أباء وأبناء - (2-3)

منذ 2014-09-01

إن نوحاً لما رأى أن ولده هذا مات على الكفر والشرك، ومات على الضلالة غير الهدى، ولما رأى أن ولده هذا مات وخرج من هذه الدنيا وهو على الشرك بالله تعالى، كانت له ولمن بعده عبرة، إن هذه القصة تعطينا مسألة وتعطينا دلالة مهمة جدًا، يجب أن نقف عندها..

إن نوحاً لما رأى أن ولده هذا مات على الكفر والشرك، ومات على الضلالة غير الهدى، ولما رأى أن ولده هذا مات وخرج من هذه الدنيا وهو على الشرك بالله تعالى، كانت له ولمن بعده عبرة، إن هذه القصة تعطينا مسألة وتعطينا دلالة مهمة جدًا، يجب أن نقف عندها، هل رابطة النسب تفيد؟ هل رابطة القرابة تفيد؟ هل رابطة القومية أو رابطة الأرض تفيد؟ أو رابطة اللغة أو غيرها من الروابط هل تفيد أحدًا؟ لو كانت تفيد لأفادت هؤلاء! لكن لما اختلفت العقيدة وتباينت هذه الروابط جميعًا، وأصبح الذي يؤلف ويجمع بين الناس إنما هي كلمة لا إله إلا الله، هي التي تجمع بينهم أما الروابط الأخرى، من اللغة والدم والنسب، أو الوطن أو غير ذالك، فإنها روابط مؤقتة، وأنها ليست عند الله بشيء أبدًا..
   
والله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. ويقول تبارك وتعالى: {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة:3]، ويقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23].

وهكذا نرى في قصة نوح عليه الصلاة والسلام وابنه حرص الأب على هداية ابنه الحرص الشديد، ولكنه لما تبين له أنه على الضلال تبرأ منه، واعتبره ليس من أهله، وأنه ليس إلا عمل غير الصالح كما أخبر الله تعالى في كتابه العزيز، ونقف عند نموذج آخر أخبرنا الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز، هذا النموذج في قصة إبراهيم مع أبيه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:74]، ويقول تبارك وتعالى مبينًا كيف دعا إبراهيم عليه السلام أباه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:41-45].

وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام طويلة جدًا ومعروفة، وقد كسر الأصنام، ولما كسر الأصنام وعلم بذالك قومه، فجمعوا الناس، وكان في ذلك منهج لإبراهيم عليه السلام أن يتحداهم بكسر الأصنام، حتى أدي بهم هذا الأمر أن يجمعوا الناس أمام الملأ، ولما جمعوا الناس ليحاسبوا إبراهيم عليه السلام فضحوا: {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62-63].

وموسى عليه السلام لما دعا قوم فرعون: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59].
كي يشاهد الناس، والغلام الذي قص علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قصته، لما أن عجز الملك عن قتله قال له هل تريد قتلي؟ قال نعم، قال لا يكون هذا إلا أن تجمع الناس، وجمع الناس وقال باسم رب هذا الغلام، وأطلق السهم على الغلام فمات الغلام، وصاح الناس جميعًا آمنا برب الغلام، وهذا منهج وأسلوب للدعاة إلى لله سبحانه وتعالى، ولقد كان إبراهيم عليه السلام حريصاً شديد الحرص على دعوة قومه، فقد بدأ دعوته بدعوة أبيه، وكان أبوه اسمه آزر، وقيل إنه كان يصنع الأصنام ويبيعها للناس.

وإبراهيم عليه الصلاة والسلام دعا أباه آزر بعبارة اللطف، منادياً له قائلاً: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم:42]، أسلوب رقيق لطيف من إبراهيم لأبيه، ثم يأتي ويقول له: "إنني ابنك وأنا أصغر منك، ولكني قد جاءني من العلم ما لم يأتيك، إنني رسول من الله تبارك وتعالى، إنني قد جاءني من العلم ما لم يأتيك فاتبعني أهديك الصراط المستقيم"، ويحاول ويقول لأبيه: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم44:]، أن هذه الأصنام عبادتها عبادة للشيطان، وأن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبتي إني أخاف عليك عذاب يوم القيامة، {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:45]، وبهذه الأساليب الرقيقة، وبهذه الأساليب العلمية المقنعة، يدعوا إبراهيم أباه، يدعوه إلى الإسلام، ولكن كيف يكون الجواب؟ كيف يكون جواب الأب لإبراهيم، كان جواباً قاسياً: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46].

أي أتارك أنت عبادتها، لئن لم تنتهي عن سب أصنامي وأوثاني التي أعبدها ويعبدها الناس من دون الله لأرجمنك بالحجارة أو بالسباب، أو بالشتم، واهجرني مليًا، يقول آزر لابنه: اهجرني زمناً طويلاً ولا تتعرض إلي، وقال ابن جرير الطبري: "اهجرني سالماً قبل أن تصبك عقوبتي"، ولقد جاء جواب إبراهيم لأبيه من غير غضب لم يفقد صوابه، لم يفقد أدبه مع أبيه، وإنما قال له: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47]، وهذه طريقة المؤمنين: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان:63]، {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].

إبراهيم عليه السلام يقول مجيباً لأبيه سلام عليك، أما أنا فلا أنال منك مكروه ولا أذى، وسأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيًا، أي كان بي لطيفاً ورحيمًا، وقيل: "أي عودني أن يجيب دعوتي"، وسأل إبراهيم ربه بأن يغفر لأبيه، واستمر بعد ذالك مدة طويلة حتى بعد فراق قومه وفراقه لشام، ومجيئه إلى مكة وبنائه للبيت الحرام، فإن الله تبارك وتعالى أخبر عن إبراهيم أنه دعا بعد بنائه البيت قائلاً: قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم:36].

ثم يقول الله تبارك وتعالى بعد ذالك أنه دعا فقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]، إلى هذا الوقت وهو يدعو الله ليغفر لأبيه، وأن يدله على الهداية، وأن يجعله من عباده المؤمنين، وهذا يدل على عظم شفقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وحرصه على هداية أبيه، ولقد كان هذا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج أصحابه من بعده، رسول الله صلى الله عليه وسلم حرص على هداية أقرب المقربين إليه، دعا أعمامه ودعا أقاربه، دعاهم إلى الهداية، وحرص على هداية عمه أبي طالب حتى قبيل وفاته، لكن كما قال الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].

والصحابة رضي الله عنهم كان الواحد منهم لما يدخل الإسلام يذهب إلى أهل بيته ويدعوهم إلى الإسلام، يدعو أباه ويدعو ابنه ويدعو زوجه، يريد لهم الهداية، يدعوهم إلى النجاة يوم القيامة، وأبو هريرة الصحابي الجليل المكثر من الحديث رضي الله عنه وأرضاه، راوي الحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر الصحابة حديثًا، أسلم سنة سبع للهجرة، ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولازم أصحابه ملازمة الظل لظله حتى دعا الرسول صلى الله عليه وسلم له بالحفظ، كان يحفظ ولا ينسى..

أبو هريرة الذي دعا أمه للهداية، أبو هريرة الذي حفظ عنه مائة حديث حدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصوروا كيف تكون دعوته لأمه، ولكنها أبت وأبت أن تدخل معه في الإسلام، وأبو هريرة يحاول معها ليلاً ونهاراً، ولكنها رفضت أن تدخل في الإسلام، ولما يئس هذا الصحابي الجليل وهو يعلم أن الهداية بإذن الله، وهو يعلم أن الهداية بيد الله، ولو كانت بيد أحد لهدى الرسول صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب، يعلم ذالك ولكنه لا ييأس، ولما بلغ به الأمر منتهاه ودعا أمه في أحد الأيام، ولكنها رفضت رفضاً قاطعاً أن تدخل في الإسلام، أصابه حزن عميق، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله إني دعوت أمي إلى الإسلام فلم تستجب لي، فادعو الله كي يهدي أمي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهدي أم أبي هريرة»" (صحيح مسلم:2491).

فرجع أبو هريرة آمناً بهذا الدعاء، آمناً أن يستجيب الله لرسوله، ذهب يحاول مع أمه يوماً أو يومين، أو شهراً أو شهرين، أو سنةً أو سنتين، لعلها تبلغها هذه الدعوة المباركة، وذهب إلى أمه ولما أراد أن يدخل إلى بيته وجد الباب مغلقًا، ففتح الباب، فلما فتح الباب سمع خضخضة الماء، فقالت له أمه: "دونك انتظر قليلاً، فلما انتظر قليلاً، وإذا به يرى أمه قد اغتسلت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فاستجاب الله لدعائه"، استجاب الله دعاءه، فرضي الله عن الصحابة أجمعين، وألحقنا بهم أمين يا رب العالمين. 

المصدر: موقع الشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود

عبد الرحمن بن صالح المحمود

أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقا.

  • 0
  • 0
  • 5,824
المقال السابق
(1-3)
المقال التالي
(3-3)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً