تشديدات القرآن - تشديدة (7): بأي ذنبٍ قُتِّلَتْ

منذ 2016-02-01

كم من الناس لهم حكم الوائد القاتل ولهم وزره وإثمه، لا لشيء إلا أنهم يؤيدون أو يرضون هذا الوأد والتقتيل.. يأتي يوم القيامة رجل قاتل.. وآخر في بيته بينهما الصحاري والقفار.. ومياه البحار.. ويأتون في الوزر سواء.. في الوأد سواء! ولولا أن صورة سبب نزول الآية داخلة في معنى الآية قطعًا، لقلنا: إن ما تحدَّثَت عنه الآية بهذ التشديد والتعديد لم يحصل إلا الآن، ولقلنا إن الآية كانت مُدَّخرة لزماننا هذا، لوحشية تقتيلٍ لم يسمع الزمانُ بمثلها!

قال الله تعالى: { وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير:8-9]

الموءودة؛ يقال: وأده فهو يئده وأدًا، ووأدةً.

فالموءودة هي البنت كان العرب يَئِدونها؛ أي يدفنونها وهي حيّة؛ خشية أن تجلب لهم عارًا يلحقهم بفساد ابنتهم خُلُقيًّا.

وقد كانوا أيضًا يقتلون الأولاد ذكورًا وإناثًا من الإملاق، أي:  من الفقر، أو خشية الإملاق، يقتلونهم من الفقر الواقع أو المتوقّع.

وإذا شمل الذكور والإناث، فإن {سُئلت، وقتلت} بتاء التأنيث يكون المقصود بها النفس، لتشمل الجنسين، وهذا أعم وأصدق على الواقع قديمًا وحديثًا، وإن كان الأكثر أنه واقع في البنات!

{سُئلت}: ورد في قراءتها وجهان: سُئِلتَ، وسَألت.

الأول بالبناء للمجهول: فقرأها عامة قرّاء الأمصار هكذا: {سُئِلت}، مضمومة السين مكسورة الهمز مفتوحة اللام؛ مبنية لما لم يُسمَّ فاعله (مبني لمجهول)، وظاهره أن الموءودة هي التي تُسأل عن الذنب الذي قتلوها به ووأدوها بسببه!

والمعنى: سُئِلت بأيِّ ذنب قُتِلَت، أي بأيِّ ذنب قُتِلْتِ؟

والأصل أن يُسأل المتهم أو الجاني؛ وهو القاتل الوائد لها، فلماذا هي مظلومة وتُسأل؟!

الثاني بالبناء للمعلوم: وقرأه أبو الضحى مسلم بن صبيح وكان ابن عباس أيضًا يقرأ: {وَإذَا المَوْءُودَةُ سَألَتْ}، بفتح السين والهمز، مبني للمعلوم. بمعنى: سألت الموءودة الوائدين لها من والديها أو غيرهم: بأي ذنب قتلوها، وبأي جرم دفنوها؛ فسألت قَتَلَتها وطالبتهم بدمائها"[الطبري، 24/ 247]..

 وسؤال {بأي ذنبٍ قُتِلت؟}: ليس سؤالا استفهاميًا عن ذنبها، وإنما سؤالُ تبكيت وتقريع وتوبيخ للمجرمين القَتلة؛ لأنهم يقتلونها صغيرة لم تبلغ الإثم، فهي القتيلة البريئة لا ذنب لها!

قال الحسن: أراد الله أن يوبخ قاتلها؛ لأنها قُتلت بغير ذنب؛ فسئلت فلم يوجد لها ذنب.

وذلك "سؤالُ توبيخ لقاتلها، وهو أبلغ من سؤاله؛ لأن هذا مما لا يصلح إلاّ بذنب، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها رجع الأمر إلى قاتلها"[ ابن فورك: 3/ 158]، و" ليكون ذلك تهديدًا لقاتلها، فإذا  سئل المظلوم فما ظن الظالم إذا؟!"[ابن كثير:8 /333].

قلتُ: وأيضًا لأن الأصل أن المقتول بجريمة، أو المأخوذ بعقوبة جريرته، لا بد له أن يكون قد عَلم بما قُتِل به، وأن يُعطى الفرصة ليدافع عن نفسه، فلعله بريء، أو لعل جرمه لا يستحق هذه العقوبة، وخاصة عقوبة الإعدام، فكونها قُتِلت من غير أن تُعلم بالذنب الذي قُتِلت له، هذا كافٍ في إدانة القاتل، ومن ثم لم يعد لسؤاله فائدة، فأهمِل وزاد عليه الذنب!

ثم إن فيه إهمالا للمبالغين في الإجرام، وعدم الاهتمام بمساءلتهم واحتقارهم حتى بعدم سؤالهم وتقريرهم.

ثم إن فيه تتمثل قمة العدالة ودقتها المتناهية، ففيه الجزاء من جنس العمل؛ فكما أنه لم يَسألها حين قتلها عن الذنب الذي اتهمها به وقتلها بسببه، فقتلها دون أن يعطيها فرصة المرافعة والمدافعة؛ فكذلك اليوم لا يُسأل ولا يُعطَى حتى فرصة الكلام، خاصة أن الجريمة ثابتة.. فهو بين يدي من لا يحتاج إلى شاهد ولا دليل سبحانه وتعالى، أضف إليها شهادة {كِرَامًا كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}[الانفطار:11-12]، محفوظ في كتاب لا تحترق أوراقه في أروقة النيابة ولا تُتلف ملفَّاته في أدراج المحكمة: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:49].

قال الإمام الشافعي رحمه الله: "كان بعض العرب تقتل الإناث من ولدها صغارًا خوف العَيلَةِ عليهم، والعار بهم، فلما نهى الله عز ذكره عن ذلك من أولاد المشركين دل على تثبيت النهي عن قتل أطفال المشركين في دار الحرب، وكذلك دلت عليه السنة مع ما دل عليه الكتاب، من تحريم القتل بغير حق"[تفسير الشافعي].

فهذه هي شريعتنا، ألا نقتل أطفال المشركين.. فإذا بالموت يُصبُّ حُمَمًا على أطفال المسلمين، ذكورًا وإناثًا! بغير ذنب، إلا أنهم أولاد مَن ينتسبون إلى الإسلام، أو يُخشى أن يكبروا فيقولوا: ربُّنا الله.

ثم الكلمة بيت القصيد؛ هي: قُتِلْتُ قُتِلَت قُتِّلَتْ.

قُتلت: فيها قراءات ثلاث:

الأول: بالتخفيف في {قُتِلَتْ}: حيث قرأها جمهور القُرَّاء بتخفيف التاء وكسرها، مع البناء للمجهول.

بالتخفيف أيضًا، لكن بالبناء للمعلوم {قُتِلْتُ}، فقد قرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس وأبو عبد الرحمن وابن يعمر وابن أبي عبلة، وهارون عن أبي عمرو {سَأَلَتْ} بفتح السين، وألفٌ بعدها: {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلْتُ} بإسكان اللام، وضم التاءَ الأخيرة.[زاد المسير:4 /408].

الثاني: بالتشديد في {قُتِلَتْ}: حيث قرأها أبو جعفر بتشديد التاء: {قُتِّلَتْ}.

فما دلالة التخفيف والتشديد هنا؟

إن قراءة التخفيف تحكي الفِعلة، من غير إشارة إلى عدد القتلى أو القَتلات أو القَِتلات؛ أي: طريقتها.

أما القراءة الثانية بتشديد التاء {قُتِّلَت} وكأنَّ الموءودة هذه قُتِلت ثم قُتِلَت ثم قُتِلت.. عدة قتلات، أو قُتِلت قتلًا شديدًا شنيعًا فظيعًا!

كان وأدهم للبنات ذلك الزمان يُعدُّ شديدًا فظيعًا، وكانت صورته أن يقول أبُ البنت التي قاربت الست سنوات، يقول لأمها زيِّنيها فإني ذاهبٌ بها لزيارة أخوالها أو أقاربها، ويكون قد أعدَّ لها بئرًا، فإذا وصل إليه، يقول لها: انظري في البئر، فتأتي ببرائتها وثقتها على حافته لترى ما ذا أراد أبوها أن يُفرِّجها! ثم يدفع بها في قَعره، ويعود أدراجه، وقد تخلص من عار يخشاه أو فقر يخشاه أو يتوقعه، لا يريد فلذة كبده أن تشاركه أو تشاطره لقمة العيش! أو يخشى من أن تُسَوِّد وجهه! لذلك كان: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[النحل:58 -59].

أو تقعد أمُّها حين الولادة على شفا حفرة، فإن وضعتها بنتا ألقت بها في الحفرة وردمتها، وإن كان ذكرًا عادت به!

كان هذا من أفظع الوأد وأشنعه، أنكره القرآن، وأحيا المرأة منه، وأطال عمرها، ووفر كرامتها.. وهي اليوم لا تَرُدُّ له الجميل، إلا من رحم ربُّك! وقليلٌ ماهنَّ؛ فتتهمه بالرجعية والتضييق عليها، وتعبيدها للزوج، وعدم إنصافها في الميراث، ولو عقلت لقالت: خذوا الميراث كلَّه مقابل ما تركتموني أحيا وألغيتم حكم الوأد، بل أزيدكم من مالي حقَّ ما أكرمتموني بالإعلان النبوي: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»(الألباني؛ صحيح الجامع، برقم:[2333 ]).

أترون أن هذا الوأد والتقتيل قد انتهى؟

كلا، لم بنتهِ، بل زاد واشتد!

انظر إلى بنات المسلمين كيف تئدها أطنان المتفجرات والصواريخ، فتئدها حية، وتردمها ردمًا في بيتها الذي تسكنه، أو مدرستها التي تفر إليها..

تنظر فإذا هي قُتِّلت تقتيلا، وقُطِّعت تقطيعًا، لا يستخرجون إلا أشلاءها مُزعًا كالقماش!

تُقتَل في اليوم قتلات، وفي الليل قتلات قبل القتل الأخير، كلما حلقت طائرة طارت روجها معها؛  تنتظر حُمَمَ الموت تسقط عليها، كلما أخطأتها واحدة قالت هي التي بعدها..

فها قد قُتِّلت قتلا شديدًا فظيعًا... وقتلًا عديدًا كثيرًا..

كانوا في الجاهلية الأولى يأخذونها من عند أمها، ويئدونها بعيدًا عن عين رأسها وعين قلبها.. أما الآن فأشد وأفظع وأكثر وأدًا وتقتيلا.. إنهم يئدونها تحت بيتها الذي يصير ركامًا كأنه طحين.. ويئدونها مع أمِّها؛ يخلطون لحمها بلحم أمها!

كم مؤءودة ستُسأل أو تَسأل؟ وبأي ذنب قُتِلت؟

كم وائد قاتل: يكون يوم القيامة، أمام محكمة العدل الربانية، بعد أن فشلت محاكم الأرض في طرح السؤال والإجابة عليه؟

كم وائد سيدفع الثمن يوم القيامة أمام محكمة العدل الربانية، بعد أن تواطأت محاكم الأرض على دم الموءودات؟

كم موءودة قُتِّلتْ، كم نفسًا أُزهقت.. كم وأدًا وقتلا حصل.. كثرةَ عدد، وشِدَّةَ تقتيل؟

والنصيب الأوفر من موءودات المسلمين.. من الأنفس المسلمة ذكورًا وإناثًا.

بأيدي الروافض الملاعين..

بأيدي الصهاينة والصليبيين..

بأيدي أدعياء الإسلام!

أو بمباركتهم وإعانتهم!

أو بتواطئهم وتصهينهم!

أو بأموالهم وسلاحٍ يدفعون ثمنه لأسيادهم، ومن أموال الموءودات!

ما أكثر الوائدين فعلا أو حُكمًا! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها»(الألباني؛ صحيح الجامع، برقم:[689])، وفي رواية: «مَن شهدها فأنكرها».

وعن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب قَتَلَ نفرًا، خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه قَتل غيلة، وقال عمر: "لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا"(الإمام مالك؛ الموطأ، برقم:[13]، وفي  صحيح البخاري: "لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم"(برقم:[ 6896]). فكل من اشترك أو تمالأ أو تواطأ أو فرح أو رضي... ومن الرضا السكوتُ مع قدرة الإنكار ولو بالاستنكار!

يدخل في ذلك حتى علماء المسلمين الذي يرون ويسمعون، ثم يسكتون، ينتظرون الوائد يأذن لهم بالاستنكار!

كم من الناس لهم حكم الوائد القاتل ولهم وزره وإثمه، لا لشيء إلا أنهم يؤيدون أو يرضون هذا الوأد والتقتيل.. يأتي يوم القيامة رجل قاتل.. وآخر في بيته بينهما الصحاري والقفار.. ومياه البحار.. ويأتون في الوزر سواء.. في الوأد سواء! لأنه دعا أو رضي أو تشفَّى أو شَمَت، أو حتى صَمَتَ وهو يقدر على الصِّياح .. فضلا عن يكون أيَّد أو أعان، أو دفع للقاتلين ثمن السلاح ، أو أشار إليهم بأصبعه-عَمالةً- للقاتيلن.

ولولا أن صورة سبب نزول الآية داخلة في معنى الآية قطعًا، لقلنا: إن ما تحدَّثَت عنه الآية بهذ التشديد والتعديد لم يحصل إلا الآن، ولقلنا إن الآية كانت مُدَّخرة لزماننا هذا، لوحشية تقتيلٍ لم يسمع الزمانُ بمثلها!

لكنه القرآن الحكيم، حفيظ اللفظ، واسع المعنى، حكيم الدلالة، بديع التوصيف...

والله أعلم.

تاريخ النشر: 30 شوال 1435 (26‏/8‏/2014)

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 7
  • 2
  • 24,496
المقال السابق
(6) لَيُبَطَّئَنَّ.. لَيُبْطِئَنَّ (2/ 2)
المقال التالي
(8): لطائف: يَهَدِّي (1)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً