصليبيين، كليهما، قد يئسوا من هذا الدين في هذه المنطقة الإسلامية الواسعة في إفريقية وآسيا وأوربا كذلك.. يئسوا من أن يحولوا الناس فيها إلى الإلحاد - عن طريق المذاهب المادية - كما يئسوا كذلك من تحويلهم إلى ديانات أخرى عن طريق التبشير أو الاستعمار.. ذلك أن الفطرة البشرية بذاتها تنفر من الإلحاد وترفضه حتى بين الوثنيين- فضلا على المسلمين- وأن الديانات الأخرى لا تجرؤ على اقتحام قلب عرف الإسلام، أو حتى ورث الإسلام!. وأحسب - والله أعلم - أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود والصهيونيون والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية أو عن طريق التبشير؛ فعدلوا إلى طرائق أخبث، وإلى حبائل أمكر.. لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع في المنطقة كلها تتزيا بزي الإسلام؛ وتتمسح في العقيدة؛ ولا تنكر الدين جملة.. ثم هي تحت هذا الستار الخادع، تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير وبروتوكولات صهيون، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل!. إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام- أو على الأقل تعلن احترامها للدين - بينما هي تحكم بغير ما أنزل الله؛ وتقصي شريعة الله عن الحياة؛ وتحل ما حرم الله؛ وتنشر تصورات وقيما مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية؛ وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام لتدمير القيم الأخلاقية الإسلامية، وسحق التصورات والاتجاهات الدينية؛ وتنفذ ما نصَّت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونيين، من ضرورة إخراج المرأة المسلمة إلى الشارع، وجعلها فتنة للمجتمع، باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والإنتاج؛ بينما ملايين الأيدي العاملة في هذه البلاد متعطلة لا تجد الكفاف! وتيسر وسائل الانحلال وتدفع الجنسين إليها دفعا بالعمل والتوجيه.. كل ذلك وهي تزعم أنها مسلمة وأنها تحترم العقيدة! والناس يتوهمون أنهم يعيشون في مجتمع مسلم، وأنهم هم كذلك مسلمون! أليس الطيبون منهم يصلون ويصومون؟ أمَّا أن تكون الحاكمية لله وحده أو تكون للأرباب المتفرقة، فهذا ما قد خدعتهم عنه الصليبية والصهيونية والتبشير والاستعمار والاستشراق وأجهزة الإعلام الموجهة؛ وأفهمتهم أنه لا علاقة له بالدين. وأن المسلمين يمكن أن يكونوا مسلمين؛ وفي دين الله؛ بينما حياتهم كلها تقوم على تصورات وقيم وشرائع وقوانين ليست من هذا الدين! وإمعانًا في الخداع والتضليل؛ وإمعانا من الصهيونية العالمية والصليبية العالمية في التخفي، فإنها تثير حروبا مصطنعة - باردة أو ساخنة - وعداوات مصطنعة في شتى الصور، بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية، وتحرسها بالقوى الظاهرة والخفية، وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة! تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات المصطنعة، لتزيد من عمق الخدعة؛ ولتبعد الشبهة عن العملاء، الذين يقومون لها بما عجزت هي عن إتمامه في خلال ثلاثة قرون أو تزيد؛ من تدمير القيم والأخلاق؛ وسحق العقائد والتصورات؛ وتجريد المسلمين في هذه الرقعة العريضة من مصدر قوتهم الأول.. وهو قيام حياتهم على أساس دينهم وشريعتهم.. وتنفيذ المخططات الرهيبة التي تضمنتها بروتوكولات الصهيونيين ومؤتمرات المبشرين؛ في غفلة من الرقباء والعيون!. فإذا بقيت بقية في هذه الرقعة لم تجز عليها الخدعة؛ ولم تستسلم للتخدير باسم الدين المزيف؛ وباسم الأجهزة الدينية المسخرة لتحريف الكلم عن مواضعه؛ ولوصف الكفر بأنه الإسلام؛ والفسق والفجور والانحلال، بأنه تطور وتقدم وتجدد.. إذا بقيت بقية كهذه سلطت عليها الحرب الساحقة الماحقة؛ وصبت عليها التهم الكاذبة الفاجرة وسحقت سحقا، بينما وكالات الأنباء العالمية وأجهزة الإعلام العالمية خرساء صماء عمياء! ذلك بينما الطيبون السذج من المسلمين يحسبون أنها معركة شخصية، أو طائفية، لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين؛ ويروحون يشتغلون في سذاجة بلهاء - من تأخذه الحمية للدين منهم وللأخلاق - بالتنبيه إلى مخالفات صغيرة، وإلى منكرات صغيرة، ويحسبون أنهم أدوا واجبهم كاملا بهذه الصيحات الخافتة.. بينما الدين كله يسحق سحقا، ويدمر من أساسه؛ وبينما سلطان الله يغتصبه المغتصبون، وبينما الطاغوت - الذي أمروا أن يكفروا به - هو الذي يحكم حياة الناس جملة وتفصيلا!. إن اليهود الصهيونيين والنصارى الصليبيين يفركون أيديهم فرحا بنجاح الخطة وجواز الخدعة؛ بعدما يئسوا من هذا الدين أن يقْضوا عليه مواجهة باسم الإلحاد، أو يحوِّلوا الناس عنه باسم التبشير، فترة طويلة من الزمان.. إلا أن الأمل في الله أكبر؛ والثقة في هذا الدين أعمق، وهم يمكرون والله خير الماكرين. وهو الذي يقول: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّـهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}[إبراهيم: ٤٦]. {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}[إبراهيم: ٤٧][ في ظلال القرآن:(2/ 1032-1034)].
ومع أن أكثر هؤلاء الحكام يقومون بالنيابة بدور اليهود والنصارى حتى على فرض أنهم لا يشعرون! ويعلنونها حربًا على من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية يعني على من يريد أن: "يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله" ويأتي بعضٌ من"علماء!" ينتسبون إلى منهج الإسلام والسنة والسلف الصالح، يفتون بخارجية المطالبين بتحكيم الشرع وبنفاذ أحكام ولاّة الأمور فيهم، فما ندري مَن هم الطواغيت؟! ومَن هم الخوارج على الكتاب والسنة ومنهج وفهم السلف الصالح؟!.
فقد وصل العلم والفقه والمنهج ببعضهم أن يفتي لهؤلاء الحكام في دماء المسلمين الخوارج! لأنهم خرجوا أو يفكرون أو ينوون الخروج على السلطان! بل لأنهم خرجوا عليه وحاربوا اليهود!
وقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33]، يقرر عقوبة هذا العنصر الخبيث وهم الخوارج، وجريمتهم هي الخروج على الإمام المسلم الذي يحكم بشريعة الله، والتجمع في شكل عصابة، خارجة على سلطان هذا الإمام، تُرَوِّع أهل دار الإسلام؛ وتعتدي على أرواحهم وأموالهم وحرماتهم. ويشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك خارج المصر بعيدا عن مدى سلطان الإمام. ويرى بعضهم أن مجرد تجمع مثل هذه العصابة، وأخذها في الاعتداء على أهل دار الإسلام بالقوة، يجعل النص منطبقا عليها. سواء خارج المصر أو داخلة. وهم بخروجهم على حاكم يحكم بشريعة الله؛ ويعتدون على أهل دار الإسلام المقيمين للشريعة- سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمنين بعهد- لا يحاربون الحاكم وحده، ولا يحاربون الناس وحدهم. إنما هم يحاربون الله ورسوله. . .كل هذا في عقوبة تكفير الخوارج.
قال سيد قطب بعد أن ذكر معنى ما سبق: " كما أن للنص - في صورته هذه - مفهوما آخر متعينا كهذا المفهوم - هو أن السلطان الذي يحق له - بأمر الله - أن يأخذ الخارجين عليه بهذه العقوبات المقررة لهذه الجريمة، هو السلطان الذي يقوم على شريعة الله ورسوله، في دار الإسلام المحكومة بشريعة الله ورسوله.. وليس أي سلطان آخر لا تتوافر له هذه الصفة، في أية دار أخرى لا يتوافر لها هذا الوصف.. نقرر هذا بوضوح، لأن بعض أذناب السلطة في كل زمان، كانوا يفتون لحكام لا يستمدون سلطانهم من شريعة الله ولا يقومون على تنفيذ هذه الشريعة، ولا يحققون وجود دار إسلام في بلادهم، ولو زعموا أنهم مسلمون.. كانوا يفتون لهم بأن يأخذوا الخارجين عليهم بهذه العقوبات - باسم شريعة الله - بينما كان هؤلاء الخارجون لا يحاربون الله ورسوله؛ بل يحاربون سلطة خارجة على الله ورسوله.. إنه ليس لسلطة لا تقوم على شريعة الله في دار الإسلام، أن تأخذ الخارجين عليها باسم شريعة الله.. وما لمثل هذه السلطة وشريعة الله؟ إنها تغتصب حق الألوهية وتدعيه؛ فما لها تتحكك بقانون الله وتدعيه؟!"[ في ظلال القرآن(2/878-879)]
إن أصل التكفير، الذي هو الحكم بالكفر على من يستحقه وممن هو أهله، أصل ثابت في الشرع، أما التكفير الذي هو إيقاع الناس في الكفر فهذا نفسه كفرٌ. فالأول أصله شرعي وأخطأ الناس في تفريعه وتطبيقه، والثاني أصله وفرعه مناقض لأصول الإسلام وفروعه؛ والأوَّل منهج الخوارج، والثاني منهج المرجئة؛ فأيهما أخطر وأضر؟!
وإن شئت فقل: المرجئة تُضِل الناس وتستدرجهم للضلال، والخوارج يعاقبونهم على الضلال، بغير عقوباته الشرعية ولا قواعده المرعية، وإنما بعقائدهم وسلوكاته البدعية.
وأعتقد أن أمر الربط بين أهل الإرجاء والعَلمانيين واضح، فهما يشكِّلان وجهتان لعملة واحدة، فأهل الإرجاء أخرجوا العمل من مسمى الإيمان، وأسلموا كلَّ دعيٍّ ولو كان عدوًّا للإسلام وأـهله محاربًا لشريعته، مواليًا لليهود والنصار، مُظاهرًا لهم على المسلمين... وهذا خدم العلمانيين من أهل الكلام والأقلام والإعلام، فخاضوا في قضايا الإسلام وأهله طعنًا ولعنًا، والعلمانيين من أهل الحكم والسلطان الذين بنذوا كتاب الله وراءهم ظِهريًّا، وآمنوا بمقررات أمم الغرب ودساتيرها المخالفة لصرح القرآن، ثم استخدموا فتاوى أهل الإرجاء في محاربة أهل السنة، والذين عملوا عمل الكنيسة قديمًا في أوروبا حين قام القس بتطويع الجماهير لقيصر والملك، باسم الرب والكنيسة، حتى كان منتهاها أن رفضت أوروبا الدين حين يكون أفيون الشعوب.. وقد حدث اليوم مثله لطثير من مشايخ الإسلام الذين عملوا بالإسلام ما عملت القس بالنصرانية، فطوَّعوا الجماهير للحكام باسم الدين وباسم طاعة ولي الأمر وباسم أكذوبة ولابة المتغلب وباسم البدعة المسماة: نصيحة الحاكم سرًّا، فالتقيا من حيث اختلفا!
إن كثيرًا من الشعوب الإسلامية والشباب المسلم أعرض عن كثير من مشايخ، رغم ما حولهم من هالة وتبجيل، ورغم ما لهم من مناصبَ رسمية مرموقة أو شعبية عريضة.
وإذْ بدأ رفض أشخاص بعض العلماء لما يقومون به من مواقف غير مُشرفة، فنرجو ألَّا يصل الأمر إلى رفض العلم ذاته، والدين نفسه، على سنن أوروبا، وهذه دعوة صادقة للغيورين، ان يبحثوا لهذ المشكلة عن حلٍّ، ولهذا الداء عن دواء.. وإن دين الله تعالى فوق كل اعتبار.. فوق الأشخاص وفوق الهيئات والدول..
فاللهم قنا شرَّ الضلالتين، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
0/ 09/ 2014
------------
(*)- كتبتُ هذا عام 2000م، وما زال مصداقه يتكرر!
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: