أعِنهُ بنفسك ومالك
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
من حقوق الأخوّة في الإعانة بالمال والنفس؛ أن يتفقده بشيء فاضل في وقته، أن يتفقده بشيء فاضل في ماله، أن ينظر إلى أخيه، ينظر إلى حاجاته، وقد قال بعض العلماء إن من آداب أداء هذا الحق أن لا ينتظر أن يسأله أخوه ذلك الشيء، بل يبتدأ هو ويبحث عن حاجة أخيه الذي صافاه ووادَّه في الله جل جلاله
الحق الثاني من هذه الحقوق أن يقدّم الأخ لأخيه الإعانة بالمال وبالنفس؛ لا شك أن الناس مختلفون، مختلفون في طبقاتهم، والناس بعضهم لبعض خدم؛ الغني يخدم الفقير والفقير يخدم الغني، من كان ذا جاه فإنه يخدم من كان ليس بِذي جاه، وهكذا فالناس متنوعون، جعلهم الله جل وعلا كذلك، ليتخذ بعضهم لبعض سخرياً، ورحمة ربك خير مما يجمعون، هذه سنة الله جل وعلا في خلقه، وسنة الله جل وعلا في تصنيف الناس، وهذا إذا كان كذلك فإن من حق الأخوة، من حق الصحبة الخاصة، أن يسعى المرء في بذل نفسه، في بذل ماله لأخيه الخاص؛ لأن حقيقة الأخوّة أن يؤثر المرء غيره على نفسه، كما وصف الله جل وعلا الذين امتثلوا ذلك بقوله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]،فالإيثار من حقوق الأخوّة المستحبة، فإذا كان هذا في درجة الإيثار فذاك من الخير؛ لكن نطلب شيئا أقل من الإيثار.
من حقوق الأخوّة في الإعانة بالمال والنفس؛ أن يتفقده بشيء فاضل في وقته، أن يتفقده بشيء فاضل في ماله، أن ينظر إلى أخيه، ينظر إلى حاجاته، وقد قال بعض العلماء إن من آداب أداء هذا الحق أن لا ينتظر أن يسأله أخوه ذلك الشيء، بل يبتدأ هو ويبحث عن حاجة أخيه الذي صافاه ووادَّه في الله جل جلاله، وقد كان أمر النبي كما روى مسلم في الصحيح أمر بعض الصحابة أن يلقوا ما معهم الآخرين من الصحابة في بعض الغزوات حتى قال الراوي: حتى لم يكن أحدنا يرى أن له فضلاً على أخيه. وهذا لاشك من المراتب العظيمة، لكن هذه المسألة -وهي بذل المال وبذل النفس- هذه مسألة عظيمة، ولها مراتب، فمن حقوق الأخوة أن تبذل مالك لأخيك؛ نطلب بذل المال الفاضل، إذا كان عندك شيء زائد تقرضه، وقرض المسلم مرة خير وإحسان، وإذا أقرضه مرتين فهو صدقة، كأنه تصدّق على أخيه بتلك الصدقة، كما روى ابن ماجة في سننه: « » وهذا أمر عظيم، بذل المال من غير سؤال، تتفقد حاجته، رأيته بحاجة إلى مال، رأيت حالته رثّة، رأيته بحال ليست بمحمودة، وأنت قد وسَّع الله جل وعلا عليك، فتبذل الفاضل من ذلك، تواسيه بذلك، والأحسن تواسيه بذلك، لأن في هذا بذل الفضل، ولأن في هذا إقامة عقد الأخوة، والذي يبذل مبتدءاً ليس كمن يبذل مسؤولاً، وقد قال الله جل وعلا في صفة المؤمنين {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، وكونهم رحماء بينهم يقتضي أن بعضهم يرحم بعضاً، وبعضهم يرحم بعضا فيما يحتاجه؛ يحتاج إلى بذل الجاه، يحتاج إلى بذل المساعدة، يحتاج أن تساعده في نفسه، في بيته، يحتاج أن تساعده في جهده في إصلاح شيء، ضاق وقته عن بعض الأشياء عنده مهمات وعنده سفرات، فحق الأخ على أخيه -حقوق الأخوة الخاصة- أن تسعى في ذلك، لأن عقد الأخوة الخاصة يقتضي البذل، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي قال: « » وفي الحديث الآخر حديث صحيح معروف « »
إذن فهذا الحق وهو بذل النفس؛ أن يُعَوِّدَ الأخ أن يبذل نفسه لأخيه، أن يبذل بعض وقته لأخيه، أن يبذل بعض ماله لأخيه، وأن يسعى في ذلك، يُقيم في القلب حقيقةً التخلص من الشح، والمؤمن مأمور بأن يتخلص من الشح أمر استحباب، وقد أثنى الله جل وعلا على أولئك بقوله {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} شُحّ النفس يكون بأنواع، يمكنه أن يذهب مع أخيه إلى مكان ليُعَرِّفه عليه، أو ليبذل جاه، أو ليذكره عند أحد، فيبخل بهذا الجهد، ويشح بالنفس، ويشح ببعض الوقت على أخيه.
ما حقيقة الأخوّة إذا لم يكن ثم بذل، وثم عطاء في هذه المسائل وفي غيرها؟ وقد جاء في الحديث أيضاً «الأخلاق والإقبال على الخير أن تبتدأ بالشيء قبل أن تُسأل عنه، لهذا كان بعض السلف يتفقد حاجة إخوانه من دون أن يُعرف.
» فإذا كنت موطناً نفسك في هذه المسائل أن تبذل لصفيِّك، أن تبذل لخليلك، أن تبذل لصاحبك، فإن ذلك من حقوق الأخوة التي من بذلها قبل السؤال فإنه قد أدى شيئا عظيما، ومن بذلها بعد السؤال فإنما أدى ما وجب عليه أو ما استحب له، لكن مكارمكم روي لنا من أحوال السلف أنهم دسّوا أموالا؛ دسّوا بعض المال في بيت إخوانهم من دون أن يُعلم من هذا الذي أرسل، ومن هذا الذي أعطى، وقد قال الربيع بن خثيم مرة لأهله: اصنعوا لي طعاما -وكان يحب ذلك النوع من الطعام- فصنعه له أهله كأحسن ما يكون، فأخذه وذهب به إلى أخ له مسلم ابتلاه الله جل وعلا بأنه ليس بذي لسان وليس بذي سمع وليس بذي بصر، يعني أصيب بمصيبة فقد معها البصر وفقد معها اللسان وفقد معها السمع، فإذا أتاه هذا وأطعمه أو أهدى إليه، فمن الذي يعلم بحاجته؟ من الذي يعلم بما أعطى؟ هذا الرجل لن يعلم ما فعله به الربيع بن خثيم مثلا، فأتى الربيع بن خثيم وأخذ هذه الحاجة؛ هذا الطعام الخاص الذي يحبه هو، وذهب به إلى ذلك الرجل الذي هو من إخوانه المؤمنين في بلده، فأخذه وأخذ يطعمه شيئا فشيئا حتى غذَّاه وأشبعه، فلما انصرف، فقيل له: يا ربيع فعلت فعلا لا ندري وجهه؟ قال: ما فعلت؟ قالوا: فعلت إذ أطعمت هذا، وهو لا يعرفك، ألم تكتفِ أن أعطيته أهله فأطعموه؟ قال: لكن الله جل جلاله يعلمه.
وكم من آثار للسلف في هذا الباب فقد رعى بعض السلف حال أولاد أخ له يعني صاحب له رعى أحوال أهله وأحوال ولده أربعين سنة حتى توفي، قالوا فكأننا لم نفقد أبانا كأنهم ما فقدوا أباهم لشدة ما حصل لهم من البذل في ذلك. شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ذُكر عنه أنه لما مات بعض المشايخ الذين كانوا يعادونه، كان يسعى في حاجة أهله، في حاجة صغاره، ذلك أنه وإن عاداه فثَم حق للأخوة خاص؛ حق لعقد الإسلام، وهؤلاء المساكين من لهم؟ لهم الذي تخلص من شهوة نفسه، وتخلص من الانتصار لنفسه فبذل لهم، وكان يتعاهد أبناء وأهل أعدائه الذين عادَوه وسعوا به، إلى آخر ذلك، وهذا لاشك من امتثال الشرع، وجعل الشرع فوق هوى النفس، وفوق مُرادات النفس، هذا كله يحصل وربما وُفّق إليه الكثير.
وهناك مرتبة من المراتب يُحث عليها وهي أن كثيرين قد يبذلون، وقد يكون له مع إخوانه مواقف حسنة ومواقف طيبة، لكنه يرى أن له فضلا بعد الإعانة، يرى أن له فضلا أن قَدَّم له، يرى أن له فضلا أن أعانه بمال، أن أعانه بجاه، أن أعانه ببذل، وحقيقة العبودية التامة، أن يكون المؤمن الذي بذل وأعطى شاكرا لله جل جلاله، أن جعله سببا من أسباب الخير، التي ساق الخير على يديها، فإن الله جل جلاله يستعمل بعض عباده في الخيرات، ومن الناس من عباد الله من هو مفتاح للخير مِغلاق للشر، فالعبد إذا أعان أخاه وإذا أعطاه وإذا بذل نفسه, إذا بذل جاهه له فإنه لا يستحب له، بل إنه ليس بمحمود في حقه، ولا هو من مكارم الأخلاق، أن ينتظر الثناء، وأن يُصبح يذل ويمنُّ بهذا الذي عمله، فإن حقيقة الإخلاص والمحبة وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، أن يعامله لأجل أمر الله جل وعلا بذلك، فينتظر الأجر والثواب من الله جل جلاله.