من أسرار هويتنا الإسلامية

منذ 2014-08-26

إنها هُوية لو بِتْنا نتحدث عن أسرارها لعجزنا، ويكفي أنها الوحيدة التي تنظر بمنظورٍ غير مقلوب، ولا منكوس؛ فهي ترى البشريَّ يتَعالى على جميع المخلوقات بلا حدود، وتقف عند خبَرِ السماء لتحترم الحدود؛ بعكس بني علمان.

اندماجٌ وانصِهار، أو تغلُّب وقهر حتَّى المَحو؛ هذه حال الشُّعوب حين يتلاعب بِهُويَّتِها أهواءُ البشر. ولقد قرَأنا كثيرًا عن شعوب احتلَّت شعوبًا، ثم يَحدث -بعد فترةٍ من الغزو والصراع والنِّزاع- انهيارُ هويَّة أحدِهما متأثرًا بالآخَر، فيَنصاع الأوَّل رضوخًا لسطوة الثاني، بعد تناسي آثاره البائدة. وهناك أمثلة كثيرة على مثل هذا في التاريخ. والاحتمال الآخَر هو أن يحدث تَمازُجٌ بين الهويتين المتصارِعَتين يتمثَّل في اندماجٍ للُّغة والدِّيانة والتعايش؛ ليكون هذا مولدًا لهُويَّة جديدة نتاجَ هاتين الهويتين القديمتين. إلا أنَّ ذلك لم يحدث أبدًا مع الهوية الإسلاميَّة؛ تلك الهُوِيَّة التي ترفض أن تمتزج معها أخرى، أو تتَّحِد مع أخرى؛ يقول تبارك وتعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].

ففي كلِّ مرحلة تُثبت الشُّعوب الإسلاميَّة تحدِّيَها للتمسُّك بهويتها، وتعلن حالةَ تأهُّبِها القصوى لرفض احتلال الهويَّة، وتضحِّي بالدِّماء والأعراض والأرواح، والغالي النَّفيس في مقابل تلك الهويَّة؛ لذا فقد أتعب ذلك الغازي، وظلَّ يبحث عن السِّر وراء تمسُّك هؤلاء بها، وتصالبهم للدِّفاع المستميت عنها كوَحدةٍ كاملة ومستقلَّة في ذات الوقت، وحينما عرف الغازي صفحةً من سرِّ هذه الهوية، وخطَرِها على بقائه، بدأ في التخطيط لتدميرها على قاعدة: (إنَّ القَطْر يفتِّت الصخر)، فتراجع بخطوةٍ من خطواته الدمويَّة الشرسة؛ ليتقدَّم بهدوءِ الحيَّة ألف خطوة؛ يقول تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] فنقشَ آثاره السامَّة على البعض من أبناء جلدتنا، حتَّى ذُهِلنا والله وصُدِمنا؛ من أين كلُّ هذا الفكر العجيب وفد؟ ومتى يرجع عنَّا بلا عودة؟

لقد أدَّى نتاجُ ودور هذا الفكر الوافد ما لم يؤدِّه الغُزاةُ أنفسُهم؛ ذلك أنَّ هؤلاء المتفيهقين من (بني عَلْمان) يتكلَّمون بألسنتنا، فكانوا كقوالبَ جاهزةٍ في يد الغزاة، وموردًا فكريًّا منسجِمًا مع الأعداء، يستخدمونه مباشرةً للتمييع والتحريف، والصدِّ عن دين الله. ولما برز هؤلاء، كانوا أشدَّ جرأةً وأعلى صوتًا، وأسرع تلوُّنًا بلوننا من (الخواجة الأصفر) المتكسِّر في لغته، المُتَتعتِع في أدائه، غير المقبولِ -لا اسمًا، ولا رسمًا- في مجتمعاتنا.

لكن هذا الفكر مهما حاول أن يَزْدان بالجميل من القول والمنطق، فإنَّه سيظلُّ يضع العقل موقع المُصادم للشَّرع، وهذا شراك له، وليس معه؛ لأنَّ البشر مجبولون على العبودية لربِّ البَرية، متوجِّهون بفِطَرهم وروحهم إليه؛ فمهما حاول هؤلاء تغريرَ العباد في فترةٍ ما بانتصاراتهم اللاَّمعة، وأبواقهم العالية بفكرة انتصار العقل واستعلائه على الشَّرع، فلن يدوم هذا طويلاً. ومهما تلوَّن هؤلاء بألوان شتَّى؛ من علمانيَّة، أو اشتراكية، وليبراليَّة، وغيرها، أو كانت انحرافاتُهم أقلَّ حِدَّةً مِمَّا مضى، فسيظلُّ الحقُّ حقًّا، والباطل باطلاً، وسيظلُّ العقل الصريح يأبى أن يقوم بدور المصارع للتَّنْزيل، ولا يرضى إلا أن يأتي طوعًا لخالقه، ومدبِّر أمره عزَّ وجلَّ لِيُمارس وظيفته الأساسية، وهي توظيفه في مجالاته المتعدِّدة وإعمار الأرض طاعة لربِّ البرية.

وإنْ كان هؤلاء يستخدمون دومًا هذه اللُّعبة القديمة الجديدة في استقلاليَّة العقل وتنوُّرِه؛ للضحك على العقول، ولفصل الدِّين عن الدُّنيا، ومن ثَمَّ تكوين هويَّة مناهضة للهويَّة الإسلامية - فإنَّ الكثير من الأسرار -لرُبَّما لا يدري عنها هؤلاء الغزاة- قد فاتتهم، ولسوف تُعجزهم مستقبَلاً إن شاء الله. فإنَّ هذه الهوية تحمل من ورائها عقيدةً راسخة، وإيمانًا بالله واليوم الآخر، والغيب، والبعث، والحساب، والجنة والنار، والشهادة في سبيله عزَّ وجلَّ عقيدةً تؤصِّل مبدأ العدل والمساواة والأخوة بصِدْق، وتغذِّي مشاعر الضمير بمبدأ الثَّواب والعقاب، وأنه لا مفرَّ من الجزاء، ولا هروب منه، حتَّى وإن هرب المرءُ منه في هذه الدنيا، فإنه سيجد هذا المبدأ يرافقه ويبحث عنه تحت الثَّرى، بل وما وراء ذلك؛ في بعثٍ مَهيب رهيب، مخذل أو مجزئ ومبهج.

إنَّه مشهد يجعلك تتعامل مع قضيَّتِك بتجرُّدٍ تام، وعدلٍ وإحسان؛ لأنك تراقب مَن يراك، ويعلم السرَّ وأخفى. ومَن يعتقد في هذه الهُوية فلا بُدَّ أن تختلجه مشاعِرُ متعدِّدة، وينعقد على قلبه رؤيةٌ نادرة من نوعها في هذا الكون؛ رؤيةٌ تجعله يرى وريده النابض هيِّنًا في سبيل تحقيق مطالب تلك الهويَّة، وتجعل هواه الذي يستنشقه في خيار بين هُوية إسلاميَّة، أو حافة الهاوية وعقاب الربِّ تبارك وتعالى مدبِّر هذا الكون ورازقه، المحيط به وبأسراره ودقائقه.

إنَّها هُويةٌ تُخاطب الضمائر التي لا تُرى بمقياس المادَّة، ولا يستشعر دِفْأها مَن اعتاد سقيعَ الآلات؛ فالهوية الإسلامية إذًا تلعب على أوتار فيصليَّة في مستقبل المرء؛ ذلك المستقبل الذي لا يَقتصر على عمره في هذه الدُّنيا، بل هو مستقبَلٌ ممتدٌّ ومتواصل حين يلقى المرءُ ربَّه. ونحن كمسلمين نؤمن بذلك، ونَدِين له، ولا يسألنا امرؤٌ قطُّ يَدِين بدين بني علمان منشغِلٌ بِتُرَّهات الفلاسفة وحماقات المعتزلة؛ ليقول لنا: إنَّنا نستغلُّ الدِّين ومشاعرَ البشر، ونشتري به لعاعةً من الدُّنيا، بل إننا نستغلُّ الدنيا للدِّين، ولطاعة ربِّ هذا الدين، ولكنك أيُّها المسكين لَمَّا فصلتَ الأولى عن الثانية، ورأيتَ الجزء كُلاًّ فانخدعتَ بزينةٍ فانية، ولم تستطع أن تتخيَّل أنَّ ثمة أناسًا يبيعون هذا الجزء المُزْدان لديك رخيصًا في سبيل غيبٍ عن عقلك المحدود.

والهوية أيضًا تربط المسلم بضميرٍ حي تجعله يرى الأمر من باب الواجب الشرعي حين يتأصَّل فيه مبدأ الأخوَّة والترابط المجتمعي بين المؤمنين، والتراحم بينهم، بل والترابط الوطني بينه وبين استخلافه في الأرض وتعميره لها، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وغيرها من المبادئ الأصيلة في الإسلام.

ومن المنطلق التاريخي؛ هي تجعله يرى الحفاظَ عليها واجبًا مقدَّسًا لبقاء رسالة الإسلام على ظهر الأرض، فتُطْلِعه على وظيفته المحوريَّة، ودوره الرئيسي في هذا العالَم مهما كان جنسُ هذا المرء، أو لونه، أو ثقافته، أو عِرْقه، أو نسَبُه، فإنه ينبغي أن يكونَ له دورٌ محوريّ في إبقاء هذه الهويَّة التي هي امتدادٌ طبيعي، وإشارة خفَّاقة للرِّسالات السماوية، ومنهج التوحيد على ظهر الأرض.

إنَّ الهوية الإسلامية تتميَّز بجدارةٍ عن غيرها من الهويات بأنَّها اختارَت الشيء الوحيد البسيط المتساوي بين جميع البشر؛ ذاك الشيء الذي لا يمكن أن يَتنافس عليه أحد إلا ويصل إليه، فلقد فُضِّل بنو البشر على بعضهم بالكثير من الأشياء التي تقسمهم على أساسٍ عنصري وطبَقي، أو اجتماعي، أو ثقافي، دون أن يكون لهم دَخْل أو يدٌ فيه، إلا ذاك الشيء الوحيد المتساوي بين جميع البشر، ولا يَسعى إليه عبدٌ بإخلاص إلا ناله، ألا وهو التَّقْوى؛ يقول تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم: «يا أيُّها الناس، إن ربَّكم واحد، وأباكم واحد، ألا لا فَضْل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلاَّ بالتقوى» (الهيثمي- مجمع الزوائد، وأخرجه أحمد في مسنده، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم:2700).

إنَّها هويَّة بسيطةٌ بسَاطةَ الفِطَر السويَّة، يحدِّثك عنها الراعي المتمسِّك بعصاه يهشُّ بها على غنمه، كما يحدِّثك عن قوامها وثقلها أستاذُ الجامعة النَّزيه؛ هويةٌ ليست بحاجةٍ إلى مزيدِ عَناءٍ ولَم ترتكز أسسُها على نظريات مخترَعة من قِبَل عقول تفتقر -مهما علَتْ- إلى التقييم والترجيح والتحسين، ولم تدخل في مصانع الجدل الإنساني لتستخرج منها مخالفاتِ زيد، ومخلَّفات عبيد! فالهُوية الإسلامية إذًا نافذةٌ صغيرة، مثل أيِّ نافذة، في شكلها الظاهر، وإطارها الخارجي، وهذا ما يراه منها المنخدعون في بني علمان.

لكنها ليست كمثل أي نافذة أخرى؛ حيث تفتحك على أفُقٍ رحب من الثوابت المؤثِّرة الفعالة التي لا تَقْبل بديلاً، ولا ترضى بأية تنازلات، أو حتى مداهنات. وسرُّ فعاليتها القوية أنَّها ثوابِتُ قدسيَّة مُنَزَّلة بالوحي من الله عزَّ وجلَّ لا تقبل الجدال ولا التغيير، كما أنَّ نتائجها علويَّة، متمثِّلة في وعودٍ ربَّانية صادقة، من حيٍّ قيوم قادرٍ على تحقيق تلك الوعود، مضمون لنا مِن لدنه عزَّ وجلَّ هذا الوعد، ولو بعد حين.

والفارق الثاني بين هذه الهوية وغيرها ليس في ذاتها، بل في الأشخاص أنفسهم؛ فالمُنافحون عن الهويات الأخرى يُنافحون عن أغراض ونظريَّات، دومًا تكون حديثة؛ لأنَّ القديم منها بائدٌ، مُثْبِتٌ باستمرارٍ فشلَه، تلك النظريات صنعَتْها عقولُهم؛ ظنًّا منهم أنَّها ستغذِّي أهواءهم، وتربِّي أجسادهم؛ ليبحثوا فيها عن المتعة والرَّفاهية، والتحسين والتقدُّمِ فحَسْب، ويبحثون فيها عمَّا يُرضي ذواتهم فقط، دون النظر البعيد فيما وراء ذلك، وتلك النظريات تحتمل الخطأ أو النجاح، وقد تُخْفِق في مجتمعٍ وتَنجح في آخَر، وقد تَحْسُن عند جنس من البشر؛ نظَرًا لظروف وعوامل ألَمَّت بهم، وتكون سيِّئة عند الآخرين.

لكن المُنافح عن الهُوِيَّة الإسلامية يبحث فيها عمَّا يُرْضِي به ربَّ الأرباب، ويثق في حسن تدبيره لهذا الكون، وفي عدالة شرعه المُنَزَّل لإصلاح وسياسة الدُّنيا وإعمارها، قبل حراسة الدين. لذا فإن آخِر ما يفكِّرون فيه هو ذواتهم، بل يعتبرونها غايةً صغرى، ووسيلة لنيل غايةٍ أكبرَ مِن مجرَّد إصلاحٍ وتحسينٍ مرتبط بوقت محدَّد، أو مرتبط بأفراد معيَّنين، كما بينَّا من قبل، وفي الوقت نفسه هم لا يحتقرون تلك الذات ولا ينقصونها قدرها، أو حقَّها، بل هي عندهم لها مكانتها وقدرها الذي لا ترتفع عنه حدَّ التقديس، ولا تنقص منه حدَّ الإكرام لذرية آدم عليه السَّلام. بل إنَّ وسطية هذه الهوية تجعلها تتعامل بميزان حسَّاس؛ إحدى كفَّتيه الدُّنيا، والأخرى الآخرة، وإن استطعت أن تغرس فسيلة فلتغرسها.

إنها هُوية لو بِتْنا نتحدث عن أسرارها لعجزنا، ويكفي أنها الوحيدة التي تنظر بمنظورٍ غير مقلوب، ولا منكوس؛ فهي ترى البشريَّ يتَعالى على جميع المخلوقات بلا حدود، وتقف عند خبَرِ السماء لتحترم الحدود؛ بعكس بني علمان. إنَّها ترى الكون كلَّه مسخَّرًا لبني آدم، وفي خدمته، ومن أجله، في الوقت الذي يرى غيرُها -إلى الآن- أنَّه حيوان من ضمن الحيوانات، ينبغي أن يحترم قوانين الغاب مثلما يحترم قوانين أسرتِه. لكنها في الوقت نفسه ترى أنَّ مكانة الإنسان لها حدود، لا تتجاوزها حين يكون حديثنا عن مدبِّر هذا الكون وخالقه.

إنَّ طالب الهُوية الإسلامية إنما هو كطالب اللّحاق بِرَكْب النُّبلاء من الأنبياء والصدِّيقين والشهداء، وحَسُن أولئك رفيقًا. إنَّها هوية فريدة ومميَّزة ولامعة، عند من يقدِّر قيمتها، ويعرف أبعادها جيدًا.

  • 3
  • 0
  • 3,176

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً